انجذاب ونفور بين عملاقي الأدب الروسي

الكاتبان العظيمان ليف تولستوي وفيودور دوستويفسكي عاشا في عصر واحد، وينتميان الى جيل أدبي واحد تقريبا.
الكاتبان لم يتقابلا على الإطلاق، على من سنوح الفرصة لذلك أكثر من مرة
تولستوي كان طوال حياته الإبداعية، يقرأ أعمال دوستويفسكي بشغف كبير، ولكن انطباعاته عنها كانت متذبذبة ومتناقضة

عاش الكاتبان العظيمان ليف تولستوي وفيودور دوستويفسكي في عصر واحد، وينتميان الى جيل أدبي واحد تقريبا، فقد ولد تولستوي في عام 1828، وولد دوستويفسكي في عام 1821، وتزامن نشاطهما الأدبي ما يقرب من ثلاثة عقود، وكان لديهما العديد من الأصدقاء المشتركين (نيكراسوف، تورغينيف، اوستروفسكي، غونشاروف، ستراخوف). وكان من المنطقي أن يلتقيا ذات يوم في حياتهما، ولكن هذا لم يحدث قط، ويبدو أن كلا منهما كان يتوق إلى لقاء الآخر، وفي الوقت نفسه يتوجس خيفة من أن يتحول اللقاء المرتقب إلى صدام .
كان تولستوي يقيم معظم الوقت في ضيعته المسماة "ياسنايا بولينا" الواقعة جنوب موسكو، وأحياناً في منزله الموسكوي. أما دوستويفسكي فقد كان يقيم في بطرسبورغ، أو في خارج البلاد. ولكن تولستوي كان يتردد أحيانا على بطرسبورغ لبعض أشغاله. كما كان العديد من الأدباء الروس يزورون تولستوي في ضيعته أو في منزله الموسكوي. فكيف لم يخطر ببال أحد الأصدقاء المشتركين أن يجمع بين أشهر كاتبين معاصرين! أو أن يبادر أحدهما لزيارة الآخر للوقوف على آرائه في الأدب والفن والحياة. لكم كان ذلك - كما يبدو ظاهرياً - جميلاً وعظيمًا. 
كلا لم يتقابلا على الإطلاق، على الرغم من سنوح الفرصة لذلك أكثر من مرة .
في العاشر من مارس/آذار عام 1878 سافر تولستوي إلى بطرسبورغ لسماع محاضرة الفيلسوف فلاديمير سولوفيوف، الأستاذ الجامعي، والمنظر الفلسفي للرمزية الروسية، حيث كان دوستويفسكي حاضرا أيضا مع زوجته آنّا غريغوروفنا في القاعة ذاتها .
كما كان صديقهما المشترك والمقرّب منهما، الفيلسوف نيكولاي ستراخوف حاضراً أيضا. وكان من المنطقي أن يبادر ستراخوف إلى تقديم الكاتبين إلى بعضهما البعض، واللذان أرادا ذلك منذ فترة طويلة. ولكن ستراخوف لم يفعل ذلك. وتقول زوجة دوستويفسكي، آنّا غريغوروفنا، في مذكراتها، إن تولستوي طلب من ستراخوف أن لا يقدمه إلى أحد. ويبدو هذا التبرير منطقيا، لأن تولستوي كان يشعر بنفسه غريباً في هذه المدينة .  

