تجربة خاصة بالغة الذاتية لمارغريت دوراس في 'العاشق'

الروائية الفرنسية تعود إلى فترة صباها لتروي جانبا من سيرتها الذاتية أثناء إقامتها في مدينة سايجون عندما كانت فيتنام مستعمَرة فرنسية؛ مقدمة ما كان يُطلق عليه في الثلاثين عاما الماضية 'الرواية الجديدة'.

تعود الروائية الفرنسية مارغريت دوراس في روايتها "العاشق" بذاكرتها إلى فترة صباها، لتروي جانبا من سيرتها الذاتية أثناء إقامتها في مدينة سايجون، عندما كانت فيتنام مستعمَرة فرنسية؛ فتحكي عن أُسرتها المكونة من أمها التي تعمل مدرسة، وأخيها الأكبر الذي أضمرت له الكراهية من فرط حب أمها له حتى تمنت قتله؛ وأخيها الأصغر الذي أحبته بشدَّة لكن الموت سلبه منها أثناء الاحتلال الياباني. لكن أبرز أشخاص حكايتها هو ذلك الشاب الصيني الثري، الذي رأَته أول مرة على متن عبارة، في سيارته الليموزين؛ إذ عاشت معه قصة حب عابرة، لكنها كانت بالغة العمق لدرجة أنها تتذكَّر كل تفاصيلها بدقة بعد مرور أكثر من خمسين عاما؛ فتروي لنا تفاصيل ذلك العشق الذي أنضجها إلى الحد الذي جعلها ترفض الانصياع لرغبة أمها وتقرر السفر إلى باريس.

يرى المترجم محمود قاسم للرواية الصادرة عن مؤسسة هنداوي أنها تنتمي إلى ما أطلق عليه "الرواية الجديدة"، تلك التي أثارت نقاشا طويلا حول ماهيتها وأهميتها وجدواها ومصيرها في الثلاثين عاما الماضية، موضحا أن الرواية الجديدة جاءت كظاهرة أدبية وأنها لم تأت من فراغ، ولم تكن محاولات تجريب عبثية، كما تصور البعض، مثلما حدث في بعض حركات الفن التشكيلي. وإنما هي مدرسة لها كتابها المبدعون، ومنظرون، ونقاد، وكان أغلب أبناء هذه المدرسة هم كتابها ومبدعوها، وهم الذين راحوا يؤصلون اتجاهاتها وعطاءها، وفيما بعد سعى هؤلاء إلى تقديمها لجمهورِ السينما والمسرح بأنفسهم؛ فأخرجوا رواياتهم مباشرةً دون الاستعانة بأي مخرِجين من أي مدرسة.

يعتقد قاسم أن هناك مداخل عديدة للرواية الجديدة من أجل فهمها؛ منها كتاب "نحو روايةٍ جديدة" الذي كتبه آلان روب جرييه. وفيه يرى جرييه أن"الرواية الجديدة كاللوحة التي يصنعها الرسام من خلال اللون؛ فالروائي يصنع الرواية بالكلمات. في اللوحة خطوطٌ وألوان، وعندما تتحول إلى كلماتٍ مثلالموسيقى التي تصنع النوتات؛ إنها نفس الشيء، لكن المواد الأولية هي التي تختلف. واللغة مادة مختلفة تماما عن المواد الأخرى؛ لأنها تستخدم في عملية التواصل".

ويتابع أن الرواية الجديدة تعالج في مجملها عدة موضوعات من بينها: مشاكل الالتزام والتأثير والتقنيات الروائية، والعلاقة بين التنظير والإبداع. ومثلما جاء في كتاب "نحو روايةٍ جديدة" الذي ترجَمَه مصطفى إبراهيم أن أهم سمات الرواية الجديدة أنها رفضت فكرة الشخصية والحكاية والالتزام. وأن التفسيرات غائبة ومفترَضةٌ في مواجهة حضور البطل. وأن على اللغة الأدبية أن تتغير. وأنَّه ليس هناك أي عملٍ من الأعمال الأدبية المعاصرة يتفق والقواعد النقدية الثابتة. وأنه يلزم لتفهم وتناول الرواية الجديدة ناقد له مفرداته اللغوية الخاصة التي تتناسب ولغة ومفاهيم هذا اللون من الرواية. كما أن الرواية الجديدة فقَدَت اليوم سندها الأكبر، وهو البطل والحدوتة. أيضا نرى فيها الأشياء ليست على شيء من التنظيم الذي نشاهده في الواقع الذي هو مليء دوما بالفجوات والانقطاع. وهو لا يمكن أن نحدد به شكلا متكاملا، بل هناك مجموعةٌ من الجزئيات المتناثرة التي يمكن جمعها في إطار عام.

