بحث عن ماهيّة المواطن والوطن في 'سيدي قنصل بابل'

رواية الكاتب العراقي المغربي نبيل نوري لكزار سيرة ذتية مُشبّعة بمجموعة من الحكايات والأحداث تمثل صرخة احتجاج لطفل يواجه عالما شرسا متوحشا، وهو أعزل إلّا من أحلامه في المساواة مع أقرانه.

في خضمّ بحثه عن الهويّة، تنهال فصول روايته كحجارة تسقط إلى القاع، تاركةً أنينا مبحوحا، ورغباتٍ مشلولة لتأكيد الذات والبحث عن ماهيّة المواطن ومعنى الوطن، في ظروف حادة تحيط بطفل وحيد مع أمّه المُنفصلة عن زوجها، والتي هي مزيج من انتهاك لحق الطفولة في الحياة، وامتهان للأمومة أيضا، وذلك لأن هذه المرأة لم تستطع أن تمنح هويتها الوطنية لولدها بحجة أن أباه غير مغربي، وهكذا فقد عاش هذا الطفل يكتوي بأكثر من صفيح ساخن، بين أب لم يستطع أن يؤدي واجباته الأبوية، فغادر راجعا إلى بلده دون أن يرى الجنين الذي زرعه، وبين أم تسعى وفق قدراتها المحدودة أن ترعى وليدها في ظروف الفاقة واليتم واختلال المعايير، من خلال قوانين تفتقر إلى الرؤية الإنسانية.

الرواية للكاتب العراقي المغربي نبيل نوري لكزار، والتي عنونها "سيدي قنصل بابل". وقد تمت طبعتها الثانية في دار النشر الكتاب حياة/ العراق عام 2020.

من خلال المقدمة يعمد الكاتب لتسهيل مهمة فهم الرواية، حينما يُقرّ بأنها سيرة ذاتية مُشبّعة بمجموعة من الحكايات والأحداث التي عاشها الكاتب، منذ طفولته حتى شبابه.هذا الطفل الذي وُلد في أحياء الدار البيضاء العتيقة، من أب عراقي وأم مغربية، يعود أبوه إلى العراق بعد أن يترك الأم تكتوي بجمر الحاجة، ولوعة المسؤولية، وهي الوحيدة والتي لا تمتلك خيارا سوى العمل الدؤوب للحصول على كسرة الخبز التي تتقاسمها مع ابنها.

يتحدث عن معاناة أمّه التي تضطرها الظروف أن تعمل خادمة في بيوت الأثرياء، ولأنهم لا يقبلون أن تجلب طفلها، فتضعه عند بعض المربيات لقاء مبلغ من المال، أو عند الجيران. وحينما كبُر قليلا، سعت أن يدرس في الكتاتيب، لتلقينه الدروس الدينية، ثم نقلته إلى المدرسة، وقد وصف لنا وصفا دقيقا طبيعة المعاناة مع أطفال الشرائح الاجتماعية المختلفة، وصراع الأطفال فيما بينهم، وقسوة المعلمين، ثم وصوله إلى الامتحان الوزاري، والفساد في بعض أطر التعليم، من خلال السماح للطلبة بالغش العلني، ولكنّ نجاحه لم يمنحه إلا القليل، وذلك لأنه لا يستطيع أن يتخطى الدراسة الثانوية بدون أوراق ثبوتية، مما حدا بأمه أن تصطحبه إلى السفارة العراقية في الرباط، لإثبات عراقيته، ولكن موظفي السفارة الذينلم يمتلكوا الحس الإنساني، لكي يقوموا بواجباتهم، لذلك فقد أهمل طلبه في ظل وعود زائفة، مثل عبارة " سنخاطب بغداد وننتظر الرد"، وبطبيعة الحال لم يأت هذا الرد المزعوم، وبقي بطل الرواية مُحبطا، وليست له رغبة لأكمال الدراسة، فحوّلوه إلى مدارس التكوين المهني التي تضمّ الطلبة الفاشلين، وقد قبل ذلك على مضض لأنه يعلم بأن قوانين امتحان البكالوريا تتطلب "الهوية الوطنية" التي لا يمتلكها، وكان الصراع على أشده بينه وبين الظروف التي تحيط به.

وبعد غزو العراق وتغيير النظام الذي كان قائما، حاول مرة أخرى، دون نتيجة. لذا قرر الاستعانة بالصحافة، التي كانت عنصرا ضاغطا، وهكذا استطاع أن يحصل على الجنسية العراقية بعد عشرين سنة من غياب الهوية.

