بوب كوفمان ومطره القديم

ترجمة بوب كوفمان إلى اللغة العربية مهمة ليست بالهيّنة، وذلك لطبيعة اللغة التي يستخدمها الشاعر.
بوب كوفمان كان مُعجبا بالرئيس الأميركي كنيدي، ويرى فيه الأملَ لمستقبل أميركي أفضل
المطر القديم يبلل وجهي فأتحرر من كراهيّتي لنفسي

لعل ترجمة بوب كوفمان إلى اللغة العربية مهمة ليست بالهيّنة، وذلك لطبيعة اللغة التي يستخدمها الشاعر، والتي تأتي في سياق الارتجال، أو الشعر الغنائي الذي يميل  إليه المزاج الشعبي، والذي يعتمد أيضا على الاستعارة من اللغة المحكية للأميركيين من أصول إفريقية، إضافة إلى أنّ الشاعر كوفمان كان أقرب إلى المذهب السريالي في تمرد شعره على القوالب المألوفة في الأدب والشعر والفن، تلك السريالية التي تسعى لتطويع أدواتها من أجل الغوص في قاع المعنى، والانفلات من القواعد الصارمة. لذلك تأتي لغة كوفمان الشعرية مكثّفة ومضغوطة بالدلالات الرمزية، التي من شأنها أن تكون عسيرة على المتلقي. 
ولكن المترجم المغربي لحبيب الواعي، استطاع أن يفكّ الكثير من ألغاز اللغة، وحاول نقل روحها إلى العربية، معتمدا على قدراته اللغوية التي أهّلته لأن يدرك شاعرية كوفمان. ولحبيب الواعي أستاذ الأدب واللغة الإنجليزية، وقد تلقى دورات في الكتابة الإبداعية في مدرسة جاك كيرواك للشعر، ونُشرت العديد من مقالاته في إحدى جامعات كولورادو، واشترك في الكثير من المهرجانات الشعرية، سواء في المغرب أو الولايات المتحدة، كما أنه عازف لآلة الساكسفون، مما يجعله أقرب إلى روح بوب كوفمان. وقد أصدر هذه الترجمة العربية لمجموعة بوب كوفمان المسماة "المطر القديم".   
لا يمكن فصل شعر بوب كوفمان عن حياته، فلغته الشعرية كانت صرخات من الوجع لحياة حادة عاشها موتا بطيئا، وكأن وعيه الشعري والإنساني قد جعله يمشي حافيا في حقل من الأشواك، وهو المولود في منتصف عشرينيات القرن الماضي، في أوج الفصل العنصري في مجتمع رأسمالي مقيت، يجرد البشر من إنسانيتهم، لصالح آلة الإنتاج التي لا يمتلك فيها العامل الفرد سوى قدرته اليدوية المحدودة، والتي تغذّي هذا العملاق الاقتصادي، بالجهد والتعب، ولا تستفيد منه إلا النزر اليسير. 
من سوء حظ الشاعر بوب كوفمان، أنّه ترعرع في ظل قسوة لون البشرة، الذي يرفع أو يضع الإنسان وفق أصوله العرقية، فأميركا كانت تضع قوانين الفصل العنصري بعد أن تخلصت من مرحلة العبودية، ومن هنا تبدأ رحلة اغترابه التي جعلته يتلظى على جمرة الوعي بالمهانة في ظلّ اختلال في القيم، ومما زاد الطينَ بلّة قناعاته الإشتراكية التي جعلته متهما بالشيوعية، في ذلك الوقت الذي كانت المكارثية تقمع الفنانين والشعراء التقدميين وكل المنظومة الثقافية التي تؤمن بالحرية الحقيقية، ومنهم بوب كوفمان. 

