الموسيقى فن راقٍ يسمو بالبشر

الموسيقى خلق رباني وموهبة إلهية إذ تتكون داخل الإنسان منذ الطفولة، وقد استخدمها الإنسان القديم في توجهاته الأخلاقية تجاه الرب.
الملا عثمان تعرض للنفي إلى سيواس الواقعة على البحر الأسود إثر خطاب حماسي أغضب منه الحاكم العثماني آنذاك
موسيقى سيد درويش سخرت من الحكام الطغاة المتعجرفين الفاسدين من أحفاد المماليك والأتراك والأجانب المستغلين والمحتلين من الإنجليز

مثلما لكل جنس من الكائنات التي خلقها الله تعالى، لغة تتواصل بها، وتتفاهم في ما بينها، فإن لكل فنٍّ لغة يتحدث بها ويبث أفكاره ومعانيه ومفرداته إلى مريديه. غير أن هذه اللغة ليست متاحة لأن يفهمها الجميع، بل يستوعبها فقط من تتلمذوا في مدرسته وظلوا في محرابه لسنوات حتى يغدق عليهم من أسراره ونفحاته، ويفك لهم شفرته، ويُمكّنهم من التماهي معه والانجذاب إليه، وكذلك التحليق في فضاءاته التي لا حصر لها. 
وإذا كان ثمة تسليم بأن بعض الفنون لا يمكن للجميع أن يتعاطى معها مدركاً مغزاها وفحواها، ولا يتمكن من سبْر أغوارها سوى نخبة معينة، امتلكت مفاتيح مدينتها، فإن ثمة تسليما بأن الموسيقى فنٌّ يَسْهُلُ على كثيرين فكُّ رموزه والتواصل الفعال معه، في الوقت الذي قد يجد هؤلاء صعوبة في التعامل مع فنون أخرى كالأدب أو الفنون التشكيلية، خاصة في مراحلها الـ ما بعد حداثية.
هذا ما قاله كاتب هذه السطور، أما علي الورد في كتابه "الزمن الجميل.. نغمات مفقودة" الصادر عن دار رؤية للنشر والتوزيع، فيقول إن الموسيقى مرتبطة بأرواح الناس وأذواقهم، تهيم حيث يهيمون، فلا تحدها الأمصار ولا تنطبق عليها القوانين، وربما يكون انعتاق الموسيقى من كل الشروط والضوابط التي يفرضها البشر، وارتباطها بالروح والذائقة البشرية، هي أحد أسباب أو ركائز سحر وروعة الموسيقى.  
ما أراد أن يصل الورد إليه هنا هو أن الموسيقى فن راقٍ يسمو بالبشر لعوالم غير منظورة، وهي من إبداعات الإنسان التي ظهرت نتيجة تفاعله مع البيئة المحيطة به، فالفنان يتأثر بالحالة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الذي يحيط به ويحيا فيه، كما يتأثر أيضًا بالعوامل الجوية كالشمس والطقس والمياه، حتى إن صوت الفنان يختلف في ظل تلك التغيرات، ونتيجة لهذا يختلف صوت الفنانين من بلد لآخر تبعًا لاختلاف العوامل المحيطة.
في هذا الكتاب يتحدث المؤلف في الأساس عن ثلاثة فنانين كان لهم باع طويل في فن الموسيقى، تركوا وراءهم إرثًا موسيقيًّا ضخمًا، وملأت مؤلفاتهم الموسيقية أرفف الآذان العربية وهم: الملا عثمان الموصلي، سيد درويش، ومحمد القبانجي، طارحًا عدة أسئلة منها ما الموروث الفني الذي خلّفه الملا عثمان، وهل تتلمذ سيد درويش والقبانجي على يد الملا عثمان؟ وهل هناك نقطة التقاء بين الفن المصري والعراقي؟ 

علي الورد تجول بنا في "الزمن الجميل.. نغمات مفقودة" بين أروقة حياة عدد من كبار الفنانين الموسيقيين الذين تركوا بصمة واضحة ومؤثرة في عالم الموسيقى

