'المرأة البغي' يشرّح أقدم ظاهرة في التاريخ

الهدف الأساسي من دراسة الدكتور محمود شمال حسن هو تناول اهم الخصائص النفسية للبغي والأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي دفعتها لاحتراف الدعارة.

هناك ظواهر منتشرة وسائدة في المجتمع رافقت تجمعات البشرية على امتداد التاريخ لكن ربما قد لايتم تسليط الأضواء على كل ما يصادفه الإنسان في بيئته وفي فضائه الاجتماعي وهذا لا يعني أن تجاهل الظواهر والتصرفات آلية ناجعة لفهمها وتشريح جذورها وتحليل أسبابها واانما الأحرى بالباحثين والدارسين في مجال العلوم الإنسانية أن يتبعوا منهجاً علمياً لدراسة الظواهر ويتم البحث عن نشأتها تحت المجهر بدلاً من اتباع سياسة دفن الرأس في الرمال لأن ذلك يخلف عاهات ويعمق الجرح، وما قدمه الأستاذ الدكتور محمود شمال حسن في كتابه "المرأة البغي" (خصائصها النفسية والأسباب التي دفعتها إلى احتراف البغاء) الصادر عن دار عدنان سنة 2015، من أهم الموضوعات التي تحتاج دراسة علمية، ما الذي يدفع بالمرأة الى المتاجرة بجسدها؟ وهل تتمتع البغي بخصائٔص نفسية معينة تدفعها باتجاه هذا الفعل.

للبغاء تعاريف كثيرة لا تخرج عن سياق مبدأ المنفعة إذ تشير بعض التعريفات، إن البغاء هو عملية اتصال جنسي بين رجل وامرأة تحدث في العادة خارج نطاق العلاقات الزوجية، تستهدف بالأساس، إشباع الحاجة الجنسية للرجل، في مقابل ذلك، إشباع الحاجة الاقتصادية للمرأة، وهذه العملية تخلو من المشاعر العاطفية واان الطرفين يعمدان إلى ممارستها دون تمييز.

تشير الدراسة إلى أن البغاء ظاهرة اجتماعية عامة تحدث في جميع المجتمعات البشرية كافة وتكاد تجمع الدراسات أن أسبابها اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأساس، والهدف الأساسي من هذه الدراسة هو تناول اهم الخصائص النفسية للمرأة البغي والأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي دفعتها لاحتراف البغاء.

ولتحقيق أهداف الدراسة، اعتمد الباحث على استمارة المسح الاجتماعي واختبار ساكس لتكملة الجمل. وقد اختيرت عينة البحث الحالي من النساء البغايا اللواتي صدرت بحقهن احكام قضائية بسبب ممارستهن البغاء، ولقد بلغت العينة 50 بغياً، اختيرت بالطريقة العمدية.

موقف المرأة بين الالتزام بالقواعد الخلقية ومجاراة الإغراءات الموقفية.

أن انخفاض مستوى الحكم الخلقي للمرأة، سيجعلها أكثر تقبلاً لفكرة البغاء، ومما يزيد من تقبل هذه الفكرة، أن الضوابط الخلقية لديها، لم ترسخ أو تثبت بعد، وهذا يرجع إلى أنها لم تستدخل هذه الضوابط إلى نسقها القيمي عبر قنوات التنشئة، وهو الأمر الذي جعل احكامها غير متسقة مع سلوكها، وعبر المواقف التي تتعرض لها، فضلاً عن غياب هذا الأتساق عبر تقدمها في العمر.

اهم الأسباب التي تدفع بالنساء لاحتراف البغاء حسب ما اشارت إليه الوقائٔع الميدانية.

