المكان العجائبي في رواية "الماء العاشق"

المكان عنصر مركزي في تشكيل العمل الروائي وذلك لارتباطه الوثيق بالعناصر البنائية الأخرى.
الروائي البارع هو الذي يستطيع أن يتعامل مع المكان تعاملًا جيدًا، فيتخذ منه إطارًا ماديًا يستحضر من خلاله سائر العناصر الروائية
العجائبي لا يعني تضمين النص حقائق غير معروفة، بل وسائل غير معروفة

صلة الإنسان بالمكان عميقة، وعلاقته به مصيرية، وإنه لمن المستحيل أن نتصور لحظة من لحظات الوجود الإنساني خارج المكان، فهو الحيز الذي تحدث فيه كل التجارب البشرية.
ويقصد به في الأدب الروائي: المكان الذي تقع فيه الأحداث وتتحرك فيه الشخصيات الروائية وهو مكان لفظي متخيل ينتجه الحكي، وتصنعه اللغة، لتوازي به مكانًا موجودًا في الواقع أو في خيال الكاتب. (انظر: إستريجية المكان ص75، شعرية المكان في الرواية الجديدة: 78، بنية النص السردي: 62).
والمكان عنصر مركزي في تشكيل العمل الروائي وذلك لارتباطه الوثيق بالعناصر البنائية الأخرى، ودخوله في علاقات متعددة مع بقية المكونات السردية كالأحداث، والشخصيات، والرؤى السردية، واللغة، والزمان، وعدم النظر إليه ضمن هذه العلاقات التي تربطه بجميع عناصر البناء الروائي يجعل من العسير فهم الدور الفني الذي ينهض به المكان داخل الرواية. (انظر: بنية الشكل الروائي: 26، في نظرية الرواية: 146).
إن الروائي البارع هو الذي يستطيع أن يتعامل مع المكان تعاملًا جيدًا، فيتخذ منه إطارًا ماديًا يستحضر من خلاله سائر العناصر الروائية.
وتبدأ عجائبية المكان من الغرائبي، أو تمر بالغرائبي وصولًا إلى العجائبي، فالمتلقي الذي قد يقابل تردد الأبطال في العمل التخيلي إذ يواجه عالمًا مختلفًا من حيث الدلالة، يُضطر إلى قبول أشياء غير مألوفة أو معهودة تصنع العالم العجيب.
يرى تودوروف أن إنتماء النص الأدبي إلى المظهر العجائبيfantasy   fantastique  يتطلب شروطًا ثلاثة منجزة: (الأول يتعلق بالقارئ، ويرتبط الثاني بشخصية أو شخصيات من النص، ويتصل الثالث بمستويات التأويل، وهذه الشروط الثلاثة هي: أن يرغم النص قارئه على التردد بين مستويين من التفسير للأحداث: تفسير طبيعي، وآخر فوق طبيعي، ثم أن يكون هذا التردد محسوسًا من طرف شخصيِة في النص، وأخيرًا ينتهي القارئ إلى اتخاذ موقف إزاء النص (مدخل إلى الأدب العجائبي: تزفيتيان تودوررف: 49).

المؤلف جعل حركة المكان العجائبي حركة ارتدادية تنطلق من نقطة مكانية، وتعود مرة أخرى إلى المكان نفسه جاعلا حركة المكان دائرية مسوّرة حيث تحكم في السرد معتمدا على خاصتي التعدد والتداخل