ويلفت قاسم إلى أن رواية "العاشق" بمثابة تجربة خاصة بالغة الذاتية عاشتها الكاتبة، فلا يمكن فصل الحديث عن هذه الرواية عن سيرتها الذاتية؛ فأُسرتها هي إحدى الأُسر التي رحلت إلى الهند الصينية إبان الاحتلال الفرنسي لفيتنام. عاشت الأسرة بأكملها هناك: الأم، والأب، والإخوة. وقد وصفتْ مارجريت أحوال أُسرتها وصفا دقيقا في هذه الرواية؛ فهي أسرة فقيرة في وسط استعماري مليءٍ بالأجواء الخانقة. وإذا كان هناك تميز، كما ترى الكاتبة، بين الجنس الأبيض والجنس الأصفر؛ فإن أُسرة الكاتبة كانت تعيش في قاعِ المجتمع. فالأم لا تجِد أموالا من أجل شراء ملابس لأولادها، وهي تعمل مديرة لإحدى المدارس، وقد ولدت مارجريت عام 1914م في سايجون. ويذكر أنه فيما قبل نشْرِ روايتها"العاشق"؛ فإن سيرتها الذاتية كانت معتِمةً وعليها هالةٌ سوداء. ومن هذه الرواية، نعرف أن أسرتها الصغيرة قد عاشت في سايجون فترةً طويلة قبل أنْ ترحل إلى فرنسا. وقد غادرت مارغريت فيتنام عام 1942م إلى باريس وهي في الثامنة عشرة، وقد خصصتْ عن هذه الفترة غالبيةَ أجزاء الرواية. وفي باريس كانت تحمل مسودة روايتها الأُولى "المتعجلون" التي نشرتها في عام 1943م. ورغم أن الرواية الجديدة لم تكن قد اتضحت معالمها بعدُ في هذه الرواية ـ بدأتْ بشكلٍ واضحٍ من خلال كلود سيمون عام 1945م ـ إلا أن التجارب الأُولى للكاتبة قد أشارت إلى أنها سوف تقدم، فيما بعد، شيئا مختلفا. وفي باريس درست الكاتبةُ القانونَ والعلوم السياسية واستمرت في نشرِ رواياتها، وإذا كانت دوراس قد نشرت روايتها الأُولى عام 1943م؛ فإن أُولى مسرحياتها قد نُشرت في عام 1959م، أما أول فيلم أجرَتْه فقَدْ ظهَرَ عام 1966م تحت عنوان "الموسيقى".

