'رسائل أوديسيوس' لنوري الجراح شعرية وجود وكينونة

قصائد الجراح تتسم بتعدد مصادرها الثقافية ويغلب عليها الاهتمام بالميثولوجيا والأساطير، كما أنها تقوم باسقاط الحدث التاريخي على الواقع الحالي خاصةً في المأساة السورية وما يصاحبها من نزوح وتهجير وموت في البحار.

يعتبر عدد كثير من النقاد العرب الشاعر السوري نوري الجراح، المولود في دمشق عام 1956، واحداً من أبرز الشعراء العرب بين القرنين 20-21، فهو صاحب مشروع شعري حداثي/إنساني النزعة، تبلور خصوصاً في أواسط التسعينات من القرن الماضي. وشكّلت كل واحدة من مجموعاته الشعرية، التي صدرت الأولى منها سنة 1982، بحثاً شعرياً جديداً عمّق الشاعر من خلاله رؤيته الشعرية وموقفه الشعري، ونظرته إلى العالم والوجود بلغة شعرية خاصة نحتها وطورها عبر رحلته المديدة مع الشعر.
 تتسم قصائد الجراح بتعدد مصادرها الثقافية، ويغلب عليها الاهتمام بالميثولوجيا والأساطير والحكايات القديمة، وتكشف عن ملامح ميتافيزيقية ورؤى وجودية كيانية، ونزوع ملحمي ودرامي وتوظيف خلّاق للقناع، وإسقاط الحدث التاريخي على الواقع الحالي، أو بالعكس، خاصةً في قصائده عن المأساة السورية ذات المستويات الرمزية العديدة المأساة المتمثلة بالنزوح والتهجير والتشرّد عبر البحار والموت الجماعي غرقاً في لجّتها هرباً من بلد تحول إلى مسلخ بشري، وأرض للعذابات المستحيلة والتي هي تراجيديا كونية تعجز عن وصفها لغات العالم أجمع.
في قصائد الجراح "رسائل أوديسيوس"، التي اختارها وقدّم لها الناقد السوري خلدون الشمعة، وصدرت حديثاً عن دار خطوط وظلال لللنشر والتوزيع في عمّان، ثمة إعادة نظر في الطبعة الأولى الصادرة في القاهرة سنة 2009، واستدراك لقصائد كتبت في وقت لاحق، كما جاء في تصدير الشاعر. وتضم المختارات 56 قصيدةً من مجموعاته السبع "صعود إبريل"، "طريق دمشق"، "الحديقة الفارسيَّة"، "يومُ قابيل"، "قارب إلى لسبوس"، "نهر على صليب" و"لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة".
وفي الحقيقة، تشكّل مقدمة خلدون الشمعة مقاربةً نقديةً عميقةً لهذه المختارات، ولمنجز الجراح الشعري على نحو عام، لذا لا يمكن لمن يقرأها إلا أن يقف عليها مطولاً، متأملاً كشوفاتها الدلالية والجمالية والمعرفية التي تنم عن بصيرة نقدية فذة يمتلكها الشمعة، وإلمام كبير بتجربة الشاعر. 
يقول في بداية المقدمة "تصدر هذه المختارات لنوري الجراح عن شعرية وجود وكينونة، شعرية خصام مع الذات لا شعرية خصام مع الآخر. فمن خصامنا مع الآخرين نصنع البلاغة، ومن خصامنا مع أنفسنا نصنع الشعر" بحسب ما يقتبسه من الشاعر الأيرلندي ييتس.
ويحتفي الشمعة ببلاغة أخرى في شعر الجراح هي بلاغة التحليق بلا أجنحة مسبقة الصنع، ويرى أنه أحد أبرز أعلامها المتميزين، بلاغة يجد لحمتها في ما يدعوه بـ"شعرية الكينونة" وسُداها في "القصيدة الحرة". والناقد يستعمل هنا مصطلح "القصيدة الحرة" تمييزاً له عن مصطلح "قصيدة النثر"، وقد تأكد له من حوارات مع الشاعر أنه يعتمد المصطلح نفسه في تعريف شعره، فهو لا يمتلك محمولاً معرفياً مقيداً، وذلك خلافاً لمصطلح "قصيدة النثر" الذي مازال محموله المعرفي يحيلنا باستمرار إلى إشكالية مراوغة تتمثل في النزعة المركزية الأوروبية، وسيطرة المفاهيم المستمدة منها على جانب لا يستهان به من الثقافة العربية. 
ورغم أن هذه المختارات، التي تعتمد الأداء الشعري- النثري، ذات أبعاد تتماهى حيناً وتفترق حيناً آخر مع نماذج شعرية وفكرية مستمدة من المركز الأوروبي، وفقاً للشمعة، فإنها كثيراً ما تتقاطع، أو تلتقي دون أن يكون لقاؤها- بالضرورة - حصيلة تماه مع هذا المركز.
وإيضاحاً لما يعنيه بشعرية الوجود والكينونة، يشير الناقد إلى أن لهذه الشعرية بلاغتها الجوّانية وإطارها التعييني الخاص. وهي بذلك تختلف عن البلاغة الخارجية التقليدية التي رفضها ييتس، بلاغة الخصام مع الآخرين.
كما يشير إلى أن التنويه بمفهوم الشعرية، في ضوء صدمة الحداثة، يقتضي الإشارة إلى حدوث ثلاثة إبدالات متعاقبة. والمقصود بالإبدال هنا- حسب توماس كون- هو عملية حلول "البارادايم"، أي الصيغة المعرفية المعتمدة في تعريف الشعر محل صيغة معرفية معتمدة أخرى، وذلك من خلال حراك نخبة ثقافية فاعلة ومؤثرة تقترح معايير خطاب شَرعَنة ليست مغايرة فحسب بل مناوئة، معايير شرعنة تنفتح على اعتبارات تهدف إلى تحريرها من هيمنة تعريف نقدي مهيمن.

