المستفيد الأول من مقتل جمال خاشقجي

أزمة خاشقجي حبل انقاذ للمؤسسات الاعلامية الممولة من قطر وتركيا بعد أن بدأت تفقد حظوتها.

الطريقة التي تعاملت بها دول مختلفة مع مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في اسطنبول، استفادت منها دوائر سياسية واقتصادية كثيرة، حاولت توظيف الحادث وفقا لأهدافها الظاهرة والخفية، لتحقيق مكاسب مادية ومعنوية على حساب السعودية.

من السهولة التعرف على الجهات التي سعت إلى استثمار الجريمة البشعة، إذا أمعنا النظر في الأوساط التي تلقفت الحادث منذ الدقائق الأولى وعملت على تسييسه قبل كشف الكثير من ملابساته، الأمر الذي منح القضية أبعادا مركبة، جعلتها تتحول إلى نقطة رئيسية لتطورات عديدة في المنطقة.

الإعلام الذي أصبح أداة مهمة في أيدي الدول التي تحسن استخدامه، سيكون هو البطل في اشعال أو اطفاء المشكلات خلال الفترة المقبلة. ففي هذا الحادث لعب دورا كبيرا في إجبار الأطراف المنخرطة في الأزمة لكشف الكثير من المعلومات، حتى خارت القدرة على استمرار النفي والانكار، وبدا التجاوب مع الفورة العالمية والرد عليها أفضل من الانكفاء والصمت وتلقي الضربات.

مقتل خاشقجي أعاد الاعتبار للإعلام، وبرهن أنه لا يزال قادرا على التأثير، وساهمت التسريبات المتباينة في تسليط الأضواء على القضية، ومنحتها مضامين ضخمة، كما ساعدت الملاحقات المتتالية للأطراف التي لها علاقة بالحادث، من قريب أو بعيد، في تقديم وجبة دسمة، ولو شابتها أخطاء فادحة.

الحادث جاء في توقيت تصاعدت فيه وتيرة المطالبات بتهميش الإعلام وتجاوز دوره، بل والتعامل معه على أنه وسيلة مكملة يمكن الاستغناء عنها، لكن التداعيات التي نجمت، وقامت وسائل الإعلام بدور أساسي فيها، تفرض ضرورة إعادة النظر في الرؤى التي راجت في اتجاه امكانية التخلص من التركة التي أثقلت كاهل بعض المؤسسات الرسمية.

ربما تكون الأزمات التي نتجت عن أخطاء إعلامية، دفعت البعض إلى تبني مواقف سلبية، وأدى الضجيج الذي أحدثه البعض بدون فوائد إلى عدم الاقتناع بالدور المؤثر للإعلام في تغيير اتجاهات الرأي العام، وقد تكون المخاطر الناجمة عن اتساع رقعة تأثير مواقع الواصل الاجتماعي سببا في تقليل الاعتماد على الإعلام التقليدي.

الحاصل أن المشرفين عليه في دول عربية عدة، وصلوا إلى اعتقاد بانعدام الدور السياسي للإعلام، ورأوا الجوانب السلبية فيه طاغية، ولم يدركوا الأهمية التي يمكن أن يقوم بها على مستوى السياسة الخارجية، إذا أحسن توظيفه وترشيده، وأمدوا القائمين عليه بالمعلومات، ووضعوا خطة متماسكة ليقوم بدوره المهني وخدمة الأمن القومي.

حادث خاشقجي سوف تجني منه الدول التي وظفت الإعلام لخدمة أغراضها مكاسب كبيرة، ويمكن أن تمنع نزيف الخسائر التي لحقت به من خلال تبني روشتة فاعلة للمستقبل، تتجاوز المعطيات التي جعلته خاضعا لحسابات ضيقة، وتراعي الدور السياسي له.

قطر التي منحت جريمة خاشقجي أولوية فاقت الكثير من القضايا السياسية والصراعات المسلحة التي تموج بها المنطقة، باتت تضع شروطا لموافقتها على عودة العلاقات مع السعودية، بينما كانت حتى وقت قريب مغلوبة على أمرها، تتسول المصالحة مع الرياض بأي ثمن تدفعه، وتبدي استعدادا لتقديم تنازلات للتفاهم على عودة العلاقات.