الملا ودرويش
الورد يرى في كتابه أن القرن العشرين قد حظي بحركة فنية واسعة في العالم بأسره، ولأن البلاد العربية مولعة بالنغم ومسكونة بحس الموسيقى فلم تكن بحاجة إلى أكثر من إلقاء حجر في مياه تراثها الموسيقي الممتد إلى زرياب، وربما إلى أبعد من ذلك، مؤكدًا أن كثيرين من المبدعين الذين خلّفوا إرثًا فنيًّا وثقافيًّا لم يُسلط عليهم الضوء لأسباب قد تتعلق بالتدوين وقد تتعلق بعدم اهتمام المسئولين بهم، أو ربما لأسباب أخرى.
هنا يتحدث الورد كذلك عن الملا عثمان وعن أثره في الموسيقى العربية، مثلما يتحدث عن سيد درويش مقارنًا إياه بمن عاصروه في الموسيقى، متناولاً حياتهما وأعمالهما الفنية ومدرستهما الموسيقية وصبغتهما الإبداعية التي يتميزان بها، وكيف أثّر كلاهما في الآخر سلبًا أو إيجابًا. 
إلى جانب هذا يفرد الورد بابًا في كتابه هذا متناولاً فيه التلامسات الفكرية الموسيقية ما بين سيد درويش ومحمد القبانجي، ودرجة الترابط أو الاختلاف بينهما. ومتأملاً الوضع الموسيقي الآن. يرى الورد أن الثورة الموسيقية ليس لها قانون محدد يضع لها ضوابط نلتزم بها حتى تكون مقبولة، وهي توازي في تغيراتها الثورة نفسها التي حدثت في زمن الموشح وزمن تغيّر الحكم في الأندلس الذي رفض اللغة العربية الفصحى في الموشح والشكل الكلاسيكي وقتذاك. وعلى الرغم من أن الحياة نفسها ترفض، كما يرى الورد، منطق الثبات والجمود على الفكرة الواحدة والإحساس الواحد، وهي دائمة التغير، نجد بعض النقاد يعارضون تطور الموسيقى مثلما حدث في مصر حين قابلوا موسيقى محمد عبدالوهاب ومن بعدها موسيقى عبدالحليم حافظ وصولاً إلى موسيقى أحمد عدوية بالرفض والاستنكار، رغم كونها لاقت قبولاً جماهيريًّا واسعًا. 
في الزمن الجميل نعرف أن الإبداع في حاجة دائمة ومُلحة لوجهات النظر المختلفة حتى تنتج صورًا متعددة ومتنوعة للعمل الفني خاصة الموسيقى. ما يؤكده الورد أيضًا هنا هو أن الموسيقى بشكلها الحالي يصعب أن تُنسب لجهة أو بلد أو مكان ما، لأنّ تضافر جهود الجميع أوصل إلى هذه المسميات التي تستخدم اليوم حتى لو ادّعى من ادّعى أنها ولدت من مكان محدد، ويتناسى أن الدنيا عمرها أكثر بكثير مما ادّعى، وإذا ذُكرت أي تواريخ بهذا الصدد فإنها لا تدل على منبع أو مصدر موسيقي، وإنما تعبّر عن فترة ما بعد التدوين والتوثيق المعروف.
خلق رباني
في كتابه الذي يذكر الورد فيه أن الموسيقى خلق رباني وموهبة إلهية إذ تتكون داخل الإنسان منذ الطفولة، وقد استخدمها الإنسان القديم في توجهاته الأخلاقية تجاه الرب، ونجد ذلك في كتاب المزامير وفي المسيحية التي تناولت الموسيقى في الكنائس، يسرد مراحل حياة الملا عثمان الموصلي ذاكرًا أنه ولد في مدينة الموصل العراقية عام 1854 واستحوذ على كثير من الأسماء والألقاب التي امتدت إلى تركيا ومصر والشام والعراق، وقد قدم الكثير من الأعمال في جميع هذه الدول، محاولاً أن يكون مُجدِّدًا في كل المجالات سواء أكانت موسيقية أو دينية أو صوفية. ومقتربًا أكثر من حياة الملا. يقول الورد إنه تمكن من تجويد القرآن الكريم والإبداع به بسبب غريزته وحبه للفن، وقد وُصف بذكاء المتفوق على أقرانه في جميع المجالات العلمية إذ حباه الله بغريزة الفن والغناء الجميل.
في حياته تعرض الملا للنفي إلى سيواس الواقعة على البحر الأسود إثر خطاب حماسي أغضب منه الحاكم العثماني آنذاك. غير أن هناك رواية أخرى تذكر أن سبب نفيه هو عدم حضوره لحفل رسمي حضره الوالي الذي فسر غياب الملا لموقفه السياسي. لقد قدم الملا أعمالاً كثيرة لم تنجح فقط في زمنه، بل عبرت إلى أزمنة أخرى، لا سيما وهي أعمال لم يقدمها لإنهاء وقت أو لحاجة مادية، إنما كانت أعمالاً روحية خالصة، وقد اختار الكلمة والنغمة المناسبة حتى يخاطب زمنه وصولاً إلى زمننا أيضًا، ومن أعماله هذه يذكر الورد: زُر قبر الحبيب مرة، للعاشق في الهوى دلائل، ليت أمي لم تلدني، لغة العرب اذكرينا، ناح الحمام القمري، وغيرها. وبعد رحلة حافلة من الفن والإبداع أثر فيها على الموسيقى العربية مطوّرًا في بعض الأماكن وداعمًا في بعضها، رحل الملا عثمان عام 1923 وهو الضرير الذي لم يعرف الجلوس ولا الهدوء مكافحًا دؤوبًا على العمل والنشاط، وقد كان كذلك أصيلآ كشجرة جذورها في العراق وفروعها في بقية الدول العربية كمصر وسوريا.