تصدر هذه المختارات لنوري الجراح عن شعرية وجود وكينونة، شعرية خصام مع الذات لا شعرية خصام مع الآخر. فمن خصامنا مع الآخرين نصنع البلاغة، ومن خصامنا مع أنفسنا نصنع الشعر

ويرى الشمعة أن الإبدالات الثلاثة يمكن التمثيل عليها، انطلاقاً من اقتراحات نخبة بلورت وتبلور المفاهيم السائدة حول التحققات الجمالية والفكرية في الثقافة العربية، بالإبدال الأول، ويتمثل في نقض الحداثة للقدامة في الشعر صياغةً وبنيةً وأساليب أداء، واعتماد مقاييس بعضها مستمد من خصائص موروثة وبعضها الآخر متأثر– في سياق العلاقة بين المركز والهامش- بخصائص أسلوبية وبنائية نوعية تحولت بفعل هيمنة النزعة المركزية الأوروبية إلى خصائص جوهرانية ثابتة إلى حين، لكنها تتغير بفعل تغير المؤثر الخارجي. الإبدال الثاني، ويمكن تقرّيه في ما نشهده من اشتغال على إحلال الرواية محل الشعر باعتبارها ديوان العرب الجديد، وذلك بتبني تراتبية قيمية إقصائية المنزع، ومستمدة من عمليات تسليع الجنس الأدبي في ضوء اختبار قوامه رواج الرواية في الغرب على حساب الشعر.
أما الإبدال الثالث فهو إحلال "قصيدة النثر" التي تُطرح من خلال تعريفها الملتبس والمستمد من مرجعيات غربية محلَ "قصيدة الشعر" إذا صح التعبير. لكن التعريف الغربي لهذا الضرب من النثر أو الشعر، الذي يبدو مسيطراً على ما دعاه الشمعة بـ"الحداثة الثالثة" في الشعر العربي مازال إشكالياً مفعماً بنصيب ضخم من الجدل والجدال. وهذه المختارات تطرح إشكالية تعريف هذه الحداثة، المتحررة كليّاً من أنظمة الكلام أو العروض أو التفعيلة أو الإيقاع، كما ألفناها مع شعر سابق، وهو تعريف غير مقيد ويسهم، بشكل أو بآخر، في عملية تذوق الشعر الجديد في "رسائل أوديسيوس".
وهذا الشك في علاقة النص الشعري بمصطلح "قصيدة النثر" ليس انتقاصاً من قيمة قصيدة نوري الجراح، كما يقول الشمعة، بل دفاع عنها، وتجنبٌ للخفة النقدية المتمثلة بالمحمول المعرفي الأيديولوجي المنزع، والذي ينطوي عليه مصطلح "قصيدة النثر" في الثقافة العربية. ولا علاقة للمحمول المعرفي بالنماذج المعروضة في هذه المختارات، فرغم سطوة المؤثرات الغربية التي تؤكد اكتمال المفهوم الغربي في الشعر، وهي مؤثرات يحفل بها، بطريقة أو أخرى، شعر نوري الجراح، يظل أداؤه دلالةً وبنيةً وطريقةً، شعراً عربياً بكل تأكيد.
يستعيد خلدون الشمعة لدى قراءته لـ"رسائل أوديسيوس" ابن عربي وهيغل مراراً وتكراراً. ولا تقتصر هذه الاستعادة على المقارنة بين عالمية التصوف لدى الشيخ الأكبر، وبين مركزية أوروبا لدى الفيلسوف الألماني فحسب، بل تتسع لتشمل ما أشار إليه راسل وبرنال وبيركرت حول تتلمذ اليونان على السوريين القدماء الذين تعلمت منهم الأبجدية. ففي الأساطير اليونانية– كما هو معروف- أن قدموس السوري أخذ بيد شقيقته يوروبا (أوروبا) ليعلّمها الكتابة. كما تتسع الاستعادة من طرف آخر إلى ما هو معروف أيضاً من أمر الميراث الثقافي المشترك بين التراث المصري والبابلي القديم من جهة، والتراث اليوناني من جهة أخرى.
وعندما يستعير نوري الجراح رمز أوديسيوس فإنه ينضم بذلك إلى لائحة طويلة أدرجها الناقد الأميركي هارولد بلوم في أحد كتبه، وتشمل الذين استعادوا بطل هوميروس، بدءاً من بندار وسوفوكل وصولاً إلى جويس وكازانتزاكيس. وتنحصر هذه الاستعادة في مثال الشاعر نوري الجراح في حدود ما يسمى بـ"الإلماعة"، أي الإشارة الموحية إلى شخصيات تحيل القارىء إلى حقل دلالي هو الملحمة الهوميرية ومحورها أوديسيوس، وهي وسيلة لتحريك سلسلة من التداعيات التي تمتح من مخزون اللاوعي لدى المتلقي من الأفكار والصور والمعاني التي تتصل برحلة خائبة.