Poetry
 المطر القديم يتحول إلى علاج للطاعون 

وحينما تزوج هيلين الإيرلندية الأصل، تكرّس لديه الشعور بالتمييز العنصري بشكل أكثر حدة، وذلك لمنعه من مرافقة زوجته في الأماكن العامة، كالمطاعم والفنادق وغيرها، مما أثّر عليه كثيرا وجعله يشعر بنوع من الانتكاسة النفسية، فظل يُدمن على الخمر، ويسلك سلوكا متمردا، مما جعل الانفصال حتميا مع زوجته. ولكنّها  كانت تتابع إبداعه بشغف واهتمام رغم القطيعة بينهما. وكان لها الفضل الكبير في جمع شعره، لأن بوب كوفمان لا يكترث لنفسه ولشعره ،فكان يكتب على أوراق السجائر وعلب الثقاب والأكياس الورقية، كما أنه كان يرتجل الشعر في أغلب الأحيان، لذا فالكثير من شعره قد ضاع في هذه الفوضى.  
لقد كان مُعجبا بالرئيس الأميركي كنيدي، ويرى فيه الأملَ لمستقبل أميركي أفضل، وقد أصيب بخيبة أمل كبيرة حينما أغتيل كنيدي، حتى امتنع عن الكلام والكتابة والشعر لعقد من السنوات، وسميت هذه السنوات بالصيام، ولكنّه أنهاها وتخلى عن صمته الطويل، وعاد إلى الشعر والحياة بعد انتهاء حرب فيتنام، مستبشرا بأميركا جديدة خالية من الحروب.  
لقد كان  كوفمان ساخرا بطبعه، متهكما في سلوكه وفي شعره، بحيث يصعب على المقربين منه أن يحددوا جدّه عن هزله، كما اندمجت قصائده في موسيقى الجاز والبلوز والهيب هوب، حتى انتشرت في أصقاع أميركا، وعبرتها إلى عوالم أخرى.
كان يتعامل مع النص على أنه أداة سياسية تهكمية، تترجم مشاعر المقهورين، لذلك فقد اعتبروه شاعر الشوارع والمشردين، يجمع بين المفردات السوقية التي تفوح برائحة قاع المدينة، ويدمجها بالمفردات الأكثر أناقة وعمقا. فهو شاعر عفوي،  ولايتورع أحيانا أن يصعد على أسطح السيارات ويلقي شعره على المارة، لذلك فقد كان ضحية لاعتقالات متكررة من قبل الشرطة الذين كانوا يوسعونه ضربا، ويعرضونه إلى صعقات كهربائية أفقدته جزءا من ذاكرته، وقد ذُكر عنه أنه اُعتقل في عام واحد أكثر من خمس وثلاثين مرة، أي بمعدل مرة كل عشرة أيام، لأسباب تافهة ومنها تأثيرات سلوكه حينما يكون ثملا، وفي إحدى المرات اعتقل بسبب مشيه على العشب!
يقول ديفيد غروندي:
"بعد تعرضه للضرب والسجن والصعق بالكهرباء، عاش كوفمان حقيقة الإرهاب العنصري في جسده، ومع ذلك فقد حوّل وضعَه كغريب ومهمش إلى شرط من شروط الحرية، قصائده هي سلسلة من الانفجارات للنفسية الاجتماعية لهذا العالم".
عاش كوفمان على حافة الفاقة، رغم ثروته الفكرية ومواهبه، وسمو مشاعره الإنسانية. إنها القسوة التي طحنته بين أنيابها، فأضحى مدمنا مشردا لا يختلف عن صعاليك المدينة المشردين في الشوارع. حتى قال عنه إيريك وولكر: 
"إنه شاعر حقيقي يتعرض للضرب من المجتمع .. كتبَ تحت تأثير الخمر أكثرَ قصائده وضوحاً".  
الكثير من النقاد يعتبر بوب كوفمان مؤسس حركة "جيل بيت" التي تأسست في خمسينيات القرن الماضي، وبقيت آثارها على الشعر الأميركي خاصة وعلى الشعر العالمي عامة، وقد انتقل تأثيراتها على الشعر العربي، وقد يكون شعراء الستينيات متأثرين بها. وجيل بيت تعمل على كسر القواعد التقليدية للشعر الكلاسيكي، أسوة بالفن السريالي، لذا فقد كان الشعر ينحو باتجاه الحياة اليومية، ويقتنص منها موضوعاته، ولأن الواقع كان قاسيا، فقد لجأ كوفمان إلى التهكم، الذي أضحى أسلوبا لهذه الحركة، ولم تكن روح السخرية تجري في شعره، بل انتقلت إلى حياته اليومية، فيروي أحد المعجبين بشعره أن التقاه يوما في المكتبة، فسأله:
هل أنت بوب كوفمان؟ فرد عليه كوفمان بقوله: أحيانا!  
يقول أحد أصدقاء الشاعر: جاءني بوب كوفمان وفي ملامحه رعبٌ حقيقي. ولما استفسرتُ منه مستفهما. فصاح بصوت مبحوح: حريق دانتي. وكنت أعتقد أنها واحدة من استعارات كوفمان وتهكماته وهو يتحدث عن ملحمة الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي والمعروفة بـ "جحيم دانتي". فإذا بي اكتشف بأن فندق دانتي الذي يسكنه الشاعر كوفمان قد احترق، فركضت إلى غرفته، واستطعت إنقاذ مسودة مجموعته الشعرية "المطر القديم" التي يبدو على أوراقها آثار الدخان والرماد.

