اهدار فرص الإصلاح السياسي في الكويت

تدخل القضاء في إبطال مجالس برلمانية منتخبة بسبب اخطاء اجرائية، امر يجب اعادة النظر فيه.

لم تضيّع فرصة للإصلاح السياسي والوطني اكبر من الفرصة التي ضاعت من النظام الحاكم في الكويت عام 2022، عندما تفاعل الشارع الكويتي بشكل غير مسبوق مع خطاب ولي العهد الشيخ مشعل الاحمد الصباح، والذي بشر فيه بدولة جديدة تقوم على طي مرحلة العبث وتجيير مقدرات البلد لصالح قوى الفساد.

شدد الخطاب على ترسيخ دولة القانون وعلى التزامها بمقتضيات الدستور، حتى قيل ان كويت ما بعد الخطاب الاميري مختلفة تماما عن ما سبقه، واستبشر الجميع بتولي الشيخ أحمد النواف مقاليد رئاسة الوزراء خلفا للشيخ صباح الخالد، حيث اعتبرت الاوساط السياسية رئاسة أحمد النواف انطلاقة جادة نحو اجراء تصحيح تاريخي غير مسبوق للمسار السياسي، وخروجا محسوما من التعثر التنموي الذي قبعت فيه البلاد لسنوات طويلة.

تفاعلا مع هذا المسار بادرت عدة شخصيات سياسية مقاطعة للانتخابات الى العودة والمشاركة تفاؤلا بالعهد الجديد وشعارات المرحلة، وكان في مقدمة هؤلاء السياسي المخضرم أحمد السعدون الذي شارك بقوة في الانتخابات وترأس تاليا مجلس الامة 2022 قبل ان تبطله المحكمة الدستورية، ويعود مجلس 2020 للواجهة من جديد، قبل ان يتم حله هو الاخر في مشهد ثقيل على الحياة السياسية التي لم تشهد استقرارا على مدى سنوات مديدة.

ثمة آراء مختلفة في تقييم ما جرى، لكن من المؤكد أن تدخل القضاء في إبطال مجالس برلمانية منتخبة بسبب اخطاء اجرائية، امر يجب اعادة النظر فيه، فالأخطاء تتحملها الدولة ولا يتحملها الشعب ولا يجب معاقبة الشعب كاملا على اخطاء لا دخل له فيها اطلاقا، وفكرة الإبطال ان كانت مقبولة فهي تكون كذلك فقط في حال ثبت بالأدلة المادية الملموسة ان الانتخابات جرى تزويرها بطريقة او اخرى، اما الحل بسبب اخطاء في المراسيم والاجراءات فمن شأنها ان تعرقل المسار السياسي وتطوراته، وتفقد الناس ثقتها بالدولة ومؤسساتها.

لو عدنا الى رصد تفاعل الشارع الكويتي حتى الان مع الانتخابات فسوف نلاحظ بشكل واضح جدا انخفاض درجة التفاعل مع انتخابات 2023 مقارنة مع الحماس والتفاعل واسع النطاق الذي ابداه الشعب في انتخابات 2022، حينها كانت ارتدادات استقبال الخطاب الاميري والتفاؤل برئيس الوزراء الجديد وابتعاد بعض الوجوه السياسية المرفوضة شعبيا عن الساحة لها اثرا مباشرا في اندفاع الناس نحو الصناديق.

يقدم التفاعل الجماهيري لاي نظام سياسي قوة لحسم الملفات العالقة بأقل قدر من التكلفة السياسية، فكل الاجراءات التي سيبادر لها النظام مهما كانت موجعة سيتم التفاعل معها من قبل الناس املا بالإصلاح القريب.

لقد تأمل الشعب الكويتي ان يكون العهد الجديد جديدا فعلا في القضاء على الفساد المستشري في مفاصل الدولة والمؤسسات والاجهزة العمومية، وان تبادر الحكومة نحو الخروج من الشعار الاستهلاكي "الكويت مركز مالي وتجاري" الى تحقيقه فعلا، وان تضع رؤية وطنية متطلعة الى الامام تنهض بواقع الدولة، وتنظم العلاقة مع الطبقة التجارية وتوظيفهم في مشروع التنمية.

لكن ذلك لم يحدث، ولم يستغل النظام هذا الزخم الشعبي في اجراء اصلاحات كبيرة ونوعية، بل ظل الحال على ما هو عليه، بل ثمة من يعتقد ان المشكلات تضاعفت وتعقدت.

 الفساد (كمنظومة تخريب) لم تنكسر شوكته، ان لم يكن قد تزايد وتضخم بشكل خطير وغير مسبوق، واصبحت له مسوغاته وتخريجاته وتبريراته، ولا تزال الواسطة تلعب دورها في تحطيم الارادات الوطنية، واصبحت جزءا من ماكينة الفساد العملاقة.