والعجائبي لا يعني تضمين النص حقائق غير معروفة، بل وسائل غير معروفة، في التعامل مع الواقع، تحرر الإنسان من المألوف، ولذا فإن مهمة الكاتب الفانتازي كما يرى (أبتر) هي: "استجلاء إمكانات خارج حدود المعقول فضلا عن الرغبة القوية لانتزاع معنى من اللامعقول". م (أدب الفانتازيا – مدخل إلى الواقع – أبتر ت ي: 240).
هذا ويبدو العجائبي لصيقا بالأسطوري، متماسا معه حيث يشاركه العوالم التي تنتمي إلى ما فوق الواقعية، تلك التي تتعدد فيها مستويات التأويل.
أما الغرائبي فهو العجائبي مصحوب بشعور أساسي هو الخوف، وهو سمة ملازمة له. يقول أبتر "إن الخوف من عدم القدرة على التفريق بين الإدراك الحسي والخوف والرغبة يعد ركنا أساسيا بالنسبة للتأثير الغرائبي" (أدب الفانتازيا: 75).
ولقد ارتبط معنى "الغرائبي" بالشيطاني والرهيب والمخيف والمثير للحزن، والبعد المكاني المرتبط بالوحشة والقلق وعدم الارتياح: (الغرابة – شاكر عبدالحميد: 19 – 31).
ولقد حفلت رواية "الماء العاشق" للشاعر أحمد فضل شبلول بالأماكن العجائبية جنبا إلى جنب مع الأماكن الواقعية كالإسكندرية وبيروت وباريس وإسرائيل، وفي الإسكندرية شوارعها المعروفة وإحيائها القديمة وأبرزها: سيدي بشر، وكليوباترا.
وما يعنينا هنا هو امتزاج المكان الواقعي بالعجائبي. ويتحقق هذا الامتزاج من خلال الحدث، لأن العلاقة بينهما تلازمية، إذ ينقل الحدث المكان من حالة السكون إلى عالم مفعم بالحياة والحركة ويخلق كونه الدلالي ويكسبه القيمة والمعنى. (شعرية المكان في الرواية الجديدة: 102).
يقول الراوي: "دون أذن مني، دخل وتسلّل إلى أرضية الشقة المصنوعة من السيراميك. كان ينساب بنعومة بالغة، ومائية مطلقة ... رحبت به فور وصوله وانسيابه، لم أتبرم ... وقلت له: أهلا تفضل يا حبيبي.
ضحك في وجهي. أخذ يتراقص، يعلو، يهبط، يتعرّج، يتمدّد، يذهب يمنة ويسرة ... أمد يدي إلى ركبتي، فيتعلق في أصابع كفي يغمرها بالحب والقبل ... منذ آلاف السنين وهو ينتظر شخصا مثلي، يرحب به، ويحبه ويخاف عليه، ويبذل له عروقه ودماءه وشرايينه ليدخل بها ويعيش فيها، ويقيم أفراحه ومسراته وحفلاته المائية داخل الجسد... لقد اختار الإسكندرية ليقيم فيها بقية حياته، واتخذها عاصمة لمملكته المائية". (الرواية: ص 7، 8، 9).

