"بيبي... أو نحرق البلد"

منذ 1995، يحكم اسرائيل قاتل اسحق رابين. كيف يمكن السماح لقاتل بالتحكم ببلد وسياستيه الداخليّة والخارجيّة؟

ليس ما شهدته إسرائيل في الأيّام القليلة الماضية، وما زالت تشهده، سوى دليل آخر على وجود دولة مريضة أخرى في منطقة تمرّ في مخاض ليس معروفا ما الذي سيؤدي إليه. لن يغيّر شيء تأجيل "بيبي" نتانياهو الإصلاحات التي يقترحها في شأن دور السلطة القضائية شيئا نظرا إلى أنّ الأزمة الإسرائيلية اعمق من ذلك بكثير.

مثلما بات مطروحا إعادة تركيب سوريا ولبنان والعراق، بات مطروحا، اكثر من أي وقت، إعادة تركيب إسرائيل. هل يمكن إعادة تركيب إسرائيل في ظلّ سيطرة اليمين المتطرف على مقدرات دولة تعتبر من بين اكثر الدول تقدما في العالم تكنولوجيا وبين الأكثرها تخلفا من ناحية التمسّك بالخرافات الدينيّة والعنصرية والإصرار على ممارسة الإحتلال؟

كان الإسرائيليون يسمون نفسهم "شعب الله" المختار. صاروا في السنة 2023 شعب الله المحتار، بعدما تبيّن أن الأزمة الداخلية الإسرائيلية أزمة مركبة يحتاج الخروج منها إلى الخلاص من بنيامين نتانياهو أوّلا. لم يعد ينقص رئيس الحكومة الإسرائيلية سوى اعتماد الشعار الذي رفعه النظام السوري في مواجهة الثورة الشعبية التي اندلعت في مثل هذه الأيّام من العام 2011، وهو شعار "الأسد أو نحرق البلد". لم يعد مستبعدا أنّ يرفع انصار نتانياهو هذا الشعار في ضوء إصراره على جعل السلطة القضائية تابعة للسلطة التنفيذية وللأكثريّة اليمينيّة في الكنيست، وهي أكثرية حجر الزاوية فيها المستوطنون في الضفّة الغربيّة.

تبدو الأزمة الإسرائيلية مركّبة نظرا إلى أنّها تعبير عن انقسام عمودي للمجتمع. طال الإنقسام الجيش الإسرآئيلي والإدارات المختلفة، بما في ذلك الإتحاد العام للنقابات وقطاعات مثل القطاعين الطبي والتعليمي.

تبدو الحياة معطلة في إسرائيل في ظلّ تجاذبات ليس معروفا إلى ما يمكن ان تنتهي إليه... وفي ظلّ إصرار "بيبي" على أنّ مستقبله السياسي أهمّ من مستقبل إسرائيل. لم يعد ما يمنع حصول "حرب أهليّة"، حذر منها رئيس الدولة اسحق هرتسوغ وسياسيون آخرون.

هناك من يزايد على بنيامين نتانياهو في ما يخصّ وقف تشريع الإصلاح القضائي. يهدده وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير بالتخلي عن "بيبي" واسقاط حكومته في الكنيست في حال تراجع عن ضرب السلطة القضائية، لكنّه يوجد وزراء آخرون يملكون حدّا ادنى من التعقل. كتب وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي ميكي زوهار على "تويتر": "عندما تشتعل النيران في المنزل، لا تسأل من هو على حق، بل تسكب الماء وتنقذ قاطنيه". وأضاف: "إذا قرر رئيس الوزراء إيقاف التشريع من أجل منع الشرخ في الأمة، فيجب علينا دعم موقفه".
واقترح وزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات على نتنياهو "وقف" خطته للإصلاح "وإعادة حساباته". حذر، بدوره، من أن الخطة الهادفة إلى اصلاح القضاء دفعت البلاد إلى شفا حرب أهلية. قال: "الإصلاح ضروري وسنفعله لكن ليس على حساب حرب أهلية".

