الناقدة د.نادية هناوي: منظرو الرواية فرضوا أفكارهم دون تتبع تاريخ السرد

كتاب 'الأقلمة السردية مخابرها الغربية ـ مناشئها الشرقية' يناقش مرجعيات منظري السرد وما قاموا به من توسعيات والتباسات كانت قد أسفرت عنها تلك المرجعيات، وكذا فكرة أن للسرد تقاليد صنعتها جهود من أبدعوها، وانتقلت منهم إلى غيرهم وشاعت عبر الأجيال.

تطرح د.نادية هناوي في كتابها الجديد "الأقلمة السردية مخابرها الغربية ـ مناشئها الشرقية" الصادر حديثا عن مؤسسة ابجد للترجمة والنشر، رؤى معرفية وإشكاليات فكرية حول النظرية السردية.

وتناقش مرجعيات منظري السرد وما قاموا به من توسعيات والتباسات كانت قد أسفرت عنها تلك المرجعيات، وكذا فكرة أن للسرد تقاليد صنعتها جهود من أبدعوها، وانتقلت منهم إلى غيرهم وشاعت عبر الأجيال، فكان كل جيل أو أكثر يبتدع نظاما معينا من جراء عملية تمثل تلك التقالي، وما من ابتداع لنظام سردي إلا بعد استقرار تقاليده المتحصلة من سلسلة مخاضات معقدة وشائكة.

تلفت هناوي في هذا الباب النظر الى أن الأدباء الكبار كانوا قد قدَّموا في أعمالهم نماذج ومواقف وحالات أدبية، تتجلى فيها ملامح الواقع في حركته وفاعليته. وتقول "السمة العامة للأدب أنه لا يستطيع أن يكون من دون الواقعية سواء دار حولها أو تضاد معها أو وافقها. وليست اللاواقعية مذهبا أدبيا ولا هي توصيف شكلي وإنما هي عملية تمثيل تتضاد مع الواقع الحياتي من أجل بلوغ الواقعية. وهو ما يتجلى في طروحات منظري علم السرد غير الطبيعي ومنهم براين ريتشاردسون الذي بنى منظورا في تفسير الواقعية انطلق فيه مما وجده في نصوص روائية وقصصية من اللاواقعية التي تمثل الحياة تمثيلا تضاديا فاجترح مفهوم اللامحاكاة او السرد المضاد.

ترى هناوي أن هذا الأمر ليس بالجديد حيث سبق منظرون آخرون ريتشاردسون في مسألة الاستحالة والعبثية أو اللامعقول وفيها سعى أصحابها إلى التمرد على النقل الموضوعي للواقع واستنكاره والتبرم من أية نزعة منهجية أو أكاديمية تدور حوله. وحاول منظرو ما بعد البنيوية السير في هذا الاتجاه، ساخطين على السلطات التي تقيد النظر إلى الواقع كسلطة النص وسلطة المؤلف، ودعوا إلى فضاء قرائي متعدد الأبعاد، فيه للمؤلف والنص والقارئ حضور واضح كاستجابة لمرحلة ما بعد حداثية تتفتت فيها المركزيات، وهو ما انعكس بدوره على الواقعية كتمثيل وفكر. وغدت الحقيقة مطلبا لا مناص منه.

وتقول "في ظل هذه الأجواء التعددية نشأ علم السرد ما بعد الكلاسيكي؛ فاستحدثت مناهج ـوأطر بحث مختلفة وجديدة في دراسة الواقعية. وتعلل المؤلفة السبب بما أخذت تؤديه مخابر البحث النقدي الغربية خلال العشرين عاما الماضية من أدوار بحثية، تسعى من خلالها إلى تغيير خارطة الدراسات فتحولت رجاحة الكفة من المدرسة الفرنسية إلى المدرسة الانجلو أمريكية التي تبوأت القمة بفضل تلك الحركة المتصاعدة. وهي في كل يوم تثبت أمرا جديدا يؤكد قدرتها على إحراز التقدم النقدي بغض النظر عن أصالة هذا التقدم وممكنات أدواره أو إشكالاته.

ويلاحق كتاب هناوي مستجدات علم السرد بوجه عام وعلم السرد ما بعد الكلاسيكي بوجه خاص، وما فيه من تطورات متلاحقة ومتسارعة، ومن ثم لا يجد الباحث العربي ـ وفقا لهناوي ـ مناصا من أن يكون فاعلا يضيف ويربط ويراقب ويتمم وربما ينافس أو يعارض أو يشخص، وليس كما كان سابقا يتابع كي يهضم.