The Egyptian novel
أوحشني الماء العاشق جدا

يكشف النص السابق عن سرد ماتع لحدث جوهري يمهد لروايتنا وهو لقاء الراوي ببطل الرواية "الماء العاشق" الذي تجسد شخصيةً أسطوريةً خرافية تعيش مع البطل وتحاوره وتساعده وتمتزج به جسدا وروحا.
ومن الأحداث الغريبة ما حدث لهدى البطلة في مغارة جعيتا في لبنان من لقائها بالشيخ الذي استطاع أن يداويها بواسطة العطر السحري الذي اكتشف في حمام كليوباترا بمطروح.
ومن الأحداث العجائبية التي دارت في أماكن الواقع السحري تلك الشخوص التي عاشت في بئر مسعود بسيدي بشر بالإسكندرية، حيث سرد الراوي حكاية مسعود الهارب من الثأر ليختبئ في البئر وتأخذه حوريات البحر، وعودة مسعود مرة أخرى ليلعب أدوارا في لعبة السرد تساعد البطل والبطلة في رحلتهما العجيبة وراء قارورة العطر الملكي السحري لكليوباترا.
وكذلك ما دار في أعماق المياه، في ظلمات البحر المتوسط حيث البلاد العجيبة المدهشة، وعقد قران عمر وهدى والرحلة تحت الماء إلى بيروت عبر المغارات السرية المائية الحافلة بالمخلوقات العجائبية. يقول الراوي: " بدأنا نسمع صيحات وزمجرات وأصواتًا تأتي من بعيد لا نعرف مصدرها، ولكن بدأنا نسمع بوضوح كلمات مثل: العطر .. العطر .. السحر .. السحر .. ثم وجدنا فتاة من فتيات البحر مربوطة في شجرة. اقتربنا منها بهدف فكها وإنقاذها. وجدنا جرحا كبيرا مفتوحا فوق رقبتها... عند فحص الجرح، اكتشفنا أن ما كان يسيل منها لم يكن دما بل كان ياقوتا أحمر تصدر منه رائحة رائعة ... جمعنا ما استطعنا حمله ... سمعنا الياقوت يتكلم في حقيبتينا. يحذرنا من شيء قادم ...". (الرواية: 134).
ومن الأحداث العجائبية لقاء البطلين بجني البحار الشرير، وسيدة الماء (أم الماء) والملكة كليوباترا، وما كان من أمر مسعود الإنسي الذي يعيش في الماء.
مما سبق تتضح العلاقة التلازمية بين المكان والحدث العجائبي والتي تجعل وجود أي منهما يقتضي وجود الآخر.
وبمثل هذه العلاقة التلازمية يرتبط المكان بالشخصيات، فكل شخصية روائية لا بد أن يضمها مكان تتحرك فيه وتبادله التأثر والتأثير (استراتجية المكان: 77، بنية الشكل الروائي: 30).
ومن الصعوبة بمكان التحدث عن فضاء روائي بعيد عن القوى التي تؤمه وتقيم فيه لأن وجود الفضاء مرهون بوجود الشخصيات فلا معنى للمكان إلا حين يعاش، إذ يكتسب قيمته ودلالته حين يصبح مجالا لحركة الشخصيات بصراعاتها ورغباتها وأفكارها. (شعرية المكان في الرواية الجديدة: 98).
ومن ناحية أخرى تترك الأماكن بصمتها على الشخصيات بكافة أبعادها الجسدية والنفسية والاجتماعية. (شعرية المكان: 104).
من أهم الشخصيات العجائبية التي تتحرك وتتفاعل البطل (الماء العاشق) يقول ساردا عن نفسه: "لم يكن هناك إلا الماء، وأنا، أجلس فوق عرش مائي، أتابع المخلوقات المائية، وأداعب أسماكي وحيتاني، وحوريات البحر اللاتي يسبحن ويطُفن أمامي، لم يكن الإنسان قد خُلق بعد، فكان العالم جميلا وحنونا ومتسعا وهادئا وسعيدا". (الرواية: 13).
ومن الشخصيات العجائبية مسعود الإنسي الذي تزوج جنية البحر أو حوريته، وأصبح سيدا على البحار وعاش معها في قصرها تحت الماء بين البئر الذي سمي باسمه وصخرة ميامي.
وأم الماء وبناتها: "من بين هذا السحر والرقص والأداء النوراني، بزغت امرأة لها كل معايير ومواصفات الأنوثة، لها الكمال والليونة، لها البحار والرشاقة والنعومة، تدور سبع دورات حول البئر وخلفها بناتها الراقصات... هذه الليلة جئت من أجلك أنت يا عمر!". (الرواية: 99).
يقول السارد: "رحبوا بي ... أهلا بك في عالمنا المائي ... قدمت لي ... الملكة كليوباترا التي حكمت عالمكم، وهي في عمر الثامنة عشرة لمدة عشرين عاما.
قالت: كنت في المغطس في مرسى مطروح ... مرتدية دفء الشمس ونسيم الهواء ووحدتي ... ورغبتي في الهدوء إلا من صوت الماء المحبب لنفسي كقطعة موسيقية خالدة ... صليت للربة إيزيس أن تمنحنى عطرا لا يفنى، ذا رائحة نفاذة لا تبلى من أخلاط المسك والعنبر والزعفران ... استطعت صناعة هذا العطر بنفسي ...". (الرواية 110).

