"صلصال أميركي" مجموعة قصصية تطرق أبواب الواقعية والتجريب

مجموعة ناجي الخشناوي القصصية تطلّ علينا المجموعة بغلاف أنيق وعنوان ملفت للنظر.
استدراج اهتمام المتلقى نحو الذات الساردة المتشعبّة في منعطفات الصوت الساخر
أحداث القصص تدور حول شخصيّات مُبهمة وغير معروفة

صدرت حديثا عن دار ميارة للنشر والتوزيع المجموعة القصصية "صلصال أمريكي" للكاتب والاعلامي التونسي ناجي الخشناوي، وتضمّ 13 قصة قصيرة موزعة على 120 صفحة. تطلّ علينا المجموعة بغلاف أنيق وعنوان ملفت للنظر، ليتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى، أن الكاتب يطوّع الصلصال بين أصابعه لتشكيل مجمل قصصه، ضمن حركيّة تسلسل الطرح وجذب الإمكانات والاحتمالات المتعددة في تفعيل استراتيجية خاصّة داخل مسار السرد ودائرة الحبكة ولعبة التخييل.
أما الأسلوب الغالب في القصص فهي الأحداث التي تدور حول شخصيّات مُبهمة وغير معروفة، فهي تخلو من الأسماء، وكأنّ الكاتب يمرّر ترجمته الذاتية أو يُملي يوميّات تتراوح بين الواقع والخيال، وهي نقطة مهمّة لاستدراج اهتمام المتلقى نحو الذات الساردة المتشعبّة في منعطفات الصوت الساخر والثائر على مستوى إخباري ورمزي والرسائل الضمنيّة التي يختزلها.
لقد اقترنت المواضيع بالتحوّل الذي عرفه المجتمع التونسي سواء كان اقتصاديا أو اجتماعيا، لكنه متصل بالوضع السياسي بدرجة أولى، ويؤسس لمساءلة ايديولوجية من حيث الأزمات التي تعانيها الشعوب العربية ككلّ، في ظلّ غطرسة أميركية أدّت إلى التهميش والحروب.
وبعمق صريح الرؤية يقول: "ألقيت بصري نحو تلك الأشكال المختلفة ذات الألوان الزاهية، دبابات وطائرات وصواريخ وقنابل يدوية ومدافع وأحذية جنود وخوذات عسكرية وبوارج حربية ومكبرّات صوت، وجثث آدمية أيضا، شكلتها البنت بالصلصال الأميركي المرن". 

الثيمة المحورية لهذا المنجز السردي تنهض على المقدرة في صنع الخيال والمعالجة الذهنية لعدّة مشاهد مقتنصة من الواقع

وإن شئنا القول، يرفع الكاتب الستارة عن واجهات متعددة شبيهة بمسرح الحياة أو بمعنى آخر يجسد تلك الواقعية مع البنية السردية المتغلغلة في تجاويف النصّ لتصوير المشهد في ذهن المتلقي.
إن الولوج في الأبعاد الفلسفية والوجودية لمختلف النصوص يقودنا إلى مفارقات جوهرية، لندرك تلك النماذج الإنسانية التي صيغت بطريقة سلسلة ولغة جميلة مع اختزال لكينونة الفكرة في ضوء الراهن المعيش أغلب الوقت.
لقد تبلورت منهجية السرد المتخيل كنقد لاذع قائم على أحداث حاصلة بالمجتمع، كما ابتكر الكاتب أنماطا عديدة مثل المنطق التحويلي نحو فكرة ما، بالاشتغال على نمط تجرييبي تارة ونمط واقعي تارة أخرى، دون أن يقع في فخّ التكرار أو الفكرة المطلقة.
حينما تقرأ قصص ناجي الخشناوي، يعلو صوته بجرأة وربما يطوّقك الذعر أكثر من مرّة، لحكمة قد ارتآها في تلقينك مشهد سريالي أو حدث صادم، لا يقيك من شرور اللحظة ومتاهتها، رغم ذلك المتسّع لأبنية رمزية وأحيانا مباشرة من خلال المصطلحات الجريئة والمسنودة على مناخ غير مركّب بل منفتح على مستوى الدلالة.
لقد استنطق الكاتب مختلف الظواهر بطريقة الكاريكاتير أحيانا، وبكلّ ما لزم من أدوات وتقنيات سردية وظّفها بحرفيّة. وفي هذا الصدد يستوقفني ما ختم به في قصة "الرجل الأصفر":
"في الحقيقة أنا لست كاتب قصص، أو صانع خيالات روائية لأنقذ الرجل الأصفر من هذه الوضعية. هذه مهمّة ـكبر من روبوت مثلي، لا حول له ولا قوّة. إن أقصى ما يمكنني فعله الآن هو أن أعثر على آلة التحكم عن بعد وأهمس لكاتب القصص هذا :
ـ سيدي يمكنك إنهاء هذه القصة الآن. 
إنه يتعالى عن حجّة العقل بحركة رشيقة ضمن قالب أدبي استفهامي وإنكاري، لإيجاد أساليب فنيّة، ومن خلال آليات التجاوز للمنطق وخلق حركة مغايرة في السرد الحداثي، وأحيانا بصياغة نصوص قصيرة جدا في صلب القصة الواحدة مثلما ورد في "أعواد ثقاب مبتلة" ليظهر الفكرة المراد تناولها في كل مقطع سردي بطريقة مستجدّة.
ويذكر أن هذا المنجز السردي طرح خطاباته الرمزية والتعبيرية بكل حرية وجرأة، وهذا ما يشكل تحوّلا فكريا وأدبيا، بصيغة المكاشفة المعلنة عن عدة قضايا منها العلاقات الزوجية، الفساد السياسي، النزعة الاسهلاكية، وعدّة مضامين أخرى كالموت والدمار والوهم...الخ.
 والمؤكد أنها محفوفة برسائل صحفي وكاتب استطاع تشكيل أفكاره برهانات التعبير ولغة مقصودة ومستفزّة مع احترافية عالية في طرح مختلف المفاهيم والحقائق. 