والمجموعة الشعرية تشتمل على قصائد عديدة، تعبّر في مجملها عن حالة التمزق التي يعيشها كوفمان، حينما يتوحد في عزلته التي تجعله أكثر التصاقا بالعالم الحقيقي، فالشاعر يتحرر عن طريق المعاناة والعذاب، وهو يختصر تاريخ المعاناة لذوي البشرة السمراء الذين كانوا ضحايا اختلال المعايير، وكانت معاناتهم نقطة سوداء في تاريخ الإنسانية. لقد احتفى برموز الحرية والعدالة ومنهم الشاعر لوركا الذي مجّد مواقفه الإنسانية، ولا تخلو قصائده من رثاء لوركا وعن الغجر الذين ينشدون أجمل الأغنيات والألحان على روحه التي انطفأت من أجل الوطن، ويعتبر لوركا إيقونة ثورية، ويصفه كوفمان بأنه سماء طاهرة ونقية، كما يذكر في شعره فان كوخ وأذنه المقطوعة، ورامبو ووجهه الجميل وهو يسافر بعيدا في أدغال إفريقيا. 
أما قصيدة كوفمان الأخيرة في المجموعة الشعرية "المطر القديم" ، فهي تكثيف لرؤيته حول العالم وحول أميركا التي يجرفها المطر القديم، ممثلا بهيمنة سلسلة الحروب، فالمطر القديم يهطل بغزارة، ويتلون بألوان مختلفة، كأطياف من الدمار، أو مشاعر الكراهية المضغوطة في حاويات مقفلة، وقابلة للانفجار، فثمة تكثيف للموت الذي يجتاح زوايا العالم، من خلال النازيين الذين يحرقون العالم بلهب حروبهم، ومقابر الآسيويين، موت كنيدي ومارتن لوثر وانتخاب روزفلت، ومطر ميلاد أميركا. حيث يتحول إلى رموز شتى، ومعانٍ مختلفة تتقافز على صفحات النص، حتى يتحول هذا المطر القديم إلى علاج للطاعون السائد حسب إحدى قصائده، وقد يبلل الناس بالحقيقة، أو كما يقول:
"المطر القديم يبلل وجهي فأتحرر من كراهيّتي لنفسي".
 لقد شحن الشاعر قصائده بالكثير من الأسماء والمصطلحات والأمكنة والتنظيمات، كما تجول في أسماء المدن والنصب التذكارية والشوارع ورموز الحرب والحرية والعنف، وكل ذلك اقتبسه من التاريخ الأميركي.
لقد تحوّل ديوان المطر القديم إلى بيان بلسان المعذبين من أجل عالمٍ بدون كراهية أو حروب، من أجل عالم يتّسع للجميع.