بغداد لم يُسقِطها الأميركان في نيسان 2003، بل أسقَطها العراقيون قبله!

موجات مختلفة من الغزو الداخلي والنفسي اجتاحت بغداد وغيرت من طبيعتها.

بعيداً عن النقاش السطحي العقيم الذي يدور بين أغلب العراقيين منذ عام 2003، لتوصيف ما حدث في 9 نيسان من ذلك العام، والمتمثل بدخول القوات الأميركية الى بغداد. بين مَن يَصِفه بسقوط بغداد! ومَن يقول بأن بغداد لم تَسقُط، لكن دخلها الساقطون. والذين يعني بهم البعض الأميركان، وهؤلاء أغلبهم من المصابين بعقدة الغرب وأميركا من يساريين وبعثيين وإسلاميين. فيما يعني بهم البعض الآخر، كأتباع صدام، مُعارضيه الذي باتوا حكاماً لبغداد بعد سقوط نظامه. الحقيقة هي أن بغداد سَقطت فعلاً كمدينة، كما سَقطت غيرها كثير مِن المُدن العظيمة عبر التأريخ، كبابل وروما وغرناطة وباريس وبرلين، وهي نفسها سَبق وسَقطت بيَد المغول. وهو أمر لا ولن يقلل من قيمتها المعنوية التأريخية، سواء كعاصمة لدولة العراق الحديثة ونواة لمجتمعها المدني الحديث، أو كعاصمة للخلافة العباسية، ومركزاً لإشعاعها الحضاري. ومَن أسقطها هُم العراقيون، وليس في 2003، بل قبلها بكثير.

وبعيداً عن مكابرة الكثير من العراقيين، ومنهم البغادلة، وكذبهم على أنفسهم وعلى الآخرين، وحالة الإنكار التي يعيشونها تجاه ما يحيطهم من خراب، ومنه تردي حال بغداد وخرابها وضياعها، وإصرارهم على أنها بخير وتزهو، وغيرها من الترّهات. بغداد التي عرفنا وعِشنا ضاعت ولن تعود لأنها لم تكن حقيقة، كالأميرة ضياء ومدينتها في المسلسل الكارتوني السندباد التي تظهر كالحلم ليوم واحد كل 100 عام ثم تختفي، والتي أحبها علي بابا ثم تلاشت من بين يديه بلمح البَصَر، كما تلاشت بغداد مِن بين أيدينا، وظل يتذكرها ويَحلُم بها، كما سنظل نتذكر بغداد ونحلم بها كما عرفناها، لا كما أصبَحَت بفعل الطارئين والمارقين. فقد كانت حُلماً جميلاً عِشناه نحن مُحبّيها زمناً، سُرعان ما إستفقنا مِنه على العراق الحقيقي، وكابوس العراقيين الحقيقيين، الذين صُدِمنا بهم في دول المَهجَر بعد مغادرتنا العراق قبل سقوط نظام صدام، لأننا إكتشفنا أنهم كانوا يضَعون أقنِعة داخل العراق، ليُنافقوا بها ويُخفوا خلفها حقيقة نفوسهم المَملوءة حقداً وضغينةً على بغداد وأهلها، وما يمثلونه مِن تمَدّن ورُقي، يُمّثل نقيضاً لما نشأوا عليه من عادات بالية وتقاليد متخلفة طفَحت بما فيها فور خروجهم من العراق، بعد تلاشي الخوف الذي كان يَكبُت مشاعرهم المريضة. يومها توقعنا بأن هؤلاء عَيّنة للداخل، وقِمة جبل جليد ستظهر بقيّته فور سقوط نظام صدام وزوال حاجز الخوف، وقد تأكد توقعنا بعد2003 بفترة، وتبَيّن بأن غالبية العراقيين، بإستثناء نسبة قليلة، هي مِن نفس العيّنة والشاكلة، لذا أوصلوا العراق الى ما هو فيه اليوم من خراب.

