المرفأ فجرنا

جـمعنا مرفأ بيروت ولم تجمعنا الدولة اللبنانية، بل فرقتنا وقهرتنا وأذلتنا وتواطأت علينا.
الشعب اللبناني يتضامن في المآسي ويختلف في الأيام العادية

اليوم ليس يوما جديدا. منذ انفجار المرفأ كل أيام السنة 4 آب/اغسطس. لا اسم لها آخر. لا أشهرا ولا أسابيع ولا أياما. اكتفت بهنيهة الانفجار. كانت الهنيهة دهرا. بعدها لم تتوال الأيام. خجلت أن تطل فتنتحر فوق جثامين الشهداء. سنة 4 آب ما عاد سكان لبنان أربعة ملايين نسمة، بل مئتي شهيد وستة آلاف جريح. سنة 4 آب ما عادت مساحة لبنان عشرة آلاف وأربعمائة واثنين وخمسين كلم²، بل مدى العالم والفضاء. شخصت الشعوب نحونا. رأت انفجارا وسمعت دخانا يرشدها إلى "المغارة"، حيث ولد الشهداء الجدد.

أتوا جميعا يسجدون أمام المرفأ وبيروت والشهداء باستثناء أركان الدولة اللبنانية (أو غير اللبنانية). سنة "4 آب" كان إيمانويل ماكرون رئيس جمهورية لبنان. وكانت حكومات الدول العربية والأجنبية حكومة لبنان. وكان البطريرك بشارة الراعي رمز الموقف الوطني. وكان البابا فرنسيس محرك الديبلوماسية الدولية. يومها برز التضامن بين اللبنانيين. عزفوا على وتر كئيب واحد. كل بيت شعر أن الانفجار في الدار. كل لبناني أحس أنه مصاب. بدا تبادل التعازي بين الناس حرفا زائدا وكلمة جوفاء ورديف صلاة. أما المسؤولون، فاعتبروا أن تعازيهم عبر شاشات التلفزيون إنجاز عظيم يغني عن العدالة والحقيقة وتأليف حكومة، وعن... رحيلهم الآتي. قالها البطريرك الراعي للجموع أمس: "حافظوا على الوطن وغيروا الباقي..."

في الرابع من آب أصبحت قلوبنا صوامع فيها خزنا دموعنا، وأحواضا فيها رست أحزاننا، وسفنا فيها أبحرت أحلامنا، وأشرعة تتمايل بمآسينا، ومراسي تربطنا بشواطئنا. كانت العيون زائغة تنظر ولا ترى، والآذان مذهولة تسمع ولا تصغي، والعقول تائهة تفكر ولا تستوعب. صارت حركتنا بطيئة. جاورت الجمود. وكان الانفجار يتكرر في أحشائنا كأن المجرم يمثل جريمته. لم أكن في المرفأ يوم 4 آب، لكن المرفأ رسا في منذ ذلك اليوم. صار جزءا من كياني وهويتي وضميري. منذ سنة وأنا أعيش اللحظات المأسوية. لا صوت التفجير، ولا لون النار، ولا سواد اللهيب، ولا صراخ المصابين، ولا أرواح الضحايا بارحت عيوني والقلب والمخيلة.

أمس كنا نصلي أمام بحر صدرنا عبره الحرف والحضارة، وتجاه جبل حفظ الاستقلال والكرامة، وعلى شاطئ عاصمة هزمت الـمحن والزلازل والاحتلال والوصاية. كنا نناجي من راحوا ونعد من بقوا. سيبقى المرفأ مرفأنا. وحذار أن أحد يستغل الدمار لينقل المرفأ من بيروت. سيبقى المرفأ حيث هو ينافس جميع مرافئ المتوسط. سيعاد بناؤه أحلى من قبل. لا بيروت دون مرفئها. هو دمغتها التاريخية قبل أي دمغة حديثة. أهل بيروت تعودوا على مداه واستأنسوا بهدير البواخر وصافراتها. منظر المرفأ مزروع في الذاكرة قبل العيون.

