المعادلة الصفرية العراقية

العراقيون لوامون لبعضهم البعض.

من طريف ما قرأته في كتاب "ذكريات ايامي" الذي تضمن حوارا مطولا مع الجواهري، اجراه فاروق البقيلي. ما اورده الجواهري عن لقاء له مع الزعيم عبدالكريم قاسم، حين دعاه الاخير الى مكتبه، بعد ان ازعجه ما ينشره في الجريدة التي يراس تحريرها اثناء او بعد احداث كركوك 1959. يقول الجواهري ما معناه ان قاسم قال لي سأفضحك امام الشعب، منوها لقصائد المديح التي كتبتها بحق الملك! فقلت له: انا شاعر ولااملك الا الشعر، لكنكم ايضا كنتم ضباطا وتحملون الرتب العسكرية على اكتافكم، وكنتم تؤدون التحيات للملك يوميا!

هذه الواقعة التي تبدو عابرة وصغيرة في سيرة الرجلين، تفصح عن مشكلة كبيرة لم يتخلص منها الكثيرون من العراقيين، للاسف، الا وهي محاولة تصفير بعضهم البعض، لاسيما في المنعطفات الحادة، سواء أكانت ثقافية او سياسية او اجتماعية. ومن ملاحظاتي طيلة اكثر من خمسة عقود عشت خلالها في اماكن مختلفة وخالطت اناسا من مشارب شتى، توقفت وانا اراجع بعضها لأجد ان مبدأ الاقصاء ظل حاضرا في كل مرحلة. ولعل اكثر الامور لفتا للانتباه انه اذا ما اختلف صديقان بشان امر ما وتحول الخلاف الى خصومة، تجد ان كليهما يصفّر الاخر تماما ويصفه بالتافه او غيرها من الاوصاف التي تنسف علاقة، ربما امتدت لسنوات، او حتى عقودا من الزمن، وكأنهما لم يكتشفا بعضهما الا عند الخلاف او الخصومة.

الامر مع الثقافة ليس افضل حالا، اذ ما ان تظهر او تدخل وسطنا الثقافي نظرية جديدة، بعد ان نمت وترعرعت في الخارج، اوروبا غالبا، تصبح هي المتسيّدة للمشهد. ومن لا يلحق بها تفوته القافلة ويغدو خارج دوحة المثقفين. ولعل نظريتي الوجودية ومن ثم البنيوية شاهدتان على ما نقول، لان من بقى متبنيا للنظريات الاخرى اصبح متخلفا، مع علم الجميع بحجم ثقافته ومكانته في الوسط ومنجزه المطروح.

في السياسة، المسالة اشد واقسى بكثير. ولو راجعنا تاريخ العراق الحديث لوجدنا ان تصفير السابق واتهامه باللاّوطنية والعمالة والخيانة وغيرها من الاوصاف الجاهزة، هي موضة اصحاب كل مرحلة جديدة. فهذه الاوصاف تمثل رأسمالهم الرمزي الذي يتمسكون به ويعملون على ادامته بمختلف السبل، وكأن الاخرين ممن عملوا معهم في المرحلة السابقة لم يقدموا للوطن شيئا يستحق ان يشكروا عليه، او ان لا يهانوا، في الاقل. وللمثال فقط، كيف يمكن فهم تقديم شخصية سياسية مهمة في العهد الملكي، مثل فاضل الجمالي، الى المحكمة ليدافع عن وطنيته، مع انه كان يعمل الى جانب من صاروا يحاكمونه في دولة واحدة، كلّ في مجال تخصصه؟!

لكي لا تختلط الاوراق، نقول، فعلا، يوجد هناك من يستحق النبذ وعدم الاحترام في كل مرحلة. فليس من العدالة ان يعامل الجميع على انهم سواسية، وهذا امر معروف لان المغالين مفروزون ومعروفون دائما لاسيما في المؤسسات الحساسة، وإن تباينت نياتهم واهدافهم. فمنهم من هو مؤمن بما يقوم به ويرى انه للصالح العام ويغالي، ومنهم من يتطلع الى موقع اعلى او ومكسب شخصي. وتبقى هذه نيّات وجوانيات يصعب في الغالب التحقق منها. لكن المؤكد ان تعميم الخيانة او اتهام الجميع باللاّوطنية امر يصعب فهمه وقبوله.

في عودة الى حكاية الزعيم قاسم والجواهري، وهما مثلان معروفان في السياسة والثقافة، نقول ان كليهما كانا في الدولة السابقة، وكليهما قدما ما يستطيعان تقديمه كلّ من مشغله؛ قاسم بوصفه ضابطا في الجيش، شارك في معارك مشرّفة ويحترم عطاءه الشعب والجيش معا، قبل 14 تموز وبعدها، ولا احد يستطيع ادانته لانه كان ضابطا في مرحلة انقلب عليها لاحقا. فكل حدث ينضج في وقته وبعد ان تتهيأ له الظروف الموضوعية. والجواهري ايضا له تاريخه مع الحركة الوطنية ومواقفه معروفة للجميع ومدونة، ومنها ايضا مديحه للملك او غيره والتي يراها تعادلية في قيمتها مع تحيات قاسم ورفاقه للملك.

حضرتني كل هذه التداعيات وانا اسمع واقرأ يوميا اتهامات بعض العراقيين لبعضهم الاخر، لاسيما في الاشهر الاخيرة، وكثرة الاوصاف الجديدة القاسية التي اقتحمت قاموسنا الاجتماعي والسياسي الجديد.

ترى هل ننتهي من هذا المسلسل ونحترم خيارات الاخرين ومواقفهم، ام اننا ماضون الى الآخر في هذه المعادلة الصفرية القاتلة؟!