وبعد أن ينتهي الورد من حياة الملا عثمان يقتفي أثر سيد درويش متتبعًا نشأته ومسيرته الفنية وحياته التي كانت بين مد وجزر. سيد درويش الذي عاش حياة صعبة، على حد قول الورد، بدأ رحلته الغنائية الاحترافية في الحياة بسفره الأول إلى دمشق عام 1909 وكان عمره يومذاك سبعة عشر عامًا، وفي هذه المرحلة تعرّف درويش إلى الملا عثمان.
الناطق الرسمي
ومتنقلاً بين دروب حياة درويش يذكر المؤلف أنه أنجز ما يقارب من 432 عملاً فنيًّا بين موشح ودور وأغنية وطقطوقة وأوبرا وأوبرت. ما يضع المؤلف في حيرة واستغراب هو أن سيد درويش قد أنجز كمًّا كبيرًا من الأعمال الفنية في فترة قصيرة. لقد عبر درويش في موسيقاه عن الشيالين والعربجية والفلاحين والمراكبية والصناع والغلابة، كما استطاع أن يجسد الريف المصري والصعيدي حتى السوداني والنوبي ونقل خلاصة فنهم إلى كل مصري. ليس هذا وحسب، بل قدم درويش أعمالاً كانت تثير الجدل لدى الساسة الذين كانوا يتذمرون من شدة النقد في أعماله التي كانت تمثل الطبقة المعدومة من الشعب المصري.
كما سخرت موسيقى سيد درويش من الحكام الطغاة المتعجرفين الفاسدين من أحفاد المماليك والأتراك والأجانب المستغلين والمحتلين من الإنجليز. باختصار كان سيد درويش الناطق الرسمي باسم البسطاء. 
هنا لا يفوت الورد أن يورد بعض آراء الكتاب والفنانين في موسيقى وفن سيد درويش كنجيب محفوظ الذي رأى فيه فنانًا كبيرًا شأنه شأن كبار الفنانين الأجانب الذين خلدت السينما ذكراهم، ويوسف وهبي الذي يقول عنه إنه أول معبر في مصر عن الدراما الموسيقية، وقد كان غناؤه عن الحواري متفاعلاً مع المعاني والمواقف، والعقاد الذي يرى في درويش إمامًا للملحنين ونابغة الموسيقى المفرد في هذا الزمان.
هنا أيضًا يكتب الورد عن الفنان داود حسني الذي ولد بالإسكندرية عام 1870 لعائلة مصرية تنتمي لطائفة يهودية، وكان اسمه الأصلي ديفيد حاييم ليفي. وقد قدم حسني 500 أغنية و30 أوبرا وأوبريتا. في هذا السياق يذكر الورد أن محمد عبدالوهاب الذي درس على يد حسني قال له إنه مثل يُقتدى به في صياغة الألحان ويتمنى كل فنان أن يبلغ علمه ويرقى إلى فنه ويصل إلى مجده.
أيضًا يتحدث عن محمد القبانجي الذي أُطلق عليه أسماء كثيرة منها الفنان والسياسي والمتكلم، وقد كان فنانًا محبوبًا ممن عاصروه وعاصروا فنه، وقد ولد القبانجي عام 1897 بالعراق.  
وبعد.. لقد تجول بنا علي الورد في "الزمن الجميل.. نغمات مفقودة" بين أروقة حياة عدد من كبار الفنانين الموسيقيين الذين تركوا بصمة واضحة ومؤثرة في عالم الموسيقى، ولا نزال حتى اليوم نسمع مؤلفاتهم وألحانهم العذبة التي تعبر عن حياة الإنسان بكل جوانبها حبًّا وفرحًا وحزنًا وألمًا ومعاناة.