براين كارلسون ينتصر للحرية ويرسم وجوه المقاومة الإيرانية

التشكيلي الأميركي المقيم في الأرجنتين يستخدم ريشته للدفاع عن قضايا المظلومين حول العالم متحولًا إلى شاهد إنساني على الألم والأمل.

براين كارلسون، الفنان التشكيلي الأميركي المقيم في الأرجنتين، يتحاشى أن يكون مجرد رسام للمناظر أو الأحداث العابرة، كونه اختار لنفسه أن يكون فنانًا ملتزمًا بالقضايا الإنسانية في المدن الموبوءة بالحروب والصراعات والمدن التي تئن من عنف الاستبداد. يؤمن بأن للحرية وجهًا، وأن لكل مظلوم صورة يجب أن تُخلد، نُصلي عليها، ونستلهم منها الفن والموسيقى والمسرح والدراما؛ فهو يؤسطر نضال البسطاء وتضحياتهم.

لم يكتفِ كارلسون بمتابعة المآسي في العالم كمتفرج صامت، بل يحمل ريشته سلاحًا، ويخوض معركته الفنية والأخلاقية بشجاعة نادرة مع قضايا متعددة وشائكة في فلسطين، اليمن، أفريقيا، وضحايا التمييز العنصري وضحايا عنف التاريخ القديم في قارتي أميركا.

لكننا في هذه المادة سنخصصها لأحد أبرز وجوه هذا الالتزام، عبر مشروعه الفني الإنساني المكرّس لضحايا العنف والقمع في إيران.

بعيدًا عن أضواء الإعلام، رسم براين عشرات البورتريهات لنساء ورجال سقطوا ضحايا لآلة القمع، مخلدًا ملامحهم المضيئة وسط عتمة النسيان. لم يتوقف عند مأساة الشهيدة مهسا أميني، بل مضى إلى رسم وجوه أخرى: شابات وشبان قُتلوا لأنهم طالبوا بالكرامة، أو تجرأوا على الحلم بحياة أفضل.

في لوحات كارلسون عن إيران، نشعر بأن الوجوه لا تنتمي إلى سياق محلي محدود، بل تصبح رموزًا عالمية للنضال الإنساني ضد القمع والتعسف.

هو لا يكتفي برسم الألم فقط، بل يصور الاحتجاج الداخلي، والأمل المكابر، والجمال المكلوم، متجاوزًا الحدود القومية والدينية، ومؤكدًا أن الدفاع عن الإنسان لا يحتاج إلى جواز سفر أو لغة مشتركة، بل إلى ضمير يقظ.

براين لا يفرق بين الضحية مهما كان لونها أو عقيدتها أو انتماؤها، قناعته ثابتة:

قتل أي إنسان خارج القانون هو جريمة ضد الإنسانية كلها.

من خلال مشروعه عن وجوه الثورة الإيرانية، يواصل كارلسون مهمته الأخلاقية الكبرى: أن يعيد للضحايا أصواتهم، أن يخلد ملامحهم، وملامح بعض أقاربهم مثل وجوه بعض أقاربهم.

ملامح الألم والأمل: قراءة مكثفة في ثلاث بورتريهات لضحايا القمع الإيراني بريشة براين كارلسون

 1. إلهام مدرسى: البسمة المحرّمة

في لوحة إلهام مدرسى، يفاجئنا براين بتقديم وجه مبتسم، نابض بالحياة رغم قسوة المصير.

الألوان المضيئة (الأصفر، البرتقالي، البنفسجي) تخلق خلفية مشتعلة تشبه الحلم الخالد الذي يقاوم الموت.

وجه إلهام يفيض بمرح داخلي، لكن الفنان يكسر حدود البهجة بجعلها تسبح في محيط تعبيري متوتر، وكأن البسمة نفسها عمل تمرد.

البورتريه هنا ليست للرثاء، بل كأنها تحتفل بالحياة التي اغتيلت.

  2. أسرا پناهی: الحزن المجبول بالدهشة

أسرا تظهر في لوحة كارلسون بملامح أكثر تقشفًا، مشدودة بين الألم والذهول.

اللون الأسود يهيمن على الخلفية، وكثيرًا ما يسلط الفنان براين الضوء على تفاصيل الوجه المنحوت بألم صامت كما في هذه.

الفرشاة هنا أكثر خشونة، والخطوط متكسرة، كأن الحياة ذاتها بدأت تتفتت.

عينان واسعتان تطرحان سؤالًا مريرًا: "لماذا؟"، دون الحاجة إلى كلمة واحدة.

  3. أرمیتا عباسي: الكرامة المتحدية

في لوحة أرمیتا، نشعر بطاقة مقاومة عارمة.

رأسها المرفوع قليلًا، نظرتها الذكية التي تومض بسخرية حزينة، كل شيء هنا يقول: "رغم كل شيء، لن أنكسر."

