تجلي الفن البصري والكتابة في 'حكاية نرويجية'

روايات فالدباكن تأتي بلاذعة وهجائية