برنارد شو الرافض لنوبل ولكل الألقاب

الأكاديمية السويدية منحت الكاتب الانكليزي جائزتها العريقة عام 1925 وهو في قمة أوجه وعطائه المسرحي وذيوع صيته، ليكون أول من رفض هذا التكريم العالمي.
سنوات الطفولة والمراهقة كانت من أشد المراحل في حياة شو تشكيلا لمستقبله
إن اسمي وحده أشهر من كل الألقاب
مسرح شو مطبوع بالتلقائية والعفوية ومناقشة تفاصيل المجتمع والحياة

منذ نشأة الفن المسرحي في العصر الإغريقي، بزغت أسماء عديدة، وانطفأت أسماء أخرى، ولم يبق في قائمة الكتاب العظام إلا حفنة قليلة من أصحاب الموهبة والحضور المتجدد، والذين تجاوزت شهرتهم الغياب الجسدي، وتظل أعمالهم سارية المفعول في فضاء المسرح المعاصر، وتصادف نفس الهوى في قلوب الملايين من عشاق هذا الفن.. ومن بين هؤلاء العظام يبرز اسم جورج برنارد شو، كأهم كاتب مسرحي في الأدب الإنكليزي منذ شكسبير، فمسرحه مطبوع بالتلقائية والعفوية ومناقشة تفاصيل المجتمع والحياة، وهو عبقرية فذة متعدد جوانب الإبداع، فهو ناقد موسيقي وناقد فني، وناقد أدبي، أكسب الوسط الأدبي والفني حياةً جديدة، فضلًا عما تمتع به من حضورٍ إنساني بشخصيته الجذابة وأسلوبه الساخر والعميق في آنٍ واحد.
ولد شو في دبلن في 26 يوليو/تموز 1856م من أبوين مختلفي الطباع، فوالده كان يستطيع الضحك في أحلك المواقف، ويروى عنه أن تجارته أفلست، وحين جاءه النبأ أدار وجهه إلى الحائط، وأغرق في الضحك، بينما والدة شو شديدة الوجوم، خصبة الخيال، عاشقة للموسيقى، وقد ورث الفتى من الأب مرحه وخفة روحه، من الأم خيالها الخصب وحبها للموسيقى.. وانفصل عن والده وعمره لا يتجاوز الستة عشر عامًا (1872)، وسعى شو إلى تثقيف نفسه، في ظل حياته المشتتة، والتي أثرت إلى حدٍّ كبيرٍ في انتظامه الدراسي، وذلك بين أب يمارس التجارة، وأم تغني في مدينة دبلن، وهناك لحق الفتى بأمه وهو في العشرين من عمره، وكان قد ترك دراسته قبل ذلك بخمس سنوات، حيث آثر طيلة حياته أن يعيش مستقلًّا ومتحررًا من القيود، ولم تدم حياته الزوجية مع المليونيرة الأيرلندية شاروت التي تزوجها عام 1898، سوى سبع سنوات حيث وافتها المنية.
كانت سنوات الطفولة والمراهقة من أشد المراحل في حياة شو تشكيلًا لمستقبله ونجاحاته وعثراته أيضًا، فقد نشأ مع شقيقتيه اللتين تكبرانه، في بيتٍ ترك لهم فيه الوالدان الحرية المطلقة يفعلون ما يريدون دون رقيبٍ أو محاسب، إذ يقول شو عن تلك الفترة: "نشأت حر التفكير قبل أن أعرف كيف أفكر"، ويبدو أن الأم الغارقة حتى أذنيها في عشق الموسيقى والغناء، لم يتوفر لها الوقت الكافي للاعتناء والرعاية بأبنائها، فكانت تتركهم للخدم، وقلما أخذتهم معها في زيارة، أو فكرت في الترويح عنهم.