Russian literature
تولستوي كان يتلو هذه الرواية على مسامع زواره 

وفي الأسبوع الأخير من مايو/آيار 1880 حضر دوستويفسكي إلى موسكو للاشتراك في احتفالية إزاحة الستار عن تمثال بوشكين، قبل موعد الاحتفال بعشرة أيام، من أجل السفر إلى ياسنايا يوليانا لزيارة تولستوي والعودة إلى موسكو قبيل بدأ الاحتفال. لكن الإشاعة المنتشرة في الوسط الأدبي حول حالة تولستوي النفسية جعلته يعدل عن السفر. وكتب دوستويفسكي في رسالة إلى زوجته في 28 مايو/آيار، يقول فيها، إنه سمع من بعض الأدباء أن تولستوي قد أصيب بالجنون.
في 6 يونيو/حزيران 1880 جرت إزاحة الستار عن تمثال بوشكين. وفي 8 يونيو/حزيران عقد اجتماع لجمعية عشاق الأدب الروسي، ألقى فيه دوستويفسكي كلمته الشهيرة عن بوشكين والتي هزت مشاعر الحضور. كان جميع الكتاب المشهورين حاضرين باستثناء تولستوي، على الرغم من أن تورغينيف سافر إلى "ياسنايا بوليانا" خصيصا لإقناعه بالمجيء. ولكن تولستوي اعتذر عن الحضور. كان هذا في ذروة أزمة تولستوي الروحية، حيث اعتبر جميع أنواع النصب والتماثيل غرورا دنيويا .
 آراء تولستوي حول أعمال دوستويفسكي
 كان تولستوي، طوال حياته الإبداعية، يقرأ أعمال دوستويفسكي بشغف كبير، ولكن انطباعاته عنها كانت متذبذبة ومتناقضة. فهو ينبهر بها حيناً، وينفر منها حينا آخر، وقد يحدث الأمران معا في وقت واحد. فقد كان ينتقد أسلوب دوستويفسكي والشكل الفني لأعماله، وفي الوقت نفسه يقول إن تلك الأعمال تتضمن صفحات رائعة ومذهلة: "أنت تقرأ ويتملكك شعور بأن المؤلف يريد أن يقول لك أفضل ما لديه، ويعبر عما نضج في روحه ".
وكتب الطبيب والعالم النفساني الكساندر لازورسكي يوم 10 يوليو/تموز 1894 في مذكراته يقول، إنه زار تولستوي ذات مرة ، وجرى الحديث خلال الزيارة عن دوستويفسكي. وقال تولستوي:"  عندما تقرا لدوستويفسكي عليك الغوص عميقا في كتاباته، ونسيان عيوب الشكل الفني لديه، من أجل العثور على الجمال الحقيقي تحته ".
ويقول بيوتر سيرغيينكو – كاتب سيرة تولستوي - في مذكراته، إن تولستوي ينظر إلى دوستويفسكي على أنه مفكر، ويكن له احتراما عظيما. وكان يعتبر "الجريمة والعقاب" عملا أدبيا مذهلا، حتى أن عدة صفحات من هذه الرواية، التي لم يعن مؤلفها بشكله الفني كثيرا تعادل عنده العديد من مجلدات أعمال الكتاب المعاصرين الآخرين. في حين أن دوستويفسكي كان يقدر تولستوي كفنان أكثر من  كونه مفكرا.
وفي محادثة مع الكاتبة والمترجمة الروسية ليديا فسيايتسكايا قال تولستوي: "إينما فتحنا أي عمل من أعمال دوستويفسكي، نرى بوضوح أفكاره ومشاعره ونواياه وأحاسيسه، وكل ما تراكم في روحه، وفاض طالبا الخروج".
كان تولستوي يحتفظ بمكتبته المنزلية في "ياسنايا بوليانا" بأعمال دوستويفسكي الكاملة المؤلفة من 13 مجلدا الصادرة عام 1882، بعد فترة وجيزة من وفاة دوستويفسكي. وقد قرأ تولستوي "الأخوة كارامازازوف" أكثر من مرة، وأثارت في نفسه مشاعر متباينة من الانبهار إلى الرفض. ولكن كانت ثمة قوة غامضة تجذب تولستوي إلى هذا العمل. وجاء في رسالة تولستوي إلى زوجته صوفيا اندرييفنا في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1892: "قرأنا الاخوة كارامازوف بصوت عال مرة أخرى وقد أعجبتني جدا". أي أن تولستوي كان يتلو هذه الرواية على مسامع زواره في ذلك الوقت .
كانت "ياسنايا بوليانا" قبلة لأهل الفن والأدب والفكر من مختلف الاتجاهات الفنية والأدبية، ولم يكن الجدل فيها ينقطع حول دوستويفسكس. وكان تولستوي يستمع إليهم، ولكنه كان يحتفظ برأيه حول الشكل الفني لأعمال دوستويفسكي، ومع ذلك، لم يشكك يوما في أهمية إبداع دوستويفسكي الأخلاقية والفلسفية للوجود الإنساني ومصير العالم وقيمه.