من أهم الأسباب التي تدفع بالمرأة الى ولوج عالم البغاء هي الأسباب النفسية مثل طبيعة التنشئٔة الأبوية التي اتبعت مع المرأة منذ طفولتها فلقد وجد ان البيئة الاجتماعية التي تعمد الى منع الطفل وخصوصاً الانثى من التعبير عن مشاعرها مع اتباع اساليب الأكراه وذلك لأجبارها على الالتزام بالتقاليد الاجتماعية السائٔدة ومن المعروف أن اي كبت للمشاعر يولد حالة من ردات الفعل، ففي حال انتقال الأنثى الى بيئة اقل تشدداً من الأولى قد تتشجع على المخالفات الخلقية البسيطة ثم تتطور بمرور الوقت الى مخالفات خطيرة، كذلك ان مشاهدة الطفلة لعملية الأتصال الجنسي بين الأم والأب او أحد الأخوات او النساء الأخريات سواء حدثت بالمصادفة او بطريقة مقصودة، قد تدفع بالطفلة الى تفحص جسدها في محاولة منها لمعرفة اسراره وقد يدفعها هذا الى تجريب عملية الأتصال الجنسي مع طفل في عمرها وهو الأمر الذي يفضي الى تقليل حساسيتها تجاه الآخر المختلف عنها جنسياً، ومع تقدمها في العمر ستجد الفة في الاختلاء بالآخر مما يشجعها على الاستمرار في العلاقات الغير شرعية.

إضافةً الى انخفاض مستوى الألتزام الديني، إذ تشير الدراسة الميدانية إلى أن المرأة التي تتمتع بمستوى منخفض من الالتزام الديني، من المتوقع أن تنخفض قدرتها على مقاومة إغراءات الموقف.

وفي هذا الصدد تشير الدراسة الميدانية الى ان الكثير من الفتيات اللواتي تعرضن إلى الاغتصاب احترفن البغاء فمن المعروف أن تعرض المرأة الى الأغتصاب يضعف نصيبها في الزواج إلى درجة كبيرة في مجتمع أصبح فيه (غسل العار) عقاباً مناسباً للمرأة التي تنتهك قاعدة الشرف، مما يدفعها للهروب إلى مكان لايعرفها فيه احد ولعل الإقامة في إحدى دور البغاء او مكان آخر، يكاد يكون شبيهاً له في الخصائٔص يعد أحد الأساليب التعامل مع الأزمات الشخصية من هذا النوع وستعمد بمرور الوقت لإتقان طرق البغاء والحيل مع طالبي المتعة، للحصول على المزيد من المنافع الشخصية.

وبالمرور على الأسباب الاجتماعية، تشير الدراسات ان التفكك الأسري يعد أحد أهم الأسباب التي تدفع بالمرأة إلى احتراف البغاء مثل زيادة اجواء الخلافات بين الأبوين او وفاة الأب او الأم وتعدد الزوجات الذي يجعل من الأب غير قادر عن الإيفاء بالتزاماته الأسرية او الأبوية تحديداً، كل هذه الظروف تؤدي في طبيعة الحال إلى فقدان السند العاطفي، ويجعلها تعيش حالة من الضياع.

تولي النساء مسؤولية إعالة الأسرة

ان غياب ارباب الأسر لأسباب تتعلق بالوفاة او الطلاق او الفقدان او العوق، زاد من الفقر والحرمان في أوضاع تشهد تصاعداً في تكاليف المعيشة، وهو الأمر الذي دفع بعدد غير قليل من النساء الى تولي مسؤولية الإعالة في أسرهن. واستناداً الى المسح الميداني لوزارة التخطيط في عام 2004 تبين أن 11% من مجموع الأسر العراقية، تتولى النساء مسؤولية الإعالة.

وهنا نصل إلى مسألة لابد من الإشارة إليها وهي، أن الأوضاع المرتبطة بالإعالة الأسرية، قد ارهقت الكثير من النساء الى جانب الضغوط الحياتية، وهو الأمر الذي دفع عدداً منهن إلى دخول عالم البغاء على ان النساء اللواتي دخلن هذا العالم، كن يتمتعن بخلفية اجتماعية وخصائٔص شخصية، تؤهلهن لتقبل انتهاك الآخرين لأجسادهن بسهولة ويسر.