ويلقي قاسم الضوء على عالَم دوراس من خلال النفاذ إلى نقاط محددة في هذا عالمها الرحيب؛ ويضيف "أدبُ دوراس يدور حول قطبَين دون أن يتناقضا. وبدا هذا واضحًا في رواياتها خاصةً الأُولى منها. وفي "خزان فوق المحيط الهندي" تتحدث عن أمها دون الإشارة إليها صراحة، مثلما فعلت في "العاشق"، المدرسة التي تخطى بها الزمن؛ وهي امرأة تتسم بالسذاجة والبساطة، وتواجه الظروف الصعبة التي تحيطها. وهي محصورةٌ بين طموح أولادها الذين يريدون العودة إلى فرنسا، وبين أصدقائها الذين يدورون مثل بقرةِ الساقية بلا هدفٍ محدَّد.وفي رواية"مدام دودين"نجِدُ أنفسنا أمام شخصَين لا نعرف اسميهما يلتقيان لأول مرة. هي خادمة تعمل في فندق. وهو بائعٌ جوال يعمل في شوارع المدينة، يكافح كل منهما كي يعيش حياته. هي امرأة في حاجة إلى رجل، وهو رجل في حاجة إلى امرأة.. الاثنان يعانيان من عزلة وأرق وملل. إنهما يمارسان حياتهما بأسلوبٍ مشابِه. ويقترب كل منهما من الآخر بعد عِدة لقاءات. يدور دائما كلام بينهما. لكن على الكلام أنْ يُصبح نغمةً واحدة، وعلى الإيقاع أن يتوحد بينهما؛ كي يقتربا أكثر. تقص عليه قصصا من حياتها، يفكر فيها، يحدثها أنه يود الارتباط بها. يا له من ارتباط!. مثل هذه العلاقات، هي هم الكاتبة في أدبها. وإذا كانت قد أوجدت شكلا تقليديا لها في رواياتها الأُولى؛ فإنها فيما بعدُ تحدثتْ عن نفس العلاقات من خلال شكلٍ تجريبي جديد. مثلما حولت رواية "خزَّان فوق المحيط الهادئ"إلى "العاشق".

ويشير أن الرواية الأُولى التي بدأ فيها التجريب واضحا؛ هي "خيولُ تاركينا الصغيرة" وفي هذه الرواية اختفى الموضوعُ وانحسرت الشخصيات، وضاقت الأماكن بشكلٍ واضحٍ. مثلما حدث في "هيروشيما حبي" حيث هناك امرأة فرنسيةٌ تحب رجلا يابانيا شهِد في طفولته ما حدث في مدينة هيروشيما من فظائعَ عقب إلقاءِ القنبلة الذرِّية.ومن أشهر رواياتها في تلك الفترة"الساعة العاشرة والنصف من أُمسيةِ صيف"التي تتناول فيها علاقة مشابِهةِ بين رجل وامرأتَين.وبدءًا من هذه المرحلة التجريبية، عمدت الكاتبة إلى تجريد شخصياتها من أسمائهم، والأماكن التي يعيشون فيها. وهم أشخاص ليس لديهم أي شيءٍ بطولي؛ إنهم يتبادلون الإشارات والكلام دون أن يَصِلُوا إلى أهداف محددة. ولا يظهرون أفكارهم ولا مشاعرهم، ويجهلون أو يخفون الأخطار التي تحيق بهم: الانفراد، والإعياء، والجنون، وإدمان الخمر، والجريمة. ولا يتمُّ بينهم أيُّ اتصالٍ حقيقي ولا أي حوار. يَبدون كأنهم يُلاحقون مناجاة متوازية. ويتكلمون ـ ليس للتعبير عن أنفسهم ـ من أجل استكشاف حيوات سرية تصبح ملموسة بفضل حالتهم ذاتِ الوعي النصف، وذلك رغم تفاهة كلماتهم الظاهرة.والنساء في هذه الأعمال التي ظهرت في تلك السنوات يعشنَ في عالَمٍ من اللامبالاة. ويعِين عزلتهن ويقسن اتساع عالمهن الرتيب البارد، إنهن دون هوية، وتجربتهن هي الوصول إلى هوية، مهما كان الثمن. وهن يضعن أنفسهن في استيداع كلما ينتظرنَ الإشارة بأن الشيء قد بدأ.

