بدران يتابع حضور الخضر في التراث العالمي

الشاعر والناقد الدكتور محمد أبوالفضل بدران يتتبع في كتابه "الخضر في التراث العالمي" سيرة العبد الصالح، وكيف ورد ذكره في التراث.
يا موسى، لو صبرت لأتيت على ألف عجيبة أعجب مما رأيت
الخضر يعد من الشخصيات التي اختلط فيها الديني المقدّس بالأسطوري الشعبي
الملاحم والسير الشعبية وجدت في الخضر القدرة على أن يأتي بما لم يستطعه البشر

لم يرد اسم "الخضر" صراحة في القرآن الكريم، ولكن أشارت إليه الآيات الكريمة بالعبد الذي ورد ذكره في الآية 65 من "سورة الكهف" في قوله تعالى: "فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا". والفعل المثنى "وجدا" عائد على النبي موسى وفتاه.
ويحاول الشاعر والناقد الدكتور محمد أبوالفضل بدران في كتابه "الخضر في التراث العالمي" أن يتتبع سيرة هذا العبد، وكيف ورد ذكره في التراث، على الرغم من أنه لم يختلف الناس على أحد اختلافهم حول شخصية الخضر عليه السلام، فهو – حسب مقدمة د. أحمد شمس الدين الحجاجي - الرجل الأخضر مخضِّر النبات، صاحب النهر المنساب للخلود، وهو صاحب النماء وصاحب الرايات الخضر، منقذ المظلومين والضعفاء من بأس الجبارين، والمطارد للطغاة وقطاع الطرق، وهو سيد الأولياء: الأحياء منهم والأموات، الواقف درجات فوق درجات القطب، وهو نفسه القطب الأكبر، الحي الذي لا يموت إلا آخر الزمان، ومن صدق أنه ميت، فهو يعترف بأن روحه تجوب الآفاق لتصنع الخير والعدل.
وهكذا تتنوع صفات الخضر، ويوضح الحجاجي بأن البعض يراه منفردا بشخصه واسمه، وقد يراه آخرون مختلطا مع سيدنا إلياس، كما يقرنه آخرون بصاحب الحربة الشهيد ماري جرجس، الذي يسميه البعض الخضر، والذي يراه بعض المسلمين من الرسل المذكورين في سورة "يس"، ويرى الحجاجي أن هذا يفسر احتفال المسلمين والمسيحيين بمولده في الأديرة المسماة باسمه في أرجاء مصر.

الباحث لم يجد كبير أثر للخضر في النصوص الروائية المعاصرة، ويُرجِع هذا إلى عدم معرفة التراث الصوفي بشكل كبير لدى عدد من الروائيين، ولتعالي بعض الروائيين على التراث الصوفي

أما د. محمد أبوالفضل بدران فيذهب إلى أن الخضر – وهذا لقبه، وكنيته أبوالعباس – يعد من الشخصيات التي اختلط فيها الديني المقدّس بالأسطوري الشعبي. ويرى بدران أن هذا الخلط أدى إلى ديمومة حضور هذه الشخصية في التراث الديني والأدبي والنقدي وفي الفلكلور الإنساني، ولم يكن هذا قاصرا على التراث العربي، بل تخطاه نحو آداب الشعوب الإسلامية جمعاء.
ويؤكد د. بدران أن موضوع الخضر يمثل إشكالية في عقلية الفكر الإنساني، إذ تطور تشكيل هذه الشخصية وقدرتها على الصيرورة والديمومة وتجاوز البيئات والفرق والأزمنة والاختلافات حول وجوده في أي عصر كان.
وتنثال الأسئلة عن الخضر أو عن هذه الشخصية مثل: أهو كائن دوما؟ وهل لا يزال حيا؟ ومتى سيموت، إن كان لا يزال حيا؟ وما سبب خلوده وبقائه؟ ومن حظى بمقابلته؟ ومن تعلم على يديه؟ وما درجته؟ أهو وليٌّ أم نبيٌّ أم رسول أم ملكٌ من الملائكة، أم هو شيء لا يعرف كنهه؟
اعتمدت خطة البحث التي وضعها د. بدران على اتباع المنهج التاريخي الذي سيدله على تطور تكوين هذه الشخصية عبر القرون وصولا إلى واقعنا المعاصر، وتبعا للمادة التي سيعثر عليها الباحث فإن المنهج التحليلي سيكون أوفر حظا من غيره من المناهج النقدية الأخرى في تحليل ظاهرة الخضر في التراث الأدبي والإبداع المعاصر.
وعليه يبدأ الباحث من "جلجامش والخضر" حيث هناك ربط كبير بينهما، كما أن هناك أوجه اتفاق واختلاف، وعلى سبيل المثال يبجث جلجامش عن الخلود، بينما الخضر لا يبحث عنه لكنه وُهِبَه، وشتان بين الباحث والموهوب.
كما يتحدث الباحث عن الإسكندر والخضر، حيث يبحث الإسكندر عن الخلود مثل جلجامش، ولكن الذي يدرك الخلود طباخ الإسكندر، أندرياس الذي لا ينتفع به، بينما كان الخضر للناس مرشدا ومنيرا ومنقذا.
كما يتناول الباحث الخضر والأسطورة اليهودية ويوضح التناقض فيها. مشيرا إلى أنه في المنظور الصوفي "لكل عصر خضره"، وأن التراث الإسلامي يوضح التفرقة بين إلياس النبي المرسل، والعبد الصالح، والخلط بينهما لا أساس له في التراث الإسلامي، والتقاء الخضر وإلياس كل عام، مشهور في التراث مما يؤكد عدم الخلط بينهما.
ويتوقف الباحث عند الأحاديث النبوية حول الخضر، ومنها "رحمة الله علينا وعلى موسى، ولو لبث مع صاحبه لأبصر العجب العجاب". وذكر أحد المفسرين أنه لما حان للخضر وموسى أن يفترقا؛ قال له الخضر: "يا موسى، لو صبرت لأتيت على ألف عجيبة أعجب مما رأيت، فبكى موسى على فراقه".

