انتهى عصر نصرالله وبدأ عصر لبنان
ودع حزب الله أمينه العام السابق حسن نصرالله باستعراض جنائزي ينطوي على إشارات رمزية متباينة، يمس بعضها الحقيقة فيما يترامى البعض الآخر في حقول العاطفة. وما دام الموضوع يتعلق بشخص استثنائي مثل نصرالله فلابد أن يفكر المرء في مستقبل الحزب الذي وضع مقتل نصرالله علاقته الجوهرية بإيران تحت أضواء عالمية كاشفة. ففيما كان وجود الزعيم السابق يشكل الدعامة الأساسية لتماسك الحزب نظرا لما امتلكه الرجل من مواهب القيادة في مختلف أحوالها فإن غيابه مصحوبا بما تعرض له الحزب من ضربات قاصمة لابد أن يفتح الطريق على المجهول في ظل تعثر صلة الحزب المادية بإيران باعتبارها الداعم والممول الوحيد له وهو ما بدا واضحا في المسيرة الجنائزية حيث لم تحضر إيران بما يمثل ثقلها الحقيقي في حياة الحزب.
قيل الكثير عما تعنيه الجنازة من وداع مزدوج لشخص نصرالله وللحزب معا. فالحزب بعد نصرالله لن يكون الحزب نفسه الذي كان يمثل رأس الحربة في المشروع الإيراني للمقاومة. ذلك لأن الظروف المحلية والإقليمية والعالمية تغيرت وليس لأن جبهته انهارت ففقدت إيران هيمنتها السياسية على لبنان فقط. لبنان اليوم هو غير ذلك البلد الذي تمكن فيه السيد من إقامة دولته التي كانت مهيمنة على القرار السياسي فيه. هناك اليوم في قصر بعبدا رئيس وهناك حكومة لا يخضع أعضاؤها للأحزاب يرأسها خبير قانوني لا يؤمن بالطائفية. رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لم يتم اختيارهما بالعودة إلى حزب الله. ذلك تطور كبيرا طرأ على الواقع السياسي اللبناني الذي كان في الماضي القريب يتعثر في مكانه أوقاتا طويلة من غير أن يُظهر أية إمكانية ذاتية على الخروج من النفق.
كان لبنان أشبه بالمريض وحزب الله هو مرضه.
منذ تأسيسه كان لبنان دولة تنظم شؤونها بالإستناد إلى معيار المحاصصة الطائفية. تربى اللبنانيون على الطائفية حتى صارت جزءا من ثقافة الشارع. في أحيان كثيرة ينكر اللبناني طائفيته رغبة منه في أن يبدو متحضرا غير أن أزمة صغيرة يمكن أن تزيح ذلك القناع عن وجهه الذي هو وجه طائفي. غير أن واحدة من أسوأ مراحل الطائفية التي مر بها لبنان هي تلك المرحلة التي هيمن فيها حزب الله عليه. ألآن تلك المرحلة ارتبطت بشكل عضوي بالمشروع الإيراني بحيث صارت الطائفية غطاء لإحتلال إيراني مُقنَع؟ كان السيد يفاخر بولائه لإيران وكانت تلك المفاخرة جزءا من المذهب. ذلك تحول خطير في المفهوم الطائفي قاد لبنان إلى الحضيض بحيث صار السلاح هو الحكم الذي يفرض إرادته. منذ عام 2006 صار لبنان سجين إرادة حزب الله وكان السيد يسخر ببراعة من ضعف اللبنانيين.
احتكر حزب الله تمثيل شيعة لبنان وكانت حركة أمل بقيادة نبيه بري حليفه التقليدي. بري الذي ينتمي إلى الطبقة السياسية التقليدية عرف كيف يضمن حياته. لقد خرج من الحرب الأهلية حيا في إطار قواعدها، لذلك فإنه لم يجر وراء نصرالله الذي هو ليس إبنا للطبقة السياسية التقليدية. كان تضامنه مع حزب الله يتم في حدود ضيقة وهي الحدود التي تضمن له بقاء سلطته التقليدية في حدودها المقبولة. أما نصرالله فلم يطمح إلى أن يحكم لبنان حسب، بل كان يسعى إلى تحويله إلى ولاية فارسية من خلال إنهاء المحاصصة الطائفية التي اخترعتها فرنسا لحساب الطائفة الأكثر عددا وهي الطائفة الشيعية. في حقيقة الأمر فإن الطائفة الشيعية لم تكن سوى المركب الذي ينقل الإيرانيين إلى لبنان. كان لبنان مهددا في وجوده دولة وشعبا.
وإذ ودع حزب الله زعيمه فإن لبنان بدوره ودع المشروع الإيراني ليبدأ في ترميم مشروعه الوطني القائم على إعادة صلته بمحيطه العربي. لم يكن لبنان الطائفي ليشكل خطرا على العالم العربي ولكن الخطر كان يكمن في لبنان الإيراني. وهو لبنان لا تملك الطائفة الشيعية خيرا فيه، ذلك لأنه سيغمرها بالفقر والفاقة والجهل والمرض والمسيرات الجنائزية واللطم والبكاء والكراهية والمرويات الكاذبة. لقد انفجرت الفقاعة بمقتل السيد فكانت جنازته بمثابة نهاية لعصر غادره اللبنانيون وبضمنهم الشيعة. لقد انتهى عصر حسن نصرالله. كسب اللبنانيون حريتهم. لن تتمكن إيران من العودة إلى بلادهم. سيستعيد الشيعة بلادهم باعتبارهم مواطنين وليسوا وكلاء.