اما الادارات الحكومية فهي تعاني من ترهل وظيفي غير مسبوق، فلا يزال ثلثي الموظفين في القطاع العام يكتفون بتقييد بصمة الحضور ثم الانصراف الى منازلهم على علم ورعاية من كبار المسؤولين في الدولة واستلام الراتب نهاية الشهر، بل اصبح الموظف يختار في بداية حياته الوظيفية الوزارة والقطاع الاكثر اهمالا الذي يوفر كوادر مالية اعلى مع ضمان عدم الزامية الانضباط في العمل او التسيب التام.

اما التعليم فيمر بأسوأ مراحله وادنى مستوياته المعرفية، وعلى الرغم من القفزات العلمية الهائلة في العالم، ومتطلبات التنمية التي تلزم الدولة بتقديم عناية غير مسبوقة لقطاع التعليم، الا ان وزارة التربية لا تزال محصنة من التطور، والادارة السياسية في البلاد لا تزال تعطي رسائل سلبية بإهمال هذا القطاع وتهميشه، اخرها تغيير مواعيد الاختبارات في المدارس لتعارضها مع وقت الانتخابات البرلمانية.

اما التجار فهم لا يزالون يوظفون الدولة ومؤسساتها لصالح تضخيم رؤوس أموالهم ولا يساهمون في اي عمل وطني الى جانب الدولة، بل لايزالون يتعاملون مع الدولة على أنها ماكنة لتفريخ النقود وتعزيز النفوذ المالي.

معالم الدولة التاريخية يتم البطش بها اهمالا وتخريبا وتدميرا، فجزيرة فيلكا الذي قام فيها مركز حضري قبل حولي 3 الاف سنة والتي تعد مركزا دينيا قديما، سحقت جميع معالمها القديمة وتم اهمالها وتحويلها الى جزيرة مهجورة، والمعالم التراثية والتاريخية في نواحي الدولة وبقية الجزر اما تمت ازالتها او تركها عرضة للتآكل.

وفي ذات الوقت لا تزال المؤسسة البرلمانية معطلة ورهينة رضا السلطة التنفيذية وقبولها، والحكومة مؤقتة ومكلفة بتصريف العاجل من الامور في اغلب ايام السنة، والخطأ الاجرائي تحول الى خطيئة بحق الوطن واساءة بحق المواطن وحقه الديمقراطي.

يبدو واضحا ان مشكلة هذا التعثر تكمن في نظرة الحكومة الى الديموقراطية وممارستها، فهي لا تؤمن بها وربما تراها تركة ثقيلة انتجها الجيل الراحل واصبحت عبئا على الحكومات الحالية، ويتبين ذلك في المحاولات الحثيثة لتنفير الناس من العمل البرلماني برمته.

وربما ما يتم تداوله من محاولة افساد ذمم البرلمانيين في عطاءات مشبوهة، وليس اخرها التسريبات التي شغلت الشارع الكويتي والتي عرفت بالرواتب الاستثنائية ومنحت الى عدد كبير من الوزراء والنواب دون مبرر يذكر هي جزء من برنامج تفريغ المؤسسة البرلمانية من قوتها.

لقد اصبح ملحا اختيار حكومة تؤمن بالديمقراطية وتدعم العملية السياسية وتحرص على عدم تلويث ذمم النواب والقياديين بالعطاءات والمنح المجانية، حتى قال بعضهم ان الدخول الى البرلمان يعتبر دخول اعضاء جدد الى نادي كبار الاثرياء.

وعلى نفس السياق اصبح من الملح تحديد اختصاصات المحكمة الدستورية، وسن القوانين التي تحافظ على سير العملية الانتخابية بشكل سليم، وربما هذا ما اشار اليه الخطاب الاميري الذي القاه ولي العهد في اواخر شهر رمضان والذي حل بموجبه مجلس 2020 واعلن انه سيواكب ذلك إصدار جملة من الإصلاحات السياسية والقانونية المستحقة لنقل الدولة إلى مرحلة جديدة من الانضباط والمرجعية القانونية.

ويبدو لي ان الخطوة السياسية الاهم تكمن في اختيار رئيس حكومة مقتدر، رئيس وزراء يعني شخصية مؤهلة سياسيا قادرة على توليد افكار سياسية جديدة وتقديم حلول وطنية مبتكرة تخرج الدولة من مأزق التخلف الذي وقعت فيه، فرئيس الوزراء يفترض ان يكون الاعلم سياسيا والاقدر اداريا لقيادة هذا المنصب وتحمل استحقاقاته.

هذه الاولويات اصبحت امرا مستحقا وغير قابلة للتأجيل والتمديد، ففرص الاصلاح السياسي تبدو اليوم اضيق من السابق، ومن المؤكد انها سوف تزداد صعوبة وكل تأخير في البدء بالإصلاح السياسي يحمل النظام السياسي تكلفة باهظة الثمن، نحن جميعا في غنى عنها.