بلاغة الكوميديا في رواية "ميتتان لرجل واحد"

الكاتب البرازيلي جورج أمادو فضّل معالجة مفهوم الموت في روايته من منطلق مُغاير وتبنى أسلوباً فكاهياً لتحبيك أحداث عمله.
مُفردة العنوان لا تخلو من الإيقاع الخبري ما يعززُ الربط بين تلك العتبة والمحتوى بتفاصيله التي تتمحور حول ماشهدتهُ حياة "كينكاس"
الآليات المُتَداولة لِمقاربة إشكالية الموت تتسمُ بالغموض

شغل الموتُ بلغزه وتعقيداته فكر الإنسان، ولم تتوقف المُحاولاتُ لإيجاد تفسيرٍ للظاهرة التي تكشفُ هشاشة الحياة ومحدودية الزمن البايولوجي لدى الكائن البشري، وهناك من يعزو وجود الفلسفة والدين إلى تأملات الإنسان في الموت، واحتياجه الشديد إلى المواساة ومُثابرته للبحث عن الأدوات التي تُمكنه من تحليل القوة المُتَحَكِمة بالمصير وإستنكاه نهاية مجهولة. ومن هنا تولدت الأفكار المتباينة بشأنِ احتمالاتِ ما بعد الغياب على مسرح الحياة.
طبعاً الآليات المُتَداولة لِمقاربة هذه الإشكالية تتسمُ بالغموض، أمرُ تراه في مضامين الأعمال الأدبية التي تناولت هذا الموضوع أيضاً، لكن الكاتب البرازيلي جورج أمادو فضّل معالجة مفهوم الموت في روايته "ميتتان لرجل واحد" الصادرة من مسيكلياني - تونس من منطلق مُغاير وتبنى أسلوباً فكاهياً لتحبيك أحداث عمله. إذ بقدر ما يتصفُ نص أمادو بالبساطة والتطيعم بالفكاهة والسخرية فهو مثيرُ للأسئلة على مستويات عدة. أكثر من ذلك فإنَّ صاحب "فارس الرمال" يعتمدُ في مادته على بنية الحدث الإساسي حيثُ يكونُ  خبر موت "جواكيم سواريس دا كونيا" أو ماعرفَ بين الصعالكة بـ "كينكاس هدير الماء" محركاً للسرد الذي يديرهُ الراوي المراقب بضمير الغائب.
إضافة إلى ذلك فإنَّ مُفردة العنوان لاتخلو من الإيقاع الخبري ما يعززُ الربط بين تلك العتبة والمحتوى بتفاصيله التي تتمحور حول ماشهدتهُ حياة "كينكاس" وتحوله الصادم من موظف يحظى باحترام العائلة إلى رجل سكير مُتشرد، إذ تستعيدُ ابنته فندا اللحظة التي تنقلبُ فيها حياة والدها عندما خرج الأخير من طوره مُعلناً رفضه لإملاءات زوجته "أوتاسيليا" بعبارة "إلى الجحيم".

 الكوميديا هو عنصر أساسي في مفاصل النص لاسيما في فقراته الأخيرة عندما يمسكُ الأصدقاءُ بزعيمهم الميت، ويضعونه في المركب إلى أن تهبُ العاصفةُ وترعدُ البروق ويلقى كينكاس بنفسه في البحر ويدفن كما أراد