الخلفية المشعة بالأصفر والبرتقالي تخلق هالة شبه قدسية حولها، وكأن براين يصنع منها أيقونة مقاومة حية، لا ضحية صامتة.

الرابط المشترك والخيط السري بين اللوحات:

على اختلاف وجوههن وألوانهن وحكاياتهن، تنسج هذه البورتريهات خيطًا ذهنيًا وروحيًا واحدًا:

كل امرأة لها قداستها الكاملة كرمز إلى الحياة المهددة، لكنها أيضًا رمز للمقاومة الصامتة.

براين كارلسون يبتعد عن تأطير لوحاته برسم مآسي فردية، ويرى أن الرسم والفن يخلدان اللحظات الإنسانية الكونية:

كل وجه يختزل مأساة وطن.

كل نظرة تختزن صراعًا بين العنف والحرية.

كل ابتسامة أو دمعة تحمل نداءً للعالم كي لا يتواطأ بالصمت.

الألوان، حركة الفرشاة، طريقة إبراز العيون والأيدي، كلها تتكاتف لتخلق روحًا واحدة: روح الكرامة التي لا تُهزم رغم كل القمع.

براين كارلسون ورسم الذاكرة الإنسانية:

براين كارلسون لا يرسم بورتريهات ليوثق وجوه الضحايا كما تظهر في الصور الفوتوغرافية، لكنه يتفاعل معها وينفخ فيها حياةً ثانية.

هو لا ينسخ الواقع نسخًا، ولا يستنسخ الوجوه، بل يحول كل خط، كل لمسة لون، إلى ترجمة وجدانية لصرخة مكبوتة أو حلم مقموع.

في لوحاته، لا تكون الشخصيات مجرد نماذج فردية، بل تصبح رموزًا عالمية تنتمي لكل البشر.

براين يخاطب العالم كله: يهمه أن نلمس جوهر الشخصيات، لا مجرد ملامحها، فكل لوحة كأنها وجه قديسة ينبعث منه النور والأمل.

في كل عين يرسمها، يحاول أن يُظهر الحلم، الألم، التحدي، والتوق إلى الحرية الذي يتجاوز العرق والدين والجغرافيا.

هذه المقاربة تجعل فنه أوسع من الحدود، وأعمق من التوثيق؛ إنه يرسم الذاكرة الإنسانية بكل بهائها المنكسر وشجاعتها الصامتة، في زمن يوشك أن يفقد إحساسه بالرحمة وننسى كثيرًا الذين يضحون من أجلنا وقد نتصالح مع الجلاد وننسى ضحيته.

الفن كصرخة ضد العنف

في تصريحاته العلنية وبياناته المنشورة، كثيرًا ما يعبر براين كارلسون عن فزعه العميق من العنف، خاصة حين يُمارس ضد النساء لأسباب عبثية. من أكثر ما يثير رعبه وسخطه أن تُقتل امرأة فقط لأنها أظهرت بعضًا من شعر رأسها، كما حدث مع مهسا أميني وآخريات.

في فلسفته الإنسانية، يؤكد براين أن كشف الشعر أو تغطيته لا يجب أبدًا أن يكون مبررًا لأي شكل من أشكال العنف، فضلًا عن القتل.

يرفض براين بصرامة السخرية أو التهكم من النساء اللواتي يخترن تغطية رؤوسهن أو كشفها؛ فكل خيار يجب أن يُحترم طالما كان نابعًا من إرادة حرة. بالنسبة له، الاعتداء على الإنسان بسبب مظهره أو معتقده أو لونه، هو إهانة للجنس البشري بأسره.

يرى براين أن القتل — سواء وقع في مظاهرة أو في حرب أو داخل زنزانة أو بأي وسيلة كانت — جريمة يجب أن يدينها الفن بكل أشكاله، وألا نتواطأ مع الصمت أو التبرير.

ولهذا السبب يرفض براين فكرة "اللوحة الجميلة" كما تروج لها المزادات أو المتاحف الفخمة؛ وهو يرفض أن تكون اللوحة ترفًا للعرض أو وسيلة للمباهاة، يؤمن أنها صرخة، ضمير، ونداء أخلاقي.

لذلك، يفضل غالبًا عرض أعماله في أماكن مفتوحة أو صالات متواضعة، ليبقى قريبًا من الناس العاديين، الذين ينتمي إليهم قلبًا وقالبًا.

براين كارلسون يعلّمنا أن الفن الحقيقي ليس ذلك الفن الذي يسعى لإرضاء المستهلكين الأثرياء أو الذوق الأكاديمي ، بل لفضح الجريمة أينما كانت، والدفاع عن حق الإنسان في الحياة والكرامة مهما كان صغيرًا أو مهمشًا أو بعيدًا عن الأضواء.