القنوات الفضائية والمواقع الإليكترونية التي جرى ضخ أموال باهظة فيها، حققت ما عجزت عنه أدوات الدوحة الدبلوماسية، وأدى التركيز على الحادث بصورة مثيرة إلى عودة متابعتها بعدما كاد الجمهور العربي ينصرف عن الجزيرة وأخواتها، ووجد البعض فيهم ملاذا لمشاهدة روايات والاستماع لقصص جذابة، وهو يعرف أنها محكومة بضوابط مزيفة وتنطلق من أهداف سياسية محددة، وتضم الكثير من معالم التشويش المقصود.

الواقع أن الإعلام يلعب دورا مهما، إذا أحسن استغلاله بشكل صحيح، وغالبية الدول التي تشكو من ارتفاع تكاليفه لم تجرؤ على التخلص منه تماما. قد تكون أعادت تقنين بعض الوسائل، لكنها لم تفكر في دفنها، وراجعت أهدافه بناء على مقتضيات العصر، التي تتطلب وضع تصورات واضحة، والقيام بعملية فرز حقيقي للعاملين فيه، فإذا كان الإعلام الناجح أداة سياسية جبارة، فالفاشل سوف يفضي إلى كوارث مختلفة.

الصحف التي أغلقت والمحطات الفضائية التي توقفت لم تجد تمويلا كافيا لاستمرارها، لكن الوسائل التي تقف خفلها دول ومؤسسات عملاقة من الصعوبة أن تواجه هذا المصير عندما تنجح في إعادة أوجه الانفاق وتعمل على ترتيب بعض الأوراق ومنح المهنية أولوية.

المهنية علامة الجودة الرئيسية للانتشار والتأثير، فمهما كان المشروع الذي تتبناه هذه الوسيلة أو تلك، فالنجاح يتوقف على حجم القدرة على الالتزام بحد معقول من الاحتراف.

قنوات قطر وتركيا تتبنى خطابا سياسيا مغرضا، يسعى إلى تلوين الأحداث بالصورة التي تخدم أهداف القائمين عليه. خطاب له أجندة لم يمل أصحابها من العزف على أوتارها وترديدها في كل مناسبة، حتى واتتهم الفرصة، كأنهم كانوا في انتظارها، لذلك استوعبوا عنصر الحدث وافرازاته وتعاملوا سريعا مع تجلياته.

في المقابل أصابت المفاجأة غالبية وسائل الإعلام العربية، ولم تتمكن من مجاراة التطورات بطريقة تتواءم مع خطورتها، وأدى التأخير في التعامل معها إلى تمكين الوسائل المنافسة من التفوق، على الأقل في الأيام التي كانت فيها الرؤية السعودية غامضة ومرتبكة، وبعد أن جرى استيعاب الأزمة-الصدمة ومحاولة اللحاق بنتائجها السياسية، كانت قد ترسخت صورة ذهنية سلبية، تحتاج وقتا لمحوها ثم رسم صورة مغايرة.

الواضح أن النتائج التي خلفتها الجريمة تجبر بعض الدول العربية على عدم التفريط في أذرعها الإعلامية، ومنحها مساحة للحركة والاجتهاد، وعدم فرض قيود صارمة عليها تجعلها أثيرة لتوجهات معينة. فأزمة خاشقجي سوف تضخ الروح في كثير من وسائل الإعلام التي كان يتم التفكير في إغلاقها، وربما زيادة أعدادها، ووضع رؤية واضحة تمكنها من مسايرة الأزمات الطارئة.

المنطقة حبلى بالمفاجآت، ما يضخ الدماء في عروق وسائل الإعلام، ويمنحها قدرة على تطوير نفسها، تمكنها من مجابهة الحروب المقبلة، والتي سوف يكون الإعلام رأس حربة أساسي فيها، لاسيما عندما تتوافر له مقومات تساعده على أداء وظيفته بطريقة محترفة، بالتالي من الطبيعي أن يصبح هو المستفيد الأول من جريمة خاشقجي.