لقد كانت الرواية صرخة احتجاج لطفل يواجه عالم شرس متوحش، هذا الطفل الأعزل إلّا من أحلامه في المساواة مع أقرانه الصغار، طفلٌ نقشت الحياة على جلده وشما من اللوعة والحسرة واليأس، لذلك فقد سجّل لنا بكثافة الكدمات التي أدمت أقدامه الصغيرة وهو يلهث راكضا في الدروب، يحلم بالطيران إلى البلد المستحيل من خلال الأكياس البلاسيكية الطائرة لعلها تحمل جسده النحيل إلى بابل.

لا يمكن أن نتنازل عن حقوقنا، بمجرد أن مجموعة من المساطر القانونية قد أُسيء استخدامها

لقد سجّل لنا التفاصيل الصغيرة التي أثقلت طفولته وجعلته أكبر من سنّهِ الحقيقي، الغرفة الموصدة والتي يقضي فيها الليل وحيدا إلا من أخيلة الرعب، قسوة المعلمين معه لأنهم لا يدركون حجم ما يكابد، الجيران الذين لا يسمحون له بمشاركتهم مشاهدة التلفاز، الاستجداء أمام أبواب السينما، التعرض للتحرش الجنسي، المعلم السكير الذي يقسو على طلبته، التسكّع في الشوارع، ممارسة الألعاب المختلفة، صيد الأسماك بين الصخور الناتئة على شواطئ كازابلانا، التشرد مع النماذج من أطفال الشوارع، التساؤل عن لعنة المصير، ولماذا هو دون غيره يعامل من قبل وطنه المغرب، والذي يبخل عليه بهوية؟ وهو الذي وُلد في هذه التربة وشرب من مائها، وتمرغ في وحلها، كل هذه الهوامش من الأسئلة تستلقي بين فصول النص، وتبقى دون أجوبة.

لقد قدّم لنا لوحة فنية مزدانة بالألوان الشاحبة والحزينة، كما قدّم شخوص روايته كما هم، بدون رتوش، وبدون تدخلات، لذلك جاءت الأحداث وهي ترتدي ثوبا من الواقعية والبساطة والاقناع.

لقد انتصر في روايته للأم المناضلة التي تحملت جور غياب الزوج وعدم اكتراثه، فقد رافقته إلى العراق ولكنها لم تتحمل المشاكل العائلية هناك، فعادت إلى الوطن بجنينها، وليس لهما أحدٌ للرعاية أو الحماية، لقد ثابرت بكل امكانياتها للتشبث بالحياة، ومحاولة انتشال ولدها من براثن الضياع.  كما تناولت الرواية القوانين التي تحرم الأبناء من جنسية أمهم، ومن الضروري التنويه أن هذا القانون قد ألغي في المغرب، وأصبحت الأم قادرة على منح أولادها الجنسية المغربية أسوة بالأب.

لقد اختار الكاتب عنوانا مثيرا وهو "سيدي قنصل بابل" ومن خلال هذا العنوان نكتشف عمق الرمز في الرواية، فقد ناضل هذا الطفل لكي يؤكد أحقيته في الهوية والانتساب، ورغم أن بلد أبيه لم يمنحه شيئا، سوى هذه الأوراق، ولكنّه أكّد على مبادئ فلسفة الحق، فلا يمكن أن نتنازل عن حقوقنا، بمجرد أن مجموعة من المساطر القانونية قد أُسيء استخدامها، وهكذا فعل البطل حتى وصل إلى خط النهاية، بعد أن أشبعته الحياة بشجونها ومتاعبها. ورغم أنذلك لميَرِد إلّا على هامش النص، ولكنّ رمزيته تكمن في أن بابل القديمة هي اختصار للعراق الذي تَنَصّل عنه، وجعله تائها بدون هوية.

وأخيرا يمكن القول بأن هذه الرواية تتميز بالجرأة والصدق، حيث أنّها تتناول صراع الضعفاء ضدما يحيط بهم من عادات وأعراف وقوانينَ، إنها مجموعة من التجارب يتوقف فيها الرمز ويتلكأ الخيال، ويغيب الوصف، لصالح تسليط الضوء على بعض المآسي التي لا يشعر بها إلّا من اكتوى بنيرانها.