بين التمسك والتملك تظهر حقيقة الرجال

المرأة تحب من يتمسك بها، وتهرب ممن يحاول تملكها ويسلبها حريتها باسم الحب.

الرجل الحقيقي يتمسك ولا يتملك، والفرق بينهما كبير وشاسع، فالمتمسك لا يحرم الطرف الآخر حرية الاختيار، ولكنه يشعره بمدى أهميته لديه ومحبته له وفي نفس الوقت احترام حريته، بينما المتملك ليس لديه أي احترام لحرية الطرف الآخر، بل لا يفكر إلا في نفسه وما يريحه ويطمئنه هو.

ودائما الأمثلة قادرة على توصيل الفكرة أكثر ولذلك فقد بحثت في التاريخ لأعطي أمثلة لرجال فهموا معنى الرجولة بشكلها الصحيح بعضهم كان صاحب نفوذ وقوة ويخشاه الرجال، ولكن احتراما لكرامته كرجل لا يقبل على نفسه أن يعيش مع امرأة لا ترغب في الحياة معه، يستجيب لرغبتها في الانفصال دون مضايقتها أو التضييق عليها أو البحث عن كيف يجعلها تندم أو منعها من الزواج من غيره.

ومن أشهر الأمثلة قبل الإسلام قصة هند بنت عتبة مع زوجها الفاكه ابن المغيرة، حيث كانت له دار يقصدها الناس دون إذن. وذات يوم خرج وترك هند نائمة، فدخل أحد الغرباء للدار فوجد المرأة نائمة فخرج ولم تكن قد شعرت بوجوده، فقابله الفاكه وهو خارج ثم دخل على هند وأنبهها من النوم وسألها من الخارج من عندك، فقالت: والله ما انتبهت إلا أن أنبهتني. فقال لها: الحقي بأبيك.

وحين عرف الأب سأل ابنته: أي بنية فإن كان ما يقوله المغيرة صحيحا، أرسل وراءه من يقتله فلا يلحق بك العار، وإن كان لا حاكمت المغيرة عند كهان اليمن. فقالت: والله يا أبت إنه لكاذب. فواجه عتبة الفاكه وطلب منه الاحتكام لكهان اليمن فوافق الفاكه. وحين وصلوا إلى اليمن، ارتبكت هند، فسألها والدها عن السبب، فقالت: هذا بشر قد يصيب وقد يخطئ. فأيد كلامها، وخبأ حبوبا في ملابسه، وحين وصل سأل الكاهن عما يخبئ فأخبره عما يخبئ وعن مكانه، فاطمئنا لحكمه، وحين عرضت عليه النساء وصل عند هند ومسح يده على رأسها، وقال: قومي غير رسحاء ولا زانية، وستلدين ملكاً سمى معاوية. فلما خرجت أخذ الفاكه بيدها فنترت يده من يدها، وقالت: والله لأحرصن أن يكون ذلك الولد من غيرك.

وقد كان، طلقت منه وتزوجت بعده أبو سفيان وأنجبت معاوية بن أبي سفيان. والشاهد من القصة أن هند بنت عتبة كانت سيدة لها رأي وعقل، وحرة في اختيارها، ولم يجبرها زوجها في الجاهلية على الحياة معه رغما عنها، بل شعر بالخزي لاتهامها في شرفها، وتركها تتمتع بحريتها واختيارها دون أذى.

والقصة الثانية وهي أشهر من الأولى، وهي أيضا لهند، هند بنت المهلب. فقد تزوجها الحجاج ليوثق علاقته بأهلها ولكنها وجدته شديدا، ولم تنجب منه رغم مرور عام على زواجهما، فأخذها لطبيبة وحين سألتها من أنت؟ أنشدتها تلك الأبيات..

وما هند إلا مهرة عربية

سليلة أفراس تحللها بغل

فإن ولدت فحلا فلله درها

وإن ولدت بغلا فجاء به البغل

وحين سمع الحجاج تلك الأبيات طلقها دون أي أذى منه لها أو انتقام بعد ما قالت، بل اكتفى بقوله: "كنت فبنت، وهذا مالك". وأعطاها صداق مهرها، فما كان منها إلا أن قالت: "كنا ما حمدنا، وبنا فما ندمنا". ثم قدمت هند مؤخرها هدية للرجل الذي أرسله لها الحجاج بالصداق تعبيرا عن سعادتها بطلاقها منه.