إن هذه الجائزة هي حزام النجاة يلقى للمرء بعد أن يكون قد وصل إلى بر السلامة

وهكذا تلقى شو دروسه الأولى على مربيته التي علمته القراءة والكتابة والعمليات الأربع في الحساب، وقد كره التلميذ مدرسته ويقول في ذلك: "كانت عملية القسمة هي الشيء الوحيد الذي تعلمته فيها. وأنا سعيد بهذا، لأن أي نشاطٍ ذهني غير طبيعي، ضار، ومن الخطأ أن نحاول تعليم الطفل أشياء لا يحبها. والمدرسة هي آخر مكان يمكن أن يتعلم فيه المرء لأنها أشبه بسجن.. وقد وجدت أن من قضوا زمنًا طويلًا في التعليم يعرفون أقل من غيرهم!!".. ولم يكن شو تلميذًا بليدًا حتى كره المدرسة هذه الكراهية، بل كان طفلًا نابهًا قرأ العديد من الروايات وهو في السادسة من عمره، وكان منكبًّا على قراءة المجلدات ودراسة شكسبير، بينما كان أترابه ما يزالون يتعثرون في القراءة البسيطة، وقد رفض شو بعد أن صار كاتبًا مشهورًا أن توضع أجزاء من مسرحيته "القديسة جان" لتعلم في المدارس، وبرر ذلك بقوله: "إنني لأصب لعنتي الأبدية على رأس كل من تسول له نفسه أن يجعل من كتبي نصوصًا تدرس في المدارس، يكرهن الطلاب من أجلها كما يكرهون شكسبير، إنني لم أكتب مسرحياتي لتكون أدوات تعذيب للطلاب".
الحذاء الممزق
تنقل شو بين عدة وظائف، بعد أن وجد نفسه مضطرًا للعمل مع والده، وهو ما زال في الثالثة عشرة من عمره، ثم عمل كاتبًا في مؤسسةٍ تتاجر بالأراضي، وارتقى حتى أصبح قابض المؤسسة، وكان أثناء ذلك يكتب بعض المقالات في الصحف، ولكنه أدرك أن طموحه أعمق من هذا، فهو أديب موهوب سيكون له شأن في عالم الكتابة، ومن ثم غادر الفتى دبلن في عام 1876، وسافر إلى لندن مركز الحياة الفكرية في بريطانيا.. وهناك مارس شو الكتابة، ورفض الناشرون رواياته الخمس الأولى، وكانت الصحف قلما تنشر له شيئًا، حتى أنه لم يكسب من قلمه خلال تسع سنوات سوى ستة جنيهات، وقيل أن هذا أحلك الأعوام التي عاشها شو في حياته، واضطر خلالها إلى أن يكتفي ببذلة واحدة حتى استحالت خرقًا، وهو يقطع شوارع لندن بحذاءٍ ممزق، ولم يوقفه ذلك عن زياراته للمتاحف الفنية، ومطالعة الكتب في قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني، وكان من يراه في ذلك الوقت يعده مجنونًا أو معتوهًا، حتى انفرجت الأزمة في عام 1885، وبدأ شو يكسب من قلمه ما يكفل له حياةً مريحة.. خلال عمره المديد (94 عام) كتب شو في خمسةٍ وسبعين عامًا من العمل المتواصل الكثير من المؤلفات ضمنها ثلاثين مجلدًا ضخمًا، منها ستون مسرحية، بعضها في ثلاث صفحات، والبعض الآخر في أربعمائة صفحة، مثل "العودة إلى ما تسالم"، "بيوت الأرامل"، "حواري الشيطان"، "جزيرة جون بول الأخرى"، و"القديسة جان دارك" و"بيجماليون"، وقد عرضت الأخيرة في لندن ولاقت نجاحًا باهرًا وطافت هذه المسرحية إلى مسارح البلدان المختلفة، وقد صارت من عيون المسرح المعاصر، الذي يستهوي الكثير من المخرجين للتعامل مع هذا النص، وإعداده بما يتلاءم وطبيعة الجمهور الذي يعرض له.

كتب شو مسرحيته الكوميدية "الإنسان والسوبر مان" في عام 1903، وتنم أفكارها عن الذكاء النقي الخاص، والإرادة التي تحاول تنظيم عالم المادة

فلسفة السوبر مان
شغف شو بالآراء الاشتراكية التي كانت تغلي بها بريطانيا، وقرأ كارل ماكس في قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني، يقول : "كان اطلاعي عليه نقطة تحول في حياتي، وقد أدركت خطأ نظريات ماركس التجريدية، ولكن هذه النظريات –على خطئها- فتحت عيني على حقائق الوجود، وجعلتني صاحب رسالةٍ في الحياة".. انضم شو إلى الجمعية الفابية وهي جمعية تؤمن بالعمل البطيء المنظم الذي يقود إلى النصر نسبةً إلى فابيوس القائد الروماني الذي انتصر في معاركه بسياسته المتأنية، وهذا المبدأ هو الأساس في اختلافها مع الماركسية التي تؤمن بالثورة والعنف.
وقد بلغ حماس شو لأفكاره الاشتراكية أن قال: "إنني أفضل أن أقضي يومين أو ثلاثة كل أسبوعٍ أحاضر وأناقش في الاشتراكية، على أن أذهب للرقص أو الشرب أو حتى لموعد غرام"، وتميز شو بصفته إنسان وكاتب واقعي، وآمن بالرجال الأقوياء (السوبر مان) مثل قيصر ونابليون وهنريك أبسن وفاجنر وغيرهم من العباقرة، وكان يرى أن هؤلاء يتسمون بشجاعةٍ نادرة، ولديهم إرادة قوية، ومن هنا جاء إعجابه بفلسفة نيتشه القائمة على تقديس القوة.. وكتب شو مسرحيته الكوميدية "الإنسان والسوبر مان" في عام 1903، وتنم أفكارها عن الذكاء النقي الخاص، والإرادة التي تحاول تنظيم عالم المادة، وأراد أن يؤكد في شكلٍ درامي أن الذكاء هو شريان الحياة.. ولم يتوقف شو عن الكتابة، وفي قمة أوجه وعطائه المسرحي، وذيوع صيته، منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل عام 1925، ليكون أول من رفض هذه الجائزة، وجاء في رفضه: "إن هذه الجائزة هي حزام النجاة يلقى للمرء بعد أن يكون قد وصل إلى بر السلامة"، وقد أثار هذا الرفض ردود أفعالٍ متباينة، ووصلت شو آلاف الرسائل يطلب أصحابها منه أن يمدهم بالعون المادي، طالما أنه بمثل هذا الثراء والترف اللذين مكناه من رفض هذه الجائزة. وعاش شو حياةً مديدةً حقق من خلالها مجده الأدبي، واستطاع أن يتبوأ مكانة لائقة بعبقريته وموهبته وعطائه الغزير والمتنوع، ليحقق لإبداعه الخلود بعد أن وافته المنية في 2 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1950، وهو الرافض لجائزة نوبل وألقاب النبل بقوله: "إن اسمي وحده أشهر من كل الألقاب". (وكالة الصحافة العربية)