ولأنه يمكن أن فصل إبداعَ دوراس الروائي عن المسرحي والسينمائي، تناول قاسم عطاءها السينمائيِّ، مؤكدا أنه من قراءة القائمة الكاملة لأعمال الكاتبة، نراها قد حولت إحدى رواياتها إلى فيلم. وفي فترة أخرى، حولت فيلما من أفلامها إلى رواية أو إلى مسرحية. وفي هذه الأعمال تلعب المرأة الدور الرئيسي، أمَا الرجل فهو مخلوق ثانوي هامشي. وقد أصبحت النساء بلا وجوه أو هوية أو ملامح، مجهولة المنبع، غير معروفة المصير، لا تتسم بذكاء أو بسِمات آدمية مميزة، تعيش وجودها لحظة بلحظتها. وعليها أن تعطي بلا حدودٍ مثلما حدَثَ في فيلمها "أنشودة هندية". حيث نجِدُ أنفسنا أمام امرأتين تسيران في خط متوازٍ: الأُولى امرأة ثرية، والأُخرى تعاني من إملاقٍ شديد. الأُولى محبوبةٌ، والثانية عاشقة؛ إنهما صورتان لامرأة واحدة نقابلهما في كل مكان. الأُولى تعرف تماما وتعي قضية الوجود؛ فتهجر الرجل. والثانية لا تعرف، ولكنها تعيش بأي ثمن. هناك الصراع والموت والكفاح من أجل الحياة، والبقاء.

أما فيلم "الحافلة" فتدور أحداثه داخل مقصورة سيارةٍ كبيرةٍ، لا يجلس فيها سوى السائق وامرأةٍ، داخلَ عالم مغلَق. تتكلم المرأة، والرجل يسمع. وتتصاعد حدة الموقف بين الاثنين من خلال ما يقال وما يسمع، وكأنهما في عالَمٍ سحري. شخصيات داخل شخصيات، أو فيلم في أعماق فيلم، ثم يدخل فيلم ثالث داخل الفيلمين. المرأة هنا هي إحدى نساء دوراس اللائي يجِدن الحديثَ حول حكايات متناثِرة سمعتها من هنا وهناك. امرأة بلا هوية محددة. تتحدث حول أشياء مجهولة الهوية. لا رابط بينهما. إنَّها أقرب إلى وساوس المجانين؛ تشعُر نحوَ السائق بحب. هو أيضا مجنون؛ تكلم عن السياسة والعنصرية والثروة. يقود وهو يتلذذ بسماع صوتها، لكنهيتنبه إلى أنه ليست هناك امرأة في السيارة؛ إنها صوت يهفو إليه من الخارج. لعل صاحبته جالسةٌ بجانبه، ولعلها قادمةٌ إليه من المستقبل، أو لعلها تصعد من حُفرة الماضي البعيد. إنها تمثل صوتَ الكاتبة؛ كأنها تحاول، بدورها، أن تسري عن السائق في رحلته الطويلة المعزولة. وتحدثه عن أشياءَ عديدة، بعضها لا يعرفها، وأشياء أخرى أيضا لا يعرفها!.. وفي فيلم "السفينة ليل" نرى عالما يحده الحب من طرف، والموت من طرف آخر. أشخاص يجتازون الرحلة في سفينة ليل، لا أسماءَ لهم أو عوالم محددة. تحدد هويتها صور سريعةٌ أو حوار عابر، أو تعليق طويل. وفي هذه السفينة نرى ثلاثة أشخاص، هم صورة مكررة من الذين تحدث عنهم سارتر في"الأبواب المغلقة":رجل وامرأتان يدور بينهم حوار غير متتابِع، وبلا منطق. وقد أخرجت الكاتبةُ هذه الرواية بنفسها لكل من السينما والمسرح.

ويرى قاسم أنه إذا كانت الكاتبة تميل إلى استخدام لغة خاصة في أدبها؛ فإنها تحول كل كلمة إلى صورة في أفلامها، وتقول إنها تمارس نوعا من القهر والضغط النفسي على مُشاهدي أفلامها "حدثني شخص يوما أنه قد اتفق أنْ يعرض أفلامي على مسافةِ أربعين كيلومترا من باريس. إنها فكرة رائعة؛ فهكذا نرغب أن تُعرض أفلامنا. فأنا أعرف أنني أوجه أعمالي إلى ثلاثين ألف شخصٍ، وأنا أعمل من أجلهم. ولن يحرمني هذا من إمتاع الآخَرين. وعلى كل، فلا يوجد جمهور شعبي في فرنسا مثلما يحدث في العالم بأسره؛ فالكل سوف يفهم، من العمال وحتى المفكرين. لن يوجد طليعيون، لكن فقط أُناس يُخلصون لتجاربهم".