هم أغلبية، وهو أمر سَلّمنا به، لذا رَفعنا لهم الراية البيضا، وتركنا لهم الجَمَل بما حمَل. فالصِراع معهم عَبث، لأنهم أكثر عدداً. ولأن سلاحنا العقل والضمير، وهُم لا عقل لهم وضميرهم ميّت، وسلاحهم القتل والتسقيط والإبادة. ولأننا ننظر الى المستقبل، وهُم عالقون بأوحال الماضي. هُم الأغلبية التي ثارت على الإنكليز قبل أكثر مِن قرن، لأنهم جاؤوا لها بالتطور والخدمات وإحترام إنسانيتها، وهي إستمرأت الجهل والعبودية لخمسة قرون، فهبت تدافع عن الخلافة العثمانية، كضحية تدافع عن جلادها. هُم الأغلبية التي خَرجت تُطبّل وترقص لإنقلابيي 14 تموز1958 ومَن تلاهم من إنقلابيين دكتاتوريين، شيوعيين وقوميين وإسلاميين، وأسبَغت عليهم ألقاب الزعيم الأوحد والقائد الضرورة ومختار العصر. هُم الأغلبية التي تمَركَسَت وبات أبنائها مرتزقة بمليشيات المقاومة الشعبية، وكانت تتظاهر في العهد الملكي دفاعاً عن دُوَل لم تكن تمَيّزها على الخريطة! ثم تبَعّثَت بعد 1968 وبات أبنائها مرتزقة بمليشيات الحرس القومي ثم الجيش الشعبي، وإرتدت الزيتوني وكتبت تقارير كيدية على بعضها. ثم أبدلت الزيتوني بعد 2003 بدشداشة سوداء أو بيضاء مع لحية وسِبحة، ليُصبِح أبنائها مرتزقة بمليشيات حَشد الولي الفقيه الإيرانية ودولة الخلافة الداعشية. هم أغلبية تُنجِب الأطفال كالمفاقس بالعشرات دون حساب أو تفكير بمستقبلهم، رغم أنها عاطلة عن العمل وتسكن بيوتاً كأقفاص الدجاج، لأنها لا تتعامل معهم كبشر وتتحمل مسؤوليتها تجاههم، بل ككائنات تولد ورزقها معها، نتجت عن شبقها بالجنس والزواج مثنى وثلاث ورباع، ورغبتها بأن تُعيلها حينما تكبر! لذا تدفع بها الى أي سبيل يدُر عليها المال، ولهذا وجدنا أبنائها في صَدارة حَطب ومرتزقة ميليشيات فدائيي صدام قبل 2003 ومليشيات الحشد بعده. هي الأغلبية التي سَعَت لطَمس ومَسخ الهوية الثقافية التراثية والحضارية لبغداد، وإستبدالها بهويتها الهجينة لهجةً وعادات وتقاليد، وبدأت ذلك بخطى بطيئة لكن مُخَطّط لها بخُبث قبل 2003 عن طريق الزحف عليها وتغييرها ديموغرافياً، ثم بخطى حثيثة بعده، بعد أن باتت يها اليد الطولى، وغَزَتها وهَجّرت غالبية أهلها، بالإضافة لإهمال رموزها العمرانية بدل ترميمها، ومحاولة إزالة آثارها التأريخية بذرائع طائفية.

بغداد سَقطت لأنها كانت كيانا غريبا ضِمن مُحيط لا يَمت لها بصلة، ويَنظُر إليها بِعَين الحقد والغيرة والضغية والحَسَد! لأنه عاجز ذهنياً ونفسياً عن مواكبتها، رغم أن ذراعيها كانتا مفتوحتان للجميع، وكانت قادرة على إستيعاب وصَهر مَن لديه الإستعداد والقابلية، في بوتقة مجتمعها المُتحضِّر المُتمَدّن المُواكب للتطور. بغداد سَقطت يوم غزاها التَرَيّف دون إستئذان، وسَطا على مقدراتها وأحيائها وإقتصادها ولكنتها، وهَجّنها بطريقة فرض الأمر الواقع، عبر حُكّام سَطوا على سلطتها، وجيوش أكتاف وأفخاذ غَزَت مجتمعها وفرضت عليه قيمها وتقاليدها التي تمثل تراجُعاً عَن قيم بغداد وتقاليدها. بغداد سقطت يوم باتت بيوتها عشوائية البناء قبيحة التصميم بسبب ذوق سِز بُناتِها وساكنيها الطارئين، الذين لا يُهمهم أين يسكنون وكيف يعيشون، بعد أن كان يَبنيها خيرة المهندسين والمقاولين، ولها حديقة تجلس فيها العائلة لمشاهدة التلفاز، وكراج يكفي سيارتين لكنه يحوي سيارة لان صاحبه شَبعان ولديه طفل او طفلان!