ويولي الكتاب اهتماما كبيرا بالرواية فهي تأتي باجناسيتها في مقدمة كشوفات الغربيين النقدية وهي عندهم اختراع أوروبي محض، نشأ في القرن الثامن عشر وأصوله تصنعت من تلقاء نفسها، وهو ما ترفضه المؤلفة وتتساءل الا تكون هناك تطورات حصلت وتحولات ساهمت في هذه النشأة بالإضافة الى ما كان لآداب اليونان والرومان من تأثيرات في السرد الأوروبي؟.

وتشير هناوي الى ان منظري الرواية فرضوا أفكارهم من دون تتبع تاريخ السرد بل الرواية كتابة أدبية جديدة عرفها الأديب الأوروبي وبلغ بها مرتبة التجنيس من دون مرور بمرحلة انتقالية.

وتأخذ على النقد الراهن أنه بالرغم مما تشهده المرحلة من انفتاح عولمي، فإن الدرس النقدي غير قادر على الفكاك من قيود التبعية، بل هو متهيب من التحرر مع ان الانفتاح الذي يشهده العالم يبشر بعصر نقدي جديد، يمكن لنا أن نستثمره، ولكن جودة هذا الاستثمار تتوقف على طبيعة استعداداتنا وحقيقة تطلعاتنا.

وتلفت هناوي النظر إلى حقيقة وجود نظام سردي هو حصيلة تراكمات من التجارب هي عبارة عن تقاليد سردية، يستوعبها الكاتب ضمنيا فيُخضِع موضوعه لها فنيا. والمحصلة أشكال سردية لها عناصرها التي فيها يتمثل النظام السردي وفيه المؤلف فاعل على مستويين: الأول وظيفي ويتمثل في البناء التخييلي للعناصر السردية والثاني مرجعي ويتمثل في إتباع التقاليد وتوظيف النظام.

وترى أن المنظرين الغربيين اهتموا بالمستوى الأول، وافترضوا أن المستوى الثاني ليس مهما نسبيا؛ إما اعتدادا بالنص أو بالقارئ وأما خشية من أن يؤدي البحث في المرجعيات إلى الوقوع على تقاليد تعود أصولها وتراكمات أنظمتها إلى حضارة غير حضارتهم وإرث غير إرثهم. فقلل نقاد النظرية الأدبية من أهمية التنقيب عن المرجعيات وعدوا الأدب نتاجا متحررا من صانعه. فبدا النظام السردي كما تقول د. هناوي عائما باطلاقية لا زمان لها ولا مكان. لكن ذلك برأيها كله لم يلغ حقيقة أن الإبداع الأدبي نتاج تجربة فردية، اتبع صاحبها في التعبير عنها مسارات معينة فنية وموضوعية ضمن مرحلة تاريخية ما.

وتؤكد أيضا أن كبريات الجامعات الغربية سعت إلى وضع موسوعات تجمع فيها التقاليد السردية عبر مراحل تاريخية محددة، معرِّفة الدارسين والباحثين بها، لكن ذاك السعي اقتصر على ما أنتجه الأدباء في العصور الحديثة مع النظر إلى تقاليد الأدبين اليوناني والروماني وغض النظر عن تقاليد آداب الشرق القديم وحضاراته العريقة، وما في تلك الآداب من روائع المرويات التي هي نماذج لتراكمات تقاليد سردية تركت أثرها في الأدب الإنساني سردا وشعرا وعلى اختلاف مراحله.

وهنا تكون اطروحة الكتاب قد وصلت الى شقها الثاني وهو أن الأدب العربي امتلك تقاليده التي كونها من جراء ما انتقل إلى لغته من حكايات وأساطير أمم وحضارات قديمة ومجاورة. ولم يوجّه منظرو الأدب اهتماماتهم النقدية والمعرفية إلى انجازات الآداب الشرقية والأدب العربي خاصة إلا بقولبتها في إطار نقدي مقارن، أو استشراقي كولونيالي يبحث في التأثر والتأثير وليس في التأصيل والتقليد. وتمضي المؤلفة تؤكد ان تلك الكشوفات والمحصلات انما تصب في صالح الفكر الغربي، وتخدم طموحاته التي بمجموعها تؤكد وتدعم جدارته العلمية وتعزز هيمنته العالمية السياسية والاقتصادية.