ومن تلك الشخصيات المخيفة جني البحر: "الكائن المائي الذي يشبه عجل البحر ويرتدي الطحالب، ويمتلك أسنانا صفراء دميمة، تشبه أسنان مصاصي الدماء ... أخذ يلف ويدور ويتشمم صائحا: العطر .. العطر .. السحر .. السحر ... أنا جنيُّ البحار. وأنت هنا في حرم قصري. أريد أن تبقى هنا الوقت الذي تريد وتقول لي ما الذي يمنحك أعظم الفرح إذا زوجتني من تلك الفتاة التي معك". (الرواية 135).
وعن الماء العاشق يصفه السارد: "انفعل الماء العاشق ... لم يعد ماء، ولكن ظهر العشق نفسه، بعد أن كان الماء العاشق، أصبح العشق ذاته كأجمل صورة رأتها عيناي، هل هو يوسف في مائيته الآن؟ أو يونس لحظة دعائه المخلص لله". (الرواية 182). 
" رأينا الله يتجلى لنا، ينظر إلينا، نصعد إليه، ندور ونصعد، ننظر ونرقص ونصعد، يزداد النور نورا، نور على نور ... تجسدت السعادة بكل طاقاتها وجمالها ونورها ... رأيت كل المعاني الجميلة المجردة متجسدة أمامي". (ص 188).
وهكذا منحت الشخوص المكان العجائبي حيوية وحياة، إذ أخضعته للفعل الإنساني ليصبح فضاء إنسانيا، فلم يظهر المكان بمعزل عن الشخصيات، وعلى مستوى السرد فإن المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي كما سبق، ويرسم طبوغرافيته ويجعله محققا لدلالته الخاصة وتماسكه.
وجدير بالذكر أن الرؤية السردية هي التي تدمج المكان في النسيج الروائي ومن خلاله يعرف القارئ كيف يعرض المكان، ووفق أية رؤية يتشكل؟ (شعرية المكان في الرواية الجديدة: 113).
لقد قدم لنا أحمد فضل شبلول رؤيته المتميزة للمكان التي تجمع بين الموضوعية والذاتية.
أما الرؤية الموضوعية فقد قدمت لنا المكان الواقعي بحيادية وكشفت عن اهتمام بالتفاصيل المكانية بطابعها الهندسي والجغرافي.
وأما الرؤية الذاتية فهي التي أتاحت للمكان أن ينهض بكل قيمه ودلالته، إذ تحول إلى شاشة لعرض مشاعر السارد وعواطفه ونفسيته وأفكاره مغلفا كل هذا بالرومانسية الصوفية في بعض الأحيان، مبلورا كل ذلك في تلك العلاقة الوثيقة بين المكان والإنسان.
ولقد كلل هذا كله باللغة الجميلة الشاعرية التي كان لها علاقة تبادلية مع المكان، فاللغة هي التي تصنع المكان، وفي المقابل يترك المكان بصمته على اللغة.
" كلَّ صباح / أقفُ أمام البحر / أسألُ هذا الموج: / من أين يجيءُ الماء ..؟ / هل من دمعِ الأمطارْ .. / أم من مجرى الأنهارْ ..؟ / ولماذا كان الأزرق .. / هو لونُ مياهِ البحر ..؟ ضَحِكَ البحرُ وقال: / الماءُ .. الماءْ / أصلُ الأشياءْ" (الرواية 54، 55).
وبعد .. لقد جعل المؤلف حركة المكان العجائبي حركة ارتدادية تنطلق من نقطة مكانية، وتعود مرة أخرى إلى المكان نفسه جاعلا حركة المكان دائرية مسوّرة حيث تحكم في السرد معتمدا على خاصتي التعدد والتداخل، تعدد الأماكن وتداخل الواقعي بالعجائبي.
ينهي السارد حكايته بقوله: " أوحشني الماء العاشق جدا ... بعد شروق الشمس أسبح إلى صخرة ميامي، أجلس هناك بعض الوقت، أرى طيور النورس تحلق من بعيد ... أسمع موسيقى تصدح في سماء القيعان، أسمع صوت مرور الزمان، وأرى شموعا تضيء الممرات والأركان". (الرواية 233).