وتشير الوقائع الميدانية الى ان تعرض المجتمع العراقي إلى عدد من الأزمات أدى إلى إضعاف شبكة الأمان الاجتماعي، التي كانت ترعى فئة المسنين والارامل والايتام والمعوقين برواتب شهرية وخاصة الأسر التي تقودها النساء فقد اخذت تعاني من ضنك العيش مما اضطرها الى البحث عن عدد من الأساليب التي تساعدها على مواجهة تكاليف المعيشة، على ان بعض النساء في هذه الأسر، ممن يتمتعن باستعداد لانتهاك أنفسهن وجدن في العمل الجنسي الوسيلة المناسبة التي تساعدهن في التغلب على تكاليف المعيشة.

ويقودنا الحديث عن تكاليف المعيشة الى الأسباب الأقتصادية ومنها انتشار معدلات الفقر في عموم المجتمع، قد نجم عنه جملة من الآثار النفسية، وكان البغاء احد تلك الآثار.

كذلك اضطرار بعض الأسر إلى السكن مع أسر أخرى في وحدة سكنية واحدة، بسبب ضعف مورودها الأقتصادي إذ تشير نتئٔج المسح الاقتصادي والاجتماعي لعام 2008 أن (11٪؜) من السكان في العراق يسكنون في وحدات سكنية تشتمل على ثلاث أسر أو أكثر، وما يعنينا هنا ان التكدس في غرفة واحدة سيجعل الأطفال يشاهدون الفعل الجنسي الحادث بين الأبوين وان مشاهدة الفعل الجنسي، وبصورة متكررة، ستعمد إلى تكوين عادات سلوكية، تنطوي على تفضيل الموضوع الجنسي، إضافة الى التواصل اللفظي بين النساء نتيجة ارتفاع الكثافة السكانية في المنطقة السكنية قد يؤدي الى الاختلاط بالنساء اللواتي يحترفن البغاء.

وبعد سحب عينة البحث الحالي من النساء اللواتي صدرت بحقهن أحكاماً قانونية وذلك لممارستهن البغاء وقد اودعن في سجن النساء، و اعتماد إجراء استمارة المسح الاجتماعي التي كان الهدف منها هو الحصول على معلومات شخصية واجتماعية واقتصادية تخص النساء اللواتي مارسن البغاء واجراء أاختبار ساكس لتكملة الجمل اظهرت النتائج، أن عالم البغاء يضم بين ظهرانيه المرأة المتزوجة والمطلقة والأرملة وفي حالات قليلة جداً المرأة غير المتزوجة، كما أظهرت أن غالبية النساء البغايا من ربات البيوت والقلة القليلة منهن تحترف مهنياً تكاد تكون غير مقبولة في المجتمع.

كذلك أظهرت النتائٔج أيضاً ان النساء البغايا يعانين من الفقر والحرمان، ومن وضع اسري يتسم بالتفكك، كما يعانين من مستوى ثقافي منخفض. واظهرت ان اتجاه المرأة البغي يتسم بالسلب إزاء أبيها وبنات جنسها، وانها تعاني من مخاوف عديدة تتصل بالبغاء والبيئة الااجتماعية التي تعيش بين ظهرانيه. وأنها تعاني كذلك، من الشعور بالذنب، نتيجة اقترافها أخطاء عديدة في الحياة.

أن موضوع البغاء من المواضيع الحساسة التي يصعب الخوض فيها بالنسبة إلى طبيعة المجتمع العراقي المحافظة، وقد عمد الباحث الى دراسة كل الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية مستعيناً بالتجارب الميدانية لنساء بغايا تم اختيارهن من سجن النساء بطريقة عمدية اي دون ان يكون للباحث يد في اختيارهن، وبعد توضيح جميع الأسباب التي تدفع بالمرأة الى المتاجرة بجسدها، نأمل أن يشجع هذا البحث الدارسين في مجال العلوم الإنسانية على ان يتم تسليط الضوء على دراسة هذه الظاهرة دراسة علمية والبحث عن حلول لها.