والقصة الثالثة قصة بريرة ومغيث، فقد كانت تخدم في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحين أعتقت طلبت الطلاق من مغيث. فعن ابن عباس: أن زوج بريرة عبد أسود يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته. فقال النبي لعباس بن عبدالمطلب: "يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا". فقال النبي: "لو راجعته". قالت: "يا رسول الله، تأمرني؟" قال: "إنما أنا أشفع". قالت: "لا حاجة لي فيه".

تعددت أسباب الطلاق لكل منهن، ولكن القرار كان واحدا وكل من الرجال الثلاث طلق زوجته دون أذى أو انتقام.

وفي الشريعة اليهودية كما ذكر الكتاب المقدس "موسى أذن أن يكتب كتاب طلاق، فأطلق" (مر 4:10) لأن الحياة أحيانا بين الزوجين تصل لمرحلة يستحيل معها العشرة.

وقد أجهدني البحث عن أمثلة شبيهة في الفترات السابقة على تلك القصص، وقد استشرت عددا من الأصدقاء المتخصصين في التاريخ ليمدوني بما أثري به مقالي، وما توصلت إليه منهم أوثقه كما ذكروه لي مع نسب ذلك الحديث إليهم.

فوفقا لما ذكره لي د. شريف شعبان الخبير في الآثار المصرية القديمة وتاريخ الفن، فإنه كان للمرأة في مصر القديمة الحق في تطليق نفسها بنفسها في عقد الزواج، وهو ما نص عليه لفظا: "تهجر زوجها". وقد ظهرت حالتين في تطليق المرأة نفسها خلال العصر المتأخر وخلال الأسرة 30، وفي العصر البطلمي أضيفت فقرة تسمح للمرأة بتطليق نفسها بشكل صريح.

وأضاف "وهناك نحو 10 برديات طلاق تدل على الطلاق المكتوب وليس الشفاهي حتى يضمن للمرأة تسريحها الرسمي، وهي موزعة بين المتحف البريطاني ومتحف برلين والمتحف المصري بالقاهرة، وذلك على عكس حضارة بلاد بين النهرين حيث كانت تمنع تشريعات حمورابي طلب المرأة للطلاق وتسجله باعتباره عملا أحمقا."

أما الباحثة ومرممة الصور الفوتوغرافية القديمة د. ميرفت جرجس عبد الله فتؤكد أنه كان للمرأة في مصر القديمة حق الطلاق فكان الرجل يقول: "أنا أتركك" وهنا يحدث الطلاق، والمرأة تقول: "سأذهب إلى بيت أهلي" وهذا دليل الطلاق.

بهذه السهولة والبساطة والاحترام كان يحق للمرأة التي لا تطيق الحياة مع زوجها حرية الطلاق والانفصال عنه مع إعطائها كافة حقوقها المنصوص عليها.

والحافز وراء كتابتي لهذا المقال هو ما صرنا نتابعه على كافة المواقع الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي من حالات فردية ولكنها في تزايد بشكل مخيف لأزواج "يقتلون" زوجاتهم إذا طلبن الطلاق. والحوادث والأمثلة كثيرة، ولعل أكثرها شدة وحدة وعنف وإجرام هي الحادثة المفجعة لزوج يعمل أمين شرطة، ذهب لأهل زوجته بعد طلبها الطلاق ومعه "طبنجته الميري" ليقوم بإطلاق الرصاص عليها وعلى أخيها وأمها وأبيها وأبنائهما الثلاثة، ليزهق في دقائق معدودة 7 أرواح بريئة لم يكن لهم ذنب سوى أن الزوجة لم تجد راحتها في تلك العلاقة المؤذية، فقررت طلب الانفصال.

