المسرح في منظور النقد ما بعد الكولونيالي

الباحث والأكاديمي المغربي الدكتور هشام بن الهاشمي يستثمر في كتابه 'الكتابة المسرحية العربية وأسئلة ما بعد الكولونيالية'، منجزات النقد ما بعد الكولونيالي في قراءة مجموعة نصوص مسرحية عربية.
المسرح يشتبك بالتاريخ والواقع والهويات ويطمح إلى ترسيخ الانفتاح والتعدد
الكتابة النسائية أعلنت عن رغبة ملحة في الخلاص من القهر الاجتماعي لمعانقة الحرية وسط مجتمع تكتم أنفاسه ثقافة سلطوية

يقرأ النقد ما بعد الكولونيالي النصوص الأدبية، على اختلاف أجناسها، بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية للاستعمار والسلطة والممارسات الاستبدادية، تلك المقاومة التي تهدف إلى إرساء الحرية، والعدالة، والكرامة، والبحث عن بديل اجتماعي يكفل للمحرومين والمهمشين والمقموعين بالوجود، ويجعل أصواتهم مسموعة في عالم مثقل بالقوة والهيمنة. ويسهم النص المسرحي، مثل النص السردي، في التحرر من التصورات الضيقة التي تعتد بالهويات المنغلقة على ذاتها، فالمسرح يشتبك بالتاريخ والواقع والهويات، ويطمح إلى ترسيخ الانفتاح والتعدد. 
من هذا المنظور يستثمر الباحث والأكاديمي المغربي الدكتور هشام بن الهاشمي، في كتابه "الكتابة المسرحية العربية وأسئلة ما بعد الكولونيالية"، الصادر عن المركز الدولي لدراسات الفرجة في طنجة (المغرب)، منجزات النقد ما بعد الكولونيالي في قراءة مجموعة نصوص مسرحية عربية، بوصفها خطابات معرفية تنزع إلى مقاومة السلطة، بغية الاقتراب من قضايا تتصل بالتاريخ، والهوية، وثنائية الأنا والآخر؛ موطفاً أطروحات إدوارد سعيد ومفاهيمه النقدية من قبيل: التأويلية الدنيوية، والتمثيل الثقافي، والقراءة الطباقية، والهجنة، واستراتيجية المقاومة. 
يسلط الهاشمي، في الفصل الأول المعنون بـ"النقد ما بعد الكولونيالي: الجهاز المفاهيمي ومرجعياته"، الضوء على المفاهيم النقدية التي تشكل لحمة النقد ما بعد الكولونيالي. كما يبين الخلفيات النقدية والمعرفية التي أتاحت لإدوارد سعيد تأسيس هذا المنظور الجديد، الذي يتعامل مع النصوص بوصفها حادثة ثقافية تشتبك مع الخطابات والأنساق الثقافية، فبالرغم من تعدد هذا المرجعيات واختلافها وتنوعها (ميشيل فوكو، فرانز فانون، وأنطونيو غرامشي)، قد استطاع سعيد، حسب رأي الباحث، التأليف بينها بشكل خصب بهدف اجتراح مشروع نقدي وازن قوامه المغايرة.
وعلى هدي هذا الإطار النظري، ينتقل الهاشمي، في الفصل الثاني، إلى دراسة أربعة نصوص مسرحية هي: "الاغتصاب" لسعد الله ونوس من سوريا، و"بنات النواخدة" لباسمة يونس من الإمارات، و"صمت له كلامه" لعبدالرحمن بن زيدان من المغرب، و"نساء في الحرب" لجواد الأسدي من العراق. ففي مسرحية "الاغتصاب" سعى ونوس إلى إبراز بنى الهيمنة التي تتحصن بها الذات الإسرائيلية بهدف تسويغ سلطتها، ما جعلها تكشف عن تطابق مقاربة سعيد للاستشراق- بوصفه عملاً ملموساً من أعمال التمثيل الكولونيالي- مع التصورات الموشومة في المخيلة الإسرائيلية عن الإنسان العربي. ففيها تتعمد الذات الصهيونية إلغاء كل الصور الإيجابية التي تميز الذات العربية الفلسطينية، سعياً لإنتاج معرفة مشوهة وتشييد نسق ثقافي منغلق يرفض الحوار والانفتاح، ويعلي من التفوق والتعالي.
لكن رغم تمركز الذات الصهيونية حول الهوية المغلقة الرافضة للتعايش والحوار والمنتشية بالسلطة والقوة، يأمل ونوس بنظرة جديدة تتجاوز الارتهان إلى الهوية الدينية أو القومية الضيقة، إذ أوجد في عوالم مسرحيته شخصيات ترفض التصور الأحادي والهوية المتعصبة، وتعتد بالتفاعل والتبادل الثقافي المؤسس للهجنة الثقافية، كما هو الحال بالنسبة للدكتور إبراهام منوحين الذي مثل نموذج المثقف الهاوي، حين حدد وظيفته في معارضة جنون القوة وحمق السلطة، مع تأييد المجموعات المهمشة التي تتعرض للظلم والإجحاف، أي تلك المجموعات غير الممثلة التي تحاج إلى صوت يمثلها ويعلن وضعها للعالم.

