بعد كل هذا القتل

إذا ما افترضنا جدلا براءة عادل عبدالمهدي من قتلالمتظاهرين، فإن الصراع صار مكشوفا بين طرفين هما الشعب من جهة والميليشيات من جهة أخرى.

سيستمر القتل خفية في شوارع بغداد والمدن العراقية الأخرى فيما تستمر الحكومة العراقية في تحميل جهة ثالثة المسؤولية عنه.

منذ اليوم الأول للاحتجاجات طرحت الحكومة العراقية مسألة المندسين على الطاولة. وهو أمر كان متوقعا من أجل تبرير استعمال الرصاص الحي في قمع التظاهرات.

غير أن تزايد أعداد القتلى فاجأ الحكومة كما يبدو. فقررت أن تلقي بتبعة القتل على طرف ثالث غير أن يسميه.

من المؤكد أن هناك أطرافا في العراق هي أقوى من حكومة عادل عبدالمهدي الضعيفة أصلا. وإذا ما كان عبدالمهدي لا يجرؤ على تسمية تلك الأطراف فلأنها تملك القدرة على الإطاحة به وإزاحته من المشهد السياسي واعادته إلى فرنسا، بلد لجوئه.

علينا هنا أن لا نتوهم أن الأحزاب التي جندت قناصتها من أجل صيد الشباب العراقيين انما تقوم بذلك دفاعا عن شرعية حكومة عبدالمهدي التي هي مجرد واجهة للنظام السياسي الذي تحتمي بمظلته.
تلك الأحزاب تمارس العنف المتوقع حفاظا على مصالحها واستمرار بقائها في السلطة وتمثيلها للهيمنة الإيرانية التي تتعرض لانتقادات دولية صارت إيران بسببها موضع مساءلة وعقاب اقتصادي وهو ما يلقي على عاتق تلك الأحزاب واجب الدفاع عن الوجود الإيراني في العراق في مواجهة مطالبات شعبية بإنهاء ذلك الوجود.

إنها لحظة عصيبة بالنسبة لإيران وليس لعادل عبدالمهدي.

فعبدالمهدي يمكن التضحية به إذا ما تعلق الأمر بمطلب تغيير الحكومة. غير أن سقف الاحتجاج عال إلى درجة أن المطالب صارت تصل إلى ما يسميه العراقيون بـ"الاحتلال الإيراني". وهو ما يعني التخلص من هيمنة الميليشيات الشيعية التي هي تجسيد لذلك الاحتلال.

وقد يكون رئيس الوزراء العراقي صادقا حين يبقي على ذلك الطرف القاتل مجهولا فهو لا يعرفه. فهل هو الحشد الشعبي أم حزب الله اللبناني أم الحرس الثوري الإيراني المسؤول المباشر عن إدارة ودعم وتمويل الميليشيات الشيعية في المنطقة؟

لا يملك عبدالمهدي صلاحية الاستفهام عن القتل الذي يجري في الدولة التي يفترض أنه مكلف بإدارة شؤون مواطنيها. إنه يملك القدرة على أن يطلق الوعود الهوائية التي صار العراقيون يدركون أنه لا يملك القدرة على تنفيذها. فالطرف الثالث يقبض على كل خيوط اللعبة.

وإذا ما افترضنا جدلا براءة عبدالمهدي فإن الصراع صار مكشوفا بين طرفين هما الشعب من جهة والميليشيات من جهة أخرى. فلا أفهم والحالة هذه لمَ يقف الرجل الذي اعتبر نفسه شيوعيا وبعثيا في أوقات سابقة بين الطرفين وهو يعرف أنه يلقي بنفسه في المحرقة؟

هناك قدر هائل من الغباء في خطاب عادل عبدالمهدي الذي وجهه لحشود المحتجين. بقدر ما كان ذلك الخطاب استرضائيا بطريقة مخادعة بقدر ما كان مبطنا بالتهديد الذي يعرف هو قبل غيره أن الشعب الذي واجه سلاح الميليشيات بصدور عارية قد تخطى حاجز الخوف.       

بعد كل هذا القتل لن تفعل الميليشيات ما يُخيف.

هناك شعب انتفض لا من أجل اسقاط حكومة بل من أجل تغيير نظام غير وطني أقيم على أسس لا تمت بصلة إلى مبادئ العدالة الاجتماعية. وهو حين يتحدى آلة القتل فإنه يعرف أن قيامته لا يمكن أن تنبعث إلا عن طريق تضحياته. لذلك فإن بقاء عبدالمهدي في منصبه الرمزي لا معنى له بعد كل هذا القتل.     

سيكون موضع اعتزاز شعبي لو أنه أسقط حكومته بنفسه، فلا أحد من المحتجين يفكر في اسقاطها. لو كان على شيء من الذكاء لأزال تلك العقبة بنفسه. حينها يكون الطرف الثالث واضحا ويكون الشعب قد رأى هدفه.