بغداد سَقطت يوم غَزَتها طريقة غريبة بنُطق الكلام، مَسَخت اللهجة البغدادية، وفقّسَت لنا لهجة هجينة بلَكنة ونَبرة نشاز باتت تخدش آذاننا حينما نسمعها. فطيلة عقود بقيت اللهجة البغدادية هي الأكثر شُهرة وحضوراً محلياً وعربياً، لأنها تمتاز بكونها حالة وسط بين بقية لهجات العراق التي قد يصعب للآخرين فهم مفرداتها، إلا أن هذا الحضور شهد تراجعاً كبيراً وإنحساراً خطيراً عن الواقع اليومي والمشهد البغدادي نفسه خلال العقود الأخيرة، وبات مستخدموها يقِلّون يوماً بعد آخر لصالح زيادة مستخدمي اللهجة الهجينة، بسبب موجات نزوح وتغيير ديموغرافي ممنهج تقدر نسبته اليوم بأكثر مِن ثلثي سكانها، عاشته بغداد بعد1958 وزادت وتيرته بعد عام2003. الغريب وعودة الى موضوع الإحتلال والسقوط، نجد بأن لكنات ومُفردات لهَجات من يُفترض أنهم أسقطوا بغداد، كالأتراك والفرس، لم تمسخ اللهجة البغدادية بل العكس، فاللهجة البغدادية إستوعبَتها على مدى قرون، دون أن تؤثر على لكنتها ونَبرتها، التي بقيت بغدادية خالصة، كما فعلت مُفردات ولكنات من يفترض أنهم عراقيين، بل وُيزايدون على غيرهم بعراقيتهم! بالتوازي مع ذلك، أحياء بغداد التراثية، كالحيدر خانه والجعيفر وباب الشيخ والأعظمية والكاظمية وسوق حمادة والشواكه وعلاوي الحلة، فقَدَت هويتها وفقَدَ أهلها نكهة الحياة البغدادية التقليدية. أما أحيائها الحديثة، كالمسبح والجادرية والسيدية والكرادة خارج وزيونة والمنصور والحارثية، فيكاد يختفي منها سكانها، خصوصاً من الطوائف غير الإسلامية، بسبب إرهاب الأحزاب والمليشيات الإسلامية المسلحة.

بغداد سقطت يوم تحَوّلت، مِن المدينة التي تضم عشرات النوادي الإجتماعية، مثل نادي العلوية والصيد ونوادي الضباط ونقابات المهندسين والأطباء والمحامين، التي كانت العوائل البغدادية العريقة تتسابق لعضويتها وحضور فعالياتها التي تغطي أغلب أيام الأسبوع، فيَوم للسينما ويَوم للدنبلة ويوم لدورات تعليم السباحة، بالإضافة الى سهرات نهاية الأسبوع والمناسبات التي كان يُحييها أشهر المطربين والفرق الموسيقية، الى المدينة التي تضم ألاف المساجد والحسينيات، التي باتت العوائل البغدادية الطارئة وما تبقى من العريقة تتسابق لحضور صلواتها وفعالياتها التي تغطي أغلب أيام الأسبوع، فيَوم لتعليم الصلاة والقرآن للصغار، ويوم لحفلات التكليف لتحجيب القاصرات أو ختم القرآن أو مسابقات التجويد وحفظ القرآن، بالإضافة الى المحاضرات والقرايات التي يحييها أشهر الروزخونية من شاكلة المهاجر والفالي. بغداد سقطت يوم تَغيّرت واجهات محلات أشهر شوارعها كالسعدون وحيفا من الإعلان عن السفرات السياحية الى أجمل مدن العالم، الى واجهات لمَقرات أحزاب ومليشيات مرتزقة!

بغداد المدينة سَقطت يوم زحَفت اليها القرية ثم إستوطنت تخومها وحاصَرتها ثم إبتلعتها. بغداد التمَدّن سَقطت يوم غزاها التريف ومَسَخت عاداته وتقاليده البالية أتكيتها. بغداد لم يُسقطها يوماً مُحتل، هذا إذا إعتمدنا وصف المُحتل التي يفصله غالبية العراقيين وفق مقاساتهم المناطقية أو الطائفية. اليوم الأميركان بالنسبة لهم محتلون، فيما الإيرانيون مستشارون وتيجان روس وحماة أعراض، لأسباب دينية وطائفية! ومِن الأمس القريب الملك فيصل الأول الذي جعل لملومهم شعب، وأعطاهم الجنسية العراقية، بعد أن أسّس لهم دولتهم الحديثة من خرائب ثلاث ولايات عثمانية، هو بالنسبة لهم مُستورد ومُحتل لأنه حجازي، لأسباب مناطقية وطائفية، رغم أنه هاشمي! ومِن الأمس البعيد العباسيون بالنسبة لهم محتلون، رغم أنهم مؤسسو بغداد، وعرفت بعهدهم أزهى عصورها، ولا تزال آثارهم شامخة فيها، من المدرسة المستنصرية مروراً بجامع الحيدرخانة فشارع النهر وصولاً الى القصر العباسي، بل ويريدون إزالة تمثال رمزي لمؤسسها، لأسباب مناطقية وطائفية، رغم أنهم هواشم! أما من جاء بعدهم من سلاجقة ومغول ومماليك الذين هم بالنسبة لهم أيضاً محتلون، لأسباب مناطقية ودينية، فلم يكونوا أعداء لبغداد، ولم يرموا كتبها في النهر كما يدعون. على العكس، عَمّروها وبنوا أغلب ما بقي من أبنيتها التراثية التي نعرفها اليوم، كالمدرسة النظامية وجامع وخان مرجان، لأنهم أحبوها بعد أن عاشوا فيها وشربوا من دجلتها، الذي للأسف لم يغزر بأغلب العراقيين ويغسل ما علق بنفوسهم، بل إن بعضهم من شِدة حبه لها سَمّى بناته بإسمها، كزوجة الملك أبو سعيد آخر ملوك الدولة الإلخانية التي كان إسمها "بغداد خاتون"، فهل فعلها العراقيون؟ بالتأكيد لا، لأن مُجرد ذكر إسم بغداد أمامهم يسبب لهم حساسية وشعور بالنقص! أخيراً وليس آخراً بغداد الحديثة التي نعرف، وبعد قرون من إهمال العثمانيين الذين لا يعتبرهم العراقيون إحتلالاً لأسباب دينية، أحياها وعَبّد شوارعها وأقام جسورها وبنى أولى مستشفياتها ومدارسها ومحطة قطارها، مَن يُسميه العراقيون المُستعمِر الإنكليزي، لأسباب دينية ومناطقية، ويتباهون بأن عشائرهم، التي لم تضع يوماً ولا حتى طابوقة لإعمار العراق، لأنها كانت ولا تزال لاهية بالجاي وجذب والفصليات والنهيات والكوامات العشائرية، قد ثارت عليه، لأنه فرض عليها القانون والإنظباط والمدنية والتطور، وهو ما لم ولن يعتادوا عليه. لذا هُم ثاروا على مدنية بغداد منذ 1958 وأسقطوها بمرور الزمن ولا يزالون، لنفس الأسباب التي دفعتهم قبل 100 عام للثورة على الإنكليز، فما جاء به الإنكليز، وما كانت تمثله بغداد يوماً من مدَنية وأتكيت وتحَضّر، إستفزهم لأنه كان يمثل نقيضهم ونقيض ما نشأوا عليه الى اليوم من أعراف بالية.

روى لي أحدهم، بأنه خلال مروره في السنة الأولى من الإحتلال الأميركي في شارع حيفا، حيث مكاتب تحويل الأموال، لإستلام حوالة مالية، شاهد هَمَرات الجيش الأميركي تركن على جانب الرصيف، ويترجل منها الجنود وبيدهم الكرافات وأكياس القمامة، لجمع الأزبال التي كانت تملأ الشارع، أمام مَرمى العراقيين الذين كانوا يسيرون بجانبهم وكأن الأمر لا يعنيهم. ومن هنا نكتشف أن توني وجوني قد يكونوا أكثر حرصاً على بغداد ونظافتها ومظهرها من العراقيين، الذين ربما يستمتع بعضهم برؤية الأزبال تتكدس في شوارعها. لذا بغداد لم يسقطها توني وجوني، بل أبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي وأبو علي الكوفي وأبو مازن وأبو آلاء الولائي ومَن على شاكلتهم ومِن طينتهم. بغداد أسقطها العراقيون الذين لم يكن بإمكانهم التبغدُد كالبغادلة، فمَسَخوها بنائاً ولهجةً وملبساً وفِكراً، وبَهذلوا ورَعبلوا البغادلة مثلهم، بدل أن يتبغدَدوا هُم.

وإفهَموها زَي ما تِفهموها!