كشفت المسرحية أن المرأة في العالم الثالث رمز فضفاض، وضحية للأبوية والأصولية الدينية إلى الحد الذي خضع وجودها للتلاشي

وفي قراءته لمسرحية "بنات النوخذة" هدف الهاشمي إلى تبيان صيغ السيطرة التي تنهجها الثقافة الذكورية من أجل تبرير إخضاع المرأة، بالتزامن مع آليات مقاومتها لهذه الهيمنة دون تأسيس تمركز معكوس. وقد كشف عبر تحليله للنص أن المرأة بوعيها النقدي وحسها الجمالي لا تقف عند حدود تعرية النصوص وكشف ما تشمله من أنساق مضمرة تنشد تصنيم المرأة وكبح تحررها، بل تجاوزت ذلك إلى الانخراط الوازن لتشكيل سرد مضاد ومقاوم يعيد الاعتبار للهامشي ممثلاً في الذات النسوية. وهكذا أضحى الإبداع النسوي يدرج ضمن انشغالاته بالهيمنة الذكورية من جهة، وعملية مقاومتها من جهة ثانية، إذ أعلنت الكتابة النسائية عن رغبة ملحة في الخلاص من القهر الاجتماعي لمعانقة الحرية وسط مجتمع تكتم أنفاسه ثقافة سلطوية.  
وسعى الهاشمي في تحليله لمونودراما "صمت له كلامه" إلى التأكيد على أن تقديم النساء مسرحياً، باعتبارهن الشخصيات المحورية، يمكن أن يكون ذا طابع تقويضي، خاصة بالنسبة للثقافات الذكورية، ورأى أن الصمت في النص يشكل صوتاً من نوع آخر، وهو صوت المهمشين والمقموعين الذين أُسيء تمثيلهم. ويتعلق الأمر بالمرأة في مجتمع عربي أسس معادلة غير متكافئة قوامها: مركزية ذكورية وهامشية أنثوية، فقد كشفت المسرحية أن المرأة في العالم الثالث رمز فضفاض، وضحية للأبوية والأصولية الدينية إلى الحد الذي خضع وجودها للتلاشي. ولذلك فالمسرح حين يقدم النساء مسرحياً باعتبارهن الشخصيات المحورية، فهو يضطلع بدور تقويضي للثقافات الذكورية.  
أما في قراءته لمسرحية "نساء في الحرب" فيذهب الهاشمي إلى أن جواد الأسدي رام­ استناداً إلى رؤى إدوارد سعيد حول المنفى­ الكشف عن مجابهة ضروب النفي، والشرخ، والاقتلاع، ومقاومة المجهول في ظل الاستبداد، الذي يفرض على المرء تغيير بلده طوعاً أو كرهاً، في ظل سياق عربي ليس بريئاً من العيوب. وقد تبين للباحث أن المنفى شغل بال الأسدي واستأثر باهتمامه إلى الحد الذي يصعب فهم إبداعه بمعزل عن تجربة المنفى. وضمن هذا السياق كشفت المسرحية، كما يرى، عن مزايا المنفى في امتلاك المنفي رؤية أقرب إلى العالمية، إذ يمتح من أكثر من ثقافة، وهو ما من شأنه أن يمد المنفي بطاقة تمنعه من التحجر داخل إطار وطني ضيق. لكن المنفي من زاوية أخرى يستبد به الحنين إلى وطنه الأصلي ويأمل في العودة من دون جدوى لأسباب سياسية في الغالب، فالعودة لن تتحقق إلا ببلورة مفهوم جديد للوطن والمواطنة يكرس الحريات الفردية، ويتبوأ فيه الإنسان المكانة التي يستحقها، وهو مطلب يبدو الشرق بعيداً عنه.