ليست الأزمة التي تمرّ فيه إسرائيل سوى تعبير عن مسار معيّن. يتمثل هذا المسار في الصعود المستمرّ لليمين منذ وصول تكتل ليكود إلى السلطة في العام 1977. عرف المجتمع الإسرائيلي دائما كيف الحدّ من التطرف اليميني. وُقّعت معاهدة السلام المصرية - الإسرائيليّة في مثل هذه الأيام من العام 1979، أي قبل 44 عاما، مع حكومة برئاسة مناحيم بيغن. لكنّ المقلق حاليا أنّه لم تعد من حدود للتطرف اليميني بعدما صار متطرف من طينة "بيبي" تحت رحمة متطرفين آخرين. يزايد هؤلاء عليه وصولا إلى حمله على إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت لمجرّد اعتراضه على خطوة المس بالسلطة القضائية.

في مسيرة صعود اليمين، كانت نقطة التحول إغتيال إسحق رابين في الرابع من تشرين الثاني – نوفمبر 1995 في اثناء إحتفال في تل أبيب على يد متطرف يدعى ييغال عمير. دفع رابين ثمن توقيع إتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية من جهة وإعتقاده، من جهة أخرى، أنّ ليس في الإمكان بقاء إسرائيل دولة ديموقراطية ذات أكثرية يهودية في غياب تسوية مع الفلسطينيين كشعب موجود في الضفة الغربيّة وغزة وفي داخل إسرائيل نفسها، أي داخل ما يسمّى "الخط الأخضر" (حدود 1948).

منذ الرابع من تشرين الأوّل - نوفمبر 1995، يحكم اسرائيل قاتل اسحق رابين. كيف يمكن السماح لقاتل بالتحكم ببلد وسياستيه الداخليّة والخارجيّة؟ من يتمعّن في هذه المعادلة يستوعب لماذا لا تستطيع حكومة "بيبي" إخراج إسرائيل من دائرة العنف، خصوصا أنّها تضم وزراء من أمثال بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وزراء لا يختلفون في فكرهم عن الفكر الذي قاد إلى إغتيال اسحق رابين.

يصعب الكلام عن عودة إلى منطق السياسة في الداخل الإسرائيلي وعلى الصعيد الإقليمي ما دام قاتل رابين لا يزال يحكم إسرائيل الساعية إلى تنسيق جدّي مع الولايات المتحدة ومع دول المنطقة في مواجهة الخطر الإيراني الداهم.

في النهاية لا يمكن اتباع سياسة إغتيال الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة... والعداء للأردن من جهة والشكوى في الوقت ذاته من إيران ومشروعها التوسعي في المنطقة واحتمال حصولها على سلاح نووي من جهة أخرى.

من يلجأ إلى سياسة الإغتيالات، أي السياسة التي اتبعها قاتل رابين، لا يمتلك سياسة من أي نوع كان، لا تجاه الشعب الفلسطيني ولا تجاه الداخل الإسرائيلي وكلّ ما يدور في المنطقة، بما في ذلك خطر تحوّل الجنوب السوري إلى قاعدة صواريخ ومسيّرات إيرانيّة أخرى في المنطقة...

فقد المجتمع الإسرائيلي، الذي تحوّل إلى مجتمع مريض، أي تماس مع منطق السياسة. لعلّ أكثر ما يدلّ على ذلك تشكيلة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تضمّ وزراء دينوا في قضايا ذات علاقة بالإرهاب والفساد. الأكيد أنّ مثل هذه الحكومة، التي يمكن ان تتسبب بإنفجار كبير في داخل إسرائيل نفسها وفي الضفّة الغربيّة، لا تصلح للتعاطي مع تعقيدات الشرق الأوسط والعالم.

تصلح حكومة "بيبي" بالكاد للقضاء على السلطة القضائية في إسرائيل لحماية رئيسها من تهم الفساد التي تلاحقه يوميا. تفعل ذلك تحت شعار "بيبي أو نحرق البلد" المستعار من نظام في حرب يومية مع شعبه!