short stoty
من الصعب رسم حدّ بين السرد والحدث الدرامي

إنها حوارات ذاتية برمزيّة لامتناهية، حيث تنوعت الألوان الدرامية فجنحت نحو إيقاعات إيحائية تعزّز التدفّق التجريبي بقوّة المشهد، بين المضحك والمُبكي والهزلي. فهي نصوص سردية لا تخلو من المأساة في قالب من السخرية، كأنها ديباجة سرياليّة تخرج من مخيّلة الكاتب لتنتصب فوق المنصة مع المؤثرات الخاصة مثل الألوان والأحجام وحتى الأشياء حين تلتحم ببنية السرد وهذا تحديدا يتجلّى في قصة "لا أحد منكم شاهد الجحيم" فتغدو آلة الرحى متحرّرة من كينونتها، ليزجّ بها الكاتب إلى المنصة وهو يصفها كالآتي: "يتحول صوت آلة الرحى داخل أذنيه إلى ما يشبه الصراخ والعويل والنديب. كأنه وسط جنازة مهيبة يختلط فيها نشيج الرجال بعويل النساء، وتعج فيها دموع الصغار بصرخاتهم الحادّة ومخاطهم الرغوي...". 
لقد أضاف للنص السردي حركيّة أو بالأحرى "سينوغرافية" التقطت شتّى التعبيرات والإيماءات لعرض تلك الذوات الإنسانية، خصوصا في القصة الاخيرة "مستعمرة النمل"، حين يطلق العنان للتخيّل في المشهد الذي تدّرج من السرد إلى مساحة أرحب معتمدا على جغرافيا المكان من خلال رمزيته كمسرحية تستقل المضمون أو المحتوى العميق لجوهر الشخصية الرئيسية بدءا بالرقم 86 المرسوم على ورقة صغيرة وهو العدد الرتبي لامرأة عجوز تنتظر دورها أمام شباك إداري، لكن فاتها العدد و طُلب منها اقتطاع رقم جديد، فتتحوّل في حجم نملة تسري فوق الأرض وتكابد سخطها الداخلي لتكتشف أنها تنتمي إلى جيش كامل من النمل وفق نظام اجتماعي تمّ تأسيسه للغرض.
إنها إثارة لذهن المتلقي ليفتش عن ذاته وسط عالم متخبط من حوله، فيطرح تساؤلاته وإهمها "هل فعلا نشبه النمل في رقعة الوطن؟".
إن الثيمة المحورية لهذا المنجز السردي تنهض على المقدرة في صنع الخيال والمعالجة الذهنية لعدّة مشاهد مقتنصة من الواقع، وهذا ما يميز النص الأدبي الحديث، القريب من العرض، والذي يتمّ تقسيمه إلى مشاهد وفصول أو لوحات، لكن من الصعب رسم حدّ بين السرد والحدث الدرامي كضرورة عمليّة لنمط تجريبي قائم في بناء حبكته، على عنصر الكاريكاتير وإعادة إنتاج المعنى وفق رؤى جديدة ومتنوعة تؤمن بالانفتاح في طرح جوهر التغيير.