في سبتمبر/أيلول 1880 كتب تولستوي رسالة الى ستراخوف يقول فيها: لم تكن صحتي على ما يرام في الأيام الأخيرة. قرأت "البيت الميت". لقد نسيت الكثير، وأعدت القراءة. لا أعرف كتابا أفضل من هذا في الأدب الجديد بأسره، بما في ذلك بوشكين. ليست النبرة، ولكن وجهة النظر، فهي مذهلة، صادقة، طبيعية، مسيحية. إنه كتاب تنويري جيد. لقد استمتعت به بالأمس طوال اليوم، كما لم أستمتع منذ فترة طويلة.
آراء دوستويفسكي حول أعمال تولستوي
عندما قرأ دوستويفسكي رواية "الحرب والسلام" عام 1869، تركت في نفسه انطباعا قويا. وأخذ يفكر في تولستوي باستمرار. وفي عام 1870 كتب دوستويفسكي رسالة إلى ستراخوف يقول فيها: لطالما أردت أن أسالك: هل تعرف تولستوي شخصيا؟ إذا كنت تعرف، اكتب لي، أي نوع من الأشخاص هو؟ أنا مهتم للغاية بمعرفة أي شيء عنه. لقد سمعت القليل عنه كشخص .
وفي رسالة إلى القارئة كريستينا الجيفسكايا عام 1876، كتب دوستويفسكي يقول: على الكاتب الفني أن لا يكتفي بمعرفة الشعر فقط،  بل أيضا الواقع التأريخي والمعاصر بأدق تفاصيله. في رأيي لدينا كاتب واحد لامع في هذا المجال وهو الكونت تولستوي.
في عام 1877 كتب ستراخوف رسالة إلى تولستوي يعلمه فيها بنجاح "انا كارينينا" في سانت بطرسبورغ: دوستويفسكي يحييك ويصفك بـ "إله الفن". ونشر دوستويفسكي مقالا في "يوميات كاتب" مخصصا لهذه الرواية، أعرب فيه عن إعجابه بالمستوى الفني الرفيع لهذا العمل الأدبي، بما تتضمنه من مشاهد عبقرية. وجاء في المقال أن رواية "آنا كارينينا" هي الكمال بعينه، ولا يوجد في الأدب الأوروبي عمل فني يمكن مقارنته بهذه الرواية. تولستوي موهبة ضخمة وعقل جبار، وهو يحظى باحترام عظيم بين المثقفين الروس. ويختم مقاله بالقول: إن أشخاصا مثل مؤلف "انا كارينينا" هم معلمو المجتمع ونحن طلابهم فقط". ومع ذلك لم يخلُ المقال من بعض الملاحظات السلبية.
رد فعل دوستويفسكي على "أزمة تولستوي الروحية "
في نهاية السبعينيات وبعد ان أنهى كتابة رواية "آنّا كارينينا" أصيب تولستوي بأزمة روحية هزت كيانه، ونجد في اعترافاته التفصيلية والصادقة المسار الكامل لأفكاره حيث أخذ يتساءل: ما الجدوى مما أفعله الآن؟ وما الذي سأفعله غداً؟ وما حصيلة حياتي كلها؟ وبتعبير آخر هل لحياتي معنى لن يدمره الموت الحتمي الذي ينتظرني؟ 
وبحث في كتب العلم والفلسفة والدين عن ما يمكن أن يساعده في العثور على إجابات لتساؤلاته  ولكن خاب أمله، فأخذ يحاول أن يفهم نفسه ويجد الحقيقة الأقرب إلى قلبه.
كانت الكونتة الكساندرا تولستايا (1817-1904) كاتمة أسرار ليف تولستوي الروحية. وثمة رسائل كثيرة متبادلة بينهما، يبث فيها تولستوي، ما يفكر فيه، وكانت على دراية كاملة بأزمة تولستوي الروحية، وآرائه الجديدة في الفن والدين والحياة. ولها علاقات صداقة بأبرز الكتاب والشعراء الروس المعاصرين. وقد تعرفت على دوستويفسكي عن قرب في شتاء عام 1881، قبل وفاة الأخير بعدة أسابيع، وجاء في رسالة لها إلى تولستوي عن لقائها بدوستويفسكي: إنه يحبك جدا، وقد سألني عنك كثيراً، لأنه سمع الكثير عن اتجاهك الحالي، وسألني أخيرا إن كان لدي أي شيء مكتوب عن ذلك، حيث يمكنه التعرف بشكل أفضل على هذا الاتجاه الذي يهتم به بالغ الاهتمام. وقد قدمت له إحدى رسائلك الموجهة لي عام 1880.
وكتبت الكساندرا في مذكراتها تقول: حتى الآن أرى دوستويفسكي وهو يمسك برأسه، ويكرر بصوت يائس: ليس هذا، ليس هذا. ولم يتعاطف مع أي فكرة من أفكار تولستوي. هكذا كان رد فعل دوستويفسكي تجاه أزمة تولستوي الروحية .
تولستوي يبكي دوستويفسكي
في فبراير/شباط 1881 كتب ليف تولستوي رسالة إلى نيكولاي ستراخوف جاء فيها: كم كنت أود لو استطعت أن أقول كل ما أشعربه تجاه دوستويفسكي .. أنا لم أر هذا الشخص قط، ولم تكن لي أي علاقة مباشرة به، ولكن فجأة عندما مات، أدركت أنه كان اقرب إنسان إليًّ ، وأعز إنسان على قلبي، وأكثر من كنت بحاجة إليه. لقد كنت أديباً، وكل الأدباء مغرورون، وحسودون. وأنا - في الأقل - أديب أيضاً. لم يخطر ببالي إطلاقا ان أقارن نفسي به. لأن كل ما كان يبدعه، من أدب جيد وحقيقي يعجبني، ويجعلني أفضل حالا. الفن يثير غيرتي، والعقل أيضاً. ولكن الفن لا يشيع في القلب إلا الفرح. لقد اعتبرته صديقاً، ولم أفكر بخلاف ذلك. وكنت أظن إننا سنلتقي، ولكن ذلك لم يحصل. وفجأة - وانا أتناول وجبة العشاء وحدي لتأخري - وقع نظري على نبأ وفاته. ذهلت، واتضح لي، كم كان عزيزا عليّ، وبكيت، وأنا الآن أبكي. 