تراث الخضر
مادة ثرية

ويتعرض الباحث لابن تيمية والخضر، ويتحدث عن الخضر بين الولاية والنبوة، وإشكالية العبد الصالح، ولقب الخضر "لأنه إذا صلى في مكان أخضرَّ ما حوله"، أو كما قال ابن الجوزي: "لأنه إذا جلس اخضرَّ ما حوله".
كما يتناول د. بدران أوصاف الخضر، وحكاية "مجمع البحرين"، والكنز، ويتساءل: أهو حي أم ميت؟ موضحا أن آدم قد دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة، فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي دفنه، وأنجز الله له ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا.
ويتوقف بدران عند الصوفيين والخضر، فيقول الشعراني "لكل ولي خضر"، ويقال إن الحسن الشاذلي التقى بالخضر، واستبدل له بعض الدراهم بعد حضوره من الصين، ويذكر أبو العباس المرسي "أن الخضر عليه السلام حي، وقد صافحته بكفي هذه ...". كما يتحدث الباحث عن علاقة ابن عربي بالخضر، موضحا أن ابن عربي حاول تفسير ماهية علم الخضر، فقسم العلوم إلى علمين: العلم الوهبي، والعلم الكسبي، وأن الخضر قد حاز العلم الوهبي. وذهب ابن عربي في تفسيره للمسائل الروحية إلى أن "الخضر خرق سفينة الحروف لموسى".
ويتوقف بدران عند حضور الخضر في الأدب، حيث استخدم الخضر رمزا للكتابة أو موضوعا لها، وحاول بعض الأدباء استحضار الخضر في كتاباتهم الشعرية والنثرية. كما حضر الخضر في أشعار كثيرة بالعربية، وأشعار ليست بالعربية كما في الشعر التركي والفارسي وبعض آداب اللغات الهندية والسريلانكية.
أما في الرواية فلم يجد الباحث كبير أثر للخضر في النصوص الروائية المعاصرة، ويُرجِع هذا إلى عدم معرفة التراث الصوفي بشكل كبير لدى عدد من الروائيين، ولتعالي بعض الروائيين على التراث الصوفي من جهة أخرى. وهنا يقول الباحث: "ربما كان التراث الصوفي والشعبي طريقا لتجدد النص الروائي العربي، والخضر مادة طيعة للتوظيف والإسقاط التاريخي". وعلى الرغم من ذلك يشير إلى روايات عربية استلهمت الخضر أو ذكرته على نحو أو آخر مثل: "سيرة الشيخ نور الدين" لأحمد شمس الدين الحجاجي، و"عرس الزين" للطيب صالح، و"خطط الغيطاني". أما في القصة القصيرة فهناك "الجد حسن" ليحيى الطاهر عبدالله، و"عندما بكى سيدنا الخضر" لأبوالمعاطي أبوالنجا، و"سيدنا الخضر" لمحمد شاكر الملط.
وفي الأدب الشعبي وجد الباحث مادة ثرية عن الخضر، وأيضا في السير الشعبية، وفي ألف ليلة وليلة، ويؤكد أن "الملاحم والسير الشعبية وجدت في الخضر القدرة على أن يأتي بما لم يستطعه البشر، فيضفي على السيرة جمالا وتشويقا وعجائبية يتقبلها المتلقي دون معارضة".
وفي نهاية هذا البحث الممتع عن الخضر في التراث العالمي يتعجب د. محمد أبوالفضل بدران من أن الخضر لمَّا يلتفت إليه في الأدب المقارن.