جـمعنا المرفأ ولم تجمعنا الدولة، بل فرقتنا وقهرتنا وأذلتنا وتواطأت علينا. لكن التضامن العاطفي لم يثمر فعلا وحدويا ووطنيا، بدليل تشابه السلوك الجماعي السياسي بين ما قبل وما بعد الانفجار على صعيدي الطبقة السياسية والحراك الشعبي. الطبقة السياسية واظبت على إدارة مصالحها، وحساباتها الصغيرة، وترسيخ فسادها، وسوء خياراتها، وتعطيل جميع مبادرات الإنقاذ اللبنانية والعربية والدولية. أما الحراك الشعبي فانتظم في انقساماته جماعات وجبهات، وأنشأ أشباه أحزاب. نخب من دون قواعد، وقواعد من دون قادة. لا قيمة للغضب ما لم يوظف في ثورة. ولا قيمة للثورة ما لم تتوحد وتستمر. ولا قيمة للمطالب ما لم تتحول إرادة. ولا قيمة للرفض ما لم يؤد إلى تغيير.

ما هذا الشعب الذي يتضامن في المآسي ويختلف في الأيام العادية؟ وما هذا الشعب ـــ أي شعب ـــ الذي يحول العرس مأتـما، والمأتم مجزرة كما جرى في خلدة؟ وما هذه الفئات المفتنة التي أرسلت لتعكير ذكرى شهداء المرفأ؟

بقدر ما جمعنا انفجار المرفأ عاطفيا وإنسانيا، تعزز الشك في مدى فائدة بقائنا رهينة صيغة لم يرتفع البعض منا إلى مستواها الحضاري. تعاهدنا، بعد طول مخاض، على الشراكة الوطنية في دولة لبنان الكبير. وربطنا هذه الشراكة بهوية ودور خاصين، بدولة مدنية، بنظام ديمقراطي وميثاق، بعلاقات ديبلوماسية تعطي الأولوية للعرب والغرب والعالم الحر عموما مع الحفاظ على الحياد السياسي والعسكري. واتبعنا نمط حياة لبنانيا في إطار التعددية. وإذ بنا، في غفلة من الزمن، نعيش في غير هذه الدولة وفي غير هذا اللبنان ونحتاج إلى وسيط خارجي دائم ليقرب بيننا، وغالبا ما يكون هو الذي فرقنا.

هذا التطور التراجعي، ينقض أسس عقد الوحدة والشراكة، حتى أصبح المؤمنون بلبنان الكبير في موقع دفاعي. جزء من اللبنانيين أنشأ دولة أخرى متكاملة العناصر والمؤسسات، ومجتمعا مختلفا ونظاما، والتزم نمط عيش خاصا به من دون استئذان. وجزء آخر يضطـر اليوم إلى أن يستجمع مشروع لبنان التاريخي وخصائصه في جغرافيا آمنة يبحث عنها في الدساتير الفدرالية. ما كان التراجع الكياني ليصل إلى هذا المفترق لو تحرر رئيس الجمهورية من ارتباطاته، والتقى مع خيارات البطريرك الماروني وطروحاته التي لاقت تأييد غالبية اللبنانيين المسلمين والمسيحيين والدروز. نريد لبنان دولة طبيعية لا ثكنة دائمة.

وإذا تعمقنا أكثر، نكتشف أن لبنان الغلط، المنتحل صفة لبنان الأصيل، هو المسؤول الحقيقي عن انفجار المرفأ، وعن جميع نكباتنا وأزماتنا، وعن انهيار اقتصادنا وعملتنا وجامعاتنا ومؤسساتنا العامة والخاصة. فالمجتمع الذي يفقد نظام السيطرة على وجوده يصبح حكما عرضة لكل الأخطار. وبالتالي، إن اكتشاف الـمحرض والـمسبب لا يحتاج تحقيقا لبنانيا أو دوليا، بل قراءة سياسية. هناك جو عام موبوء في البلاد يسبب بتفجير أي شيء، حتى من دون فاعل مباشر.

لكن، من الآن وصاعدا، لا ندري أي يوم نستفيق فيه على خبر أمني أو عسكري في لبنان والمنطقة. في لبنان، التسويات انتهت والسكوت على الأمر الواقع الشرعي وغير الشرعي بات متعذرا. وفي المنطقة، المفاوضات السلمية تعثرت والتسويات فقدت زخمها وتحتاج قوة دفع. لبنان في قلب العاصفة وعلى عتبة الإنقاذ.