Russian literature
تركت في نفس ديستويفسكي انطباعا قويا

ندم بعد فوات الأوان
وقد أوردت، آنّا غريغورييفنا دوستويفسكايا، زوجة دوستويفسكي في مذكراتها نص المحادثة التي دارت بينها وبين تولستوي بعد وفاة زوجها. قال تولستوي :
-   أنا نادم للغاية على عدم لقاء زوجك  .
-  لقد شعر زوجي أيضا بندم عميق. حقا كانت ثمة فرصة للقاء – كان هذا عندما جئتم إلى بطرسبورغ لسماع محاضرة سولوفيوف - حتى أنه عاتب ستراخوف، لعدم إخباره بوجودك في المحاضرة. وقال زوجي حينها: كنت سألقي عليه نظرة في الاقل، إذا لم تكن الفرصة سانحة للتحدث معه .
- حقًّا. أكان زوجك في تلك المحاضرة؟ لماذا لم يخبرني ستراخوف يذلك. أنا آسف جداً فقد كان دوستوبفسكي بالنسبة إليّ شخصا عزيزا. وربما كان بوسعي أن اسأله عن أمور كثيرة ويجيبني عنها. أخبريني أي نوع من الأشخاص كان زوجك؟ وكيف هي الصورة التي يقيت عنه في روحك، وفي ذاكرتك؟
وتقول زوجة دوستويفسكي: لقد تأثرت جدا بالنبرة المخلصة الصادقة التي تحدث بها عن فيودور ميخائيلوفيتش. فقلت بحماس: كان زوجي العزيز مثالا ساميا للإنسان، ويتحلى بكل الصفات الأخلاقية والروحية التي تزين الإنسان. تلك التي كانت تظهر عند زوجي بأعلى درجة. فقال الكونت ليف نيكولايفيتش بنبرة متأملة صادقة: هكذا كان تصوري عنه دائما.
كانت رواية "الأخوة كارامازوف" آخر كتاب قرأه تولستوي قبيل مغادرته ياسنايا بوليانا، ووفاته في محطة للسكك الحديد، في نوفمبر/تشرين الثاني 1910.