وهنا يتضح بشكل جلي الفرق بين التمسك والتملك. ولعل فيلم "الباب المفتوح" لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وصالح سليم ومحمود مرسي نموذجا واضحا أيضا لهذا الفرق، فإن الأستاذ الجامعي الذي قدم دوره النجم محمود مرسي كان متملكا يرغب في تغييرها للنموذج الذي يرغب أن تكون عليه، أما حسين والذي قام بدوره صالح سليم فقد تقبلها كما هي وما كانت محاولته بتغييرها إلا محاولة المحب لمساعدة المحبوبة في التخلص من عقدة جعلتها تغلق قلبها عن أي حب، ولكن لم يفرض عليها حبه أو يرغمها عليه، لذلك كان اختيارها الحر أن تكون معه، وهذه حقيقة مشاعر المرأة فهي تحب من يتمسك بها وتهرب وتخشى من يتملكها.

ويعجبني بشدة قصة حب الفنان محمد حماقي لزوجته نهلة، فقد انفصلا في احترام لمدة عامين، ولم يسئ أحدهما للآخر فكانت هناك فرصة للعودة بعد عامين من الانفصال راجع كل منهما مشاعره ورغبته في العودة وكيف كانت حياته مع الشريك وما الفرق بينها وبين الحياة بدونه.

واذا حاولت تفنيد الأسباب التي تجعل بعض الرجال في الوقت الحاضر عدوانيين فيما يتعلق بقضية العلاقة مع الزوجة، فلا شك أن الأمراض النفسية لها علاقة بذلك. وفي هذا السياق أستشهد برأي د. جمال شفيق أحمد أستاذ علم النفس الإكلينيكي وأمين لجنة قطاع الطفولة بالمجلس الأعلى للجامعات أن كل حادثة وكل سلوك منحرف له أسبابه الخاصة، ولا نستطيع تحديد سبب دون الرجوع لعدة عوامل تتعلق بالشخص مرتكب الجريمة، هذه العوامل هي، العوامل الثقافية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية ونظام التربية والتنشئة الاجتماعية من الطفولة، كيف تعامل هذا الشخص في طفولته وما هي الخبرات السلبية والإيجابية التي تعرض لها، والواقع الذي يعيشه اليوم والضغوط النفسية التي يتعرض لها والأزمات التي مر بها، ولكن يمكن بصفة عامة تحديد العوامل المشتركة وقد يكون الشخص يتوفر به عامل أو أكثر.

وفي محاولة مني لتحليل تلك الأسباب توقفت عند عدة عوامل، وهي الأمراض النفسية التي مع زيادة انتشارها لا يكون هناك اهتمام باللجوء لمتخصص للمساعدة خوفا من وصمة العار في المجتمع أو إنكارا من المريض النفسي لحالته، أخطاء التربية التي ينشأ الرجل بها على أنه يمكنه الحصول على كل ما يريد، ولا يوجد شيء يقف أمام رغباته، تزايد تعاطي المخدرات وظهور أنواع جديدة يتفوق تأثيرها على أنواع سابقة عليها، والعنف الذي يقدم في بعض الأعمال الدرامية.

واستوقفني بعض الأعمال السينمائية فكان منها الإيجابي والسلبي، وتأثر الشخص بأي منهما يرجع لشخصيته واختياراته في الحياة.

فكما كان كما ذكرت نموذج حسين وليلى في "الباب المفتوح" كان هناك نموذج الأستاذ الجامعي. ومن الأفلام التي قدمت النموذجين أيضا في تضاد واضح، فيلم "موعد على العشاء"، فقدم حسين فهمي النموذج السلبي وقدم أحمد زكي النموذج الإيجابي وفي "زوجة رجل مهم" نموذج جلي على حب التملك، ومن النماذج التي قدمت في عمل كوميدي رائع عادل إمام في "البحث عن فضيحة"، وكان هناك تمسك مرضي مثل مجدي كامل وحبه لشخصية منى زكي في فيلم عن "العشق والهوى"، ومن الأفلام العالمية فيلم "فورست جامب" وفيه نموذج شديد الإيجابية عن الحب والتمسك، وعلى النقيض منه فيلم "ذئب وول ستريت".

المرأة تحب من يتمسك بها، وتهرب ممن يحاول تملكها، ويسلبها حريتها باسم الحب، مهما كانت المغريات التي سيقدمها لها الطرف الآخر. فحرية الاختيار تظل قوة تستند عليها المرأة في اختيار الشريك والتمسك بها بإرادة حرة، وغير ذلك يكون منفرا لها ودافعا قويا للانفصال، والتمسك طريق لقلبها بينما التملك طريق لرفضها.