القطيعة
بعدما يهجر جواكيم البيت وتقطعت علاقته مع العائلة، يبدأُ حياةً جديدةً وينغمسُ في الأوساط المُهمشة، ولا يرتاحُ أفرادُ عائلته لهذا التصرفِ، وإعْتُبِرَ الإنقلابُ في شخصية الأب لطخة عارٍ. 
يتكفلُ الراوي وهو الأنا الثانية للكاتب بإيراد ما رافق واقعة موت الموظف المحترم من التضارب في المرويات، ومنْ ثُمَّ  ما أثار لدى أبناء أسرته من ردود فعل مُتباينة هنا تدخلُ شخصيات أخرى في فضاء النص، وبالتالي يكون المُتلقي على معرفة بمستوى هؤلاء ودورهم في منظومة العمل الذي ينطلقُ من عنصر الحدث، حيثُ يُلمحُ إلى خلفيات عائلة الميت ابنته "فندا" المتزوجة بليوناردو الموظف الحكومي صاحب سجل مُبشر بمستقبل واعد والأخ الأصغر، وهو تاجرُ لديه رصيد متواضع في البنك والعمة "ماروكاس". 
وما أن يخبر بائع التماثيل الدينية الابنة وزجها بخبر موت جواكيم حتى يتنفس الاثنان صعداءَ، لإنَّ بتلك النهاية يطوى ملف رجلٍ أساء لعائلته، وكان انجرافه وراء القمار وحياة الصعلكة تحولت إلى حكايةٍ تناقلت على ألسنة الجميع، وإستغرب كل من فندا وليوناردو من نهاية الميت كما رواها بائع التماثيل، فالأول كان على موعدٍ مع زنجية وعندما تصلُ الأخيرة إلى باب غرفته تجدها مفتوحةً لإنَّ "كينكاس" قد باع المفتاح لأحد هواة جمع الآثار بعدما لفق أسطورة بشأنِ تاريخه، ولا تلمسُ الزنجية في ملامح صديقها ما يوحي بأمر مريب، فابتسامته المعهودة مرتسمة على الوجه. لكن ما لبثت أنْ تأكدت من موتهِ حين لم يبادرها بمداعباته الداعرة. 
وبدوره يبدي بائع التماثيل الدينية استغرابه عن المصير المشؤوم الذي إنتهى إليه "كينكاس" مستفسراً الصهر عن السبب هل خانته زوجته؟ وما من لينوناردو إلا أن يقول له بأن حماته كانت قديسةً. بينما يتبادلُ لينورنادو وفندا الحديث حول إجراءات التشيع وإعلام الأهل والجيران بالخبر. يتأملُ البائع صورة كينكاس وهو في الخامسة عشرة من عمره مع زوجته "أوتا سيليا" هكذا يسلسلُ السردُ إلى أن تذهبَ الابنةُ نحو المكان الذي ترقد فيه جثة والدها. فالصورة كانت مُناقضة لما كان من المفترض أنَّ يختمَ بها موظف الضرائب الخجول مسيرة حياته. استدعت فندا الطبيب الشرعي فأرادت من خلال الشكليات ترميم شخصية الوالد لذا أصرت على لفِ الجثة بثياب أنيق. وفي ذلك إنتصار لـ "جواكيم" قبل أن يموت إجتماعياً، وقطعية معاكسة.
مراسم
يتابعُ المُتلقي في قسم آخر من الرواية وجود فندا في المكان الذي يضمُ جثة الوالد فإنَّ مكوناته تشي برثاثته، هنا يتخذُ السردُ منحى مشهدياً حيثُ يدورُ حوارُ خاطف بين الطبيب الشرعي والابنة، ويتدخلُ بائع التماثيل شارحاً الظروف التي مات فيها "كينكاس"، ويعقبُ ذلك نقاشُ بين أفراد العائلة حول تكاليف الدفن، ويقررُ توكيلَ أمر الجنازة إلى وكالة مُختصة بهذا الأمر. وتم الإتفاق على شراء بذلة للميت إضافة إلى حذاء وقميص وجوارب أما الملابس الداخلية فلا حاجة إليها، عليه فإنَّ هذا الرأي يضمرُ نسقاً ثقافياً لا يهمهُ سوى المظاهر، إلى جانب ذلك يفضحُ آمادو العقلية النفعية المُتمثلة بشخصية إدواردو كذلك، فإنَّ صهر الميت يريدُ إختصار مراسم الجنازة دون تحشيد عدد غفير من الناس، نظراً لما يتطلب ذلك من التكاليف، وما انفك يقارن ليوناردو بين حذائه البالية وما في قدمي الميت. 

novel
توزيع الأدوار في سهرة على الميت

أخيراً تقتنعُ فندا بعدم ضرورة نقل جثة الميت إلى المنزل بعد الإنتهاء من الطعام طلبوا الحلوى فيما هم منشغلون بنقاشهم تناهى إليهم صوت يعلن عن عروض بيع رائعة. فأهم ما توصلوا إليه خلال الجلسة هو توزيع الأدوار في سهرة على الميت. فندا وماروكاس في الظهر وليوناردو والعم إدواردو بالليل. راقبت الابنةُ ما قام به رجال الوكالة من ترتيب الميت وتجهيزه، هذا ما بدل إحساس فندا واعتقدت بأنَّ روح أمها ترتاحُ بما أنجزته من إستعادة صورة الأب المحترم، وإنقاذه من البوهيمية حيث قضى عشر سنواتٍ متشرداً، وأُطلق عليه ألقاب متعددة "سيناتور التسكع والحانات"، "فيلسوف منحدر السوق". 
كان لموت كينكاس وقع أليم بين أصدقائه، وخيمَ الحزنَ على الحانات والمحلات وصدم الخبرُ المقامرين وأصحاب المراكب، لأنَّ كينكاس حلف بأن يخص البحر بشرف نهايته، وذكرت مواقف بطولية للميت اهتمامه بابن "بينديتا" عندما دخلت الأم إلى المُستشفى، كما خلص كلارا من براثن غريزة أبناء الميسورين.
والأهم في هذه الرواية هو رصد موقف أصدقاء كينكاس الذين يتوافدون على الغرفة التي يسهرُ فيها الأهلُ على الميت. ومن ثمَّ يقترحون على إدواردو العودة إلى بيته للإستراحة، فعلاً لم يبقَ لدى الجثمان ماعدا أصدقاؤه الثلاثة الذين يوزعون ملابس الميت فيما بينهم، ولا يكتفون بذلك بل يحملون الميت إلى بيت كتاريا حيث يتمدد هناك على السرير، كما يعودُ الصخبُ والحركة إلى الشوارع والحانات بعد تفنيد خبر موت "كينكاس".
يشارُ إلى أنَّ الكوميديا هو عنصر أساسي في مفاصل النص لاسيما في فقراته الأخيرة عندما يمسكُ الأصدقاءُ بزعيمهم الميت، ويضعونه في المركب إلى أن تهبُ العاصفةُ وترعدُ البروق ويلقى كينكاس بنفسه في البحر ويدفن كما أراد. وما يلفت النظر في شخصية جواكيم هو تحوله في الخمسين من عمره ، ولولا هذا الحدث ما سقطت الأقنعة على الوجوه التى لا يهم أصحابها غير المظاهر.