المزاج الدرامي في "سيرة الفراشة"

الروايات التي تدور حول وقائع الحرب وما يتبعها من التهجير والتَشَتُت، وتحول المدن إلى حلبة الصراع، أخذت مساحة كبيرة في الحراك الأدب.
المُناخ يضع مَنْ يتكئ على ثيمات الغربة وانشطار الهوية والوطن البديل في نصه الروائي أمام اختبار القدرة على تحاشي التكرار في الأُسلوب
الراوي في المقاطع الأُولى يخاطب شخصية دون الإشارة إلى اسمها

يستمد فن الرواية أبعاده الجمالية من المستوى الشكلي وصياغاته المتنوعة، فضلا عن استيعابه لما هو متوفر في الأجناس الأدبية الأخرى من الأدوات والآليات التي تدعمُ العمل السردي، عندما يتم توظيفها بالانتظام والوعي المُسبق بمُتطلبات المادة المسرودة. 
ومن الواضح أن الروايات التي تدور حول وقائع الحرب وما يتبعها من التهجير والتَشَتُت، وتحول المدن إلى حلبة الصراع، قد أخذت مساحة كبيرة في الحراك الأدبي، منذ أن بدأت أحداث ما عرف بالربيع العربي. بالطبع فإنَّ هذا المُناخ يضع مَنْ يتكئ على ثيمات الغربة وانشطار الهوية والوطن البديل في نصه الروائي أمام اختبار القدرة على تحاشي التكرار في الأُسلوب والتأثيث لأجواء جديدة في تناول الموضوع. ما يعني أن الخطاب يتحولُ إلى عامل أساسي في تحديد تميز النص الروائي وترابط محتوياته. إذ تمكنَ الكاتب والروائي العراقي محمد حياوي من نحت أسلوب جديد في روايته المعنونة "ســيرة الفـراشة" الصــادرة عن دار شهريار 2018 وبهذا أضاف إلى مضمون عمله الذي يتصفُ بالانفتاح على مواقف لم يعشها الكاتبُ مباشرة.
مناورة النص
يريدُ حياوي كسر أفق توقع القارئ بِمُغامرته لخوض تجربة مُختلفة، فإنَّ مادة روايته الأخيرة مُستقاةُ من جغرافية سوريا، وتنطلقُ حركةُ السرد من مدينة حلب المهجورة بفعل الحرب والتناحر بين الطوائف والملل. وبذلك يغادرُ صاحب "خان الشابندر" بيئته العراقية التي تحفل برموز حضارية وأسطورية، كما أنَّ الحاضنة المكانية للشخصيات والأحداث في الرواية تَمْتَد من حلب مروراً بمرسين وإسطنبول وصولاً إلى أمستردام التي تصبحُ مركزاً يضمُ جنسيات مُتعددة، وفي هذه المدينة يبدأُ فصل جديد من حياة شخصية بسام الهارب من حلب، إذ تتلاشي صور مكان المنشأ في ذاكرته، كما يختفي اسمه الأول ويعرفُ بـ "ليفى" بدلاً منه. يُذكر أنَّ استبدال الأسماء جزء من مُناورة الكاتب ويُعمقُ البعد الدرامي أكثر، الأمر الذي يحيل إلى مصير بعض شخصيات أسطورية.

The Iraqi Novel
انفتاح على مواقف لم يعشها الكاتبُ مباشرة.

يستهل الراوي في المقاطع الأُولى بِمُخاطبة شخصيةٍ دون الإشارة إلى اسمها، ولكن بمضي آلة السرد، وتتابعُ وحدات الرواية نعرف أنَّ من يتوجه إليه الراوي هو بسام، ومن ثُمَّ يتخذُ السردُ مساراً آخر مع اختلاف موقع الراوي واستخدام ضمير الغائب، الذي هو فعل إنساني يصل الإبداع بالتاريخ، أو الوجود على حد قول رولان بارت. 
هنا تندمج زاوية النظر مع مستوى رؤية الشخصية المتواجدة في شقة واقعة في مدينة حلب. إذ تقضي المرأةُ سحابة نهارها بمراقبة أنقاض المدينة وتساقط العصافير الميتة على شرفتها، وهي بدورها تلقي تلك الطيور إلى كلبٍ أسودٍ يقف يوميا تحت النافذة. ويتراءى لها شبحُ أشخاص في الشقق الُمقابلة والمستغربُ بالنسبة إليها وجود تلك الفتاة المُتكئة على الإطار الخشبي، تؤنس وحدتها، وما أن تخلد إلى السرير الموحش حتى تزورها في المنام، هنا يستبطنُ الراوي لاوعي الشخصية، راصداً عالمها المتواري، فبالتالي تنمحي الحدود بين الواقع والحُلم لدى المُتلقي، وهنا تتسقُ تقنية الحلم مع البعد النفسي للمرأة، التي تفتقدُ إلى الحميمية والدفء، بعد غياب زوجها وعدم معرفتها بمصيره. ومن الملاحظ أن خط السرد يتخذُ منحى مُتصاعداً، باستثناء الإشارات الوامضة إلى امتهان المرأة لفن الرسم والحنين إلى مباهج حلب التي صارت مدينة بائسة لا توجدُ استرجاعات مُسهبة. 
تتوالى دوائر سردية قائمة على تقنية الإضاءة والعُتمة ما يوفر الفرصة لتكثيف عنصر الزمن هذا فضلاً عما يولده من التشويق والإثارة .
حكايات متوازية
تعتمدُ هيكلية هذه الرواية على بنية التوازي، من خلال تزامن عناصر المتن واختـــلاف الأمكنة، إذ يتنقلُ الراوي من محورٍ إلى آخر مع إرجاء الوصـــول إلى لحظة التنوير، بعدما تنسحبُ الأضواء عن المرأة المقيــمة في الشقة في مدينة حلب، وينقطـــعُ السردُ عند توقــيت سقوط العصافير، الذي يؤذن بيوم آخر في سلسلة أيام مُتشابهة. 
يتحول الراوي إلى تتبع شخصية أخرى داخل إطار مكاني مختلف والمشتركَ بين الشخصيتين، رغم المسافة التي تفصلهما، تَلمَسُه في الشعور بالتوتر بينما المرأةُ تترقبُ عودة بسام، فإنَّ ليفي يريد معرفة السر الكامن في المرأة التي تشاركها الإقامة في الطابق الذي يسكنُ فيه. هنا يخفتُ صوت الراوي تاركاً المجال لحديث ليفي مع نفسه، مُتسائلاً عن سبب انجذابه للمرأة المنطوية على نفسها. 
ويتسلسلُ السردُ إلى أن ينفتحَ على سارة التي ساهمت في ترميم ذاكرة ليفي، وعوضته البهجة المفقودة بسخائها الحسي، ويكون الحوارُ صيغةً تعبيرية في هذا المفصل، إذ يتبادلُ ليفي كلاماً خاطفاً مع جارته، كما يبوحُ لصديقته سارة بما يعيشهُ من تجربة عاطفية ناسباً القصة إلى صديق وهمي. 
وتُقْفَلُ هذه الحلقة بحوارٍ بين ليفي والمرأة الشرقية التي تكشف عن اسمها نرسيس، ويستعيدُ جارها صورة تقاسيم وجهها كما تتواردُ الإيماءة إلى الظروف التي رست به في هولندا. إذ عُثر عليه فاقداً وعيه في أحد شواطئ. وجدتْ بأصبعه عبارةُ (أحبك إلى الأبد) ويختارون له اسماً جديداً "ليف" وتضيفُ إليه سارة حرفاً ليكونَ "ليفي".
دائرة سردية
تتوالى دوائر سردية قائمة على تقنية الإضاءة والعُتمة ما يوفر الفرصة لتكثيف عنصر الزمن هذا فضلاً عما يولده من التشويق والإثارة، إذ يتابع المُتلقي تفاصيل قصتين مع ما يتخللهما من القصص الفرعية، مقتل نسيمة وهروب عائلة الشيخ نجاتي من القوقاز ومُعاناة نرسيس الإيرانية، بعد موت الأب وعودة أمها إلى أصفهان، أزيد من ذلك تتضمنُ تلافيف الرواية نتفاً مما كابدته الإيزيدياتُ من العذاب والتنكيل. 
يحملُ كل جزءٍ ما يُزخمُ السرد. فبدا المشهدُ في القسم الأول من الرواية جامداً ولا تخرج الأشياء من طورها السكوني، غير أنَّ هذه الحالة تتغيرُ عندما تعودُ عدسة الراوي لرصد الشقة الواقعة في حي صلاح الدين، حيثُ تمتنعُ المرأةُ عن إلقاء العصافير للكلب الذي تحول إلى مكون أساسي في المكان، وهذا يكونُ سبباً لتعرض المرأة لمهاجمة الكلب عندما تعودُ من زيارة الشقة المُقابلة بدون أن تجدَ أثراً للفتاة المُتكئة عليه فإنَّ الوضعية الجديدة تُمهد لظهور شخصية عبدالله، الذي ينقذُ المرأة من الموت بعدما يسقطُ جنينها، ويشيرُ هذا الحدثُ بدلالته الرمزية مع سقوط العصافير إلى أفول الأمل في المدينة، وما يؤكد ذلك هو اقتناع المرأة بترك حلب مُصاحبة عبدالله المنشق عن الجماعة المتطرفة، إذ يتعرف القادم من المغرب مع أخته نعيمة على بسام في جسر الشغور، ويوصيه الأخير بزوجته ندى. قبل أن يُذبحَ بتهمة مزاولة عمل حرام وعزفه للموسيقى، لكن هنا ترى جانباً آخر من المزاج الدرامي عندما تتبعثرُ جثث أفراد الجماعة المُتطرفة جراء إغارة الطيران وَتُكتبُ الحياةُ من جديد لبسام الذي يتعهد لعبدالله بالبحث عن اخته وإعادتها إلى العائلة في المغرب، مقابل إنقاذه لندى. 

تظهر البراعةُ في ترتيب الرواية عبر عدم إيراد تفاصيل ما تشهدهُ حياةُ بسام بعد الموقف الذي يجمعه بعبدالله، وما يبررُ ذلك هو عطب في الذاكرة، في المقابل تستأثر رحلة ندى بمساحة سردية في متواليات الرواية. 
وفي هذا السياق تنضاف شخصيات أخرى إلى دوائر سردية، منها الشيخ نجاتي الذي يمثل نقيضاً للجماعات المُتطرفة بروحانيته وبيته المفتوح لاستقبال الغريب، وتستشف من الكلام الذي يتبادله مع ندى البعد الصوفي المتشرب بالفلسفة في فكره ويخبر رفيقته، بأن ظهور شجرة الأراصيا مرتبط بوقوع أحداث جسيمة. كما يُستبدلُ اسم بسام بليفي كذلك تظهرُ ندى باسم نعيمة في هولندا داخل مخيم اللاجئين، حيث تسافر بجواز نعيمة بعد ضياع مستنداتها في مرسين. وعندما تلبي دعوة نرسيس تتفاجأ بوجود بسام الذي لا يتعرف عليها، وما يضاعفُ عنصر المفاجأة هو اللوحة التي ترسمها نرسيس، فهي المطابقة للفتاة المتكئة التي كانت تتخيلها في حلب. 
وهكذا تتشابك البنيات العجائبية والأسطورية والواقعية في الرواية، إضافة إلى بنية التدوير التي تنهي بها حركة السرد، إذ ترى المرأة من جديد في مدينة حلب بعد رحلة معاكسة. أكثر من ذلك فإن الصوت الذي يبدأُ به متن الرواية هو آخر ما نسمعه في الصفحة الأخيرة. 
يشارُ إلى أن محمد حياوي يشتغلُ على رسم خصوصية الأسلوب والتكنيك في مؤلفاته الروائية، ويتقنُ العمل في مساحات محدودة بامتياز، بدون الوقوع في مطب الإسهاب والتورمات في الوصف. وما يجدر بالذكر أنَّ المرأةُ ترمزُ إلى الحياة والحب في طيات هذا العمل، تتفتحُ مداركُ بسام على الحياة بواسطة ليفي، وتشده نرسيس إلى الجذور، كما تتلفع علاقة جلال بك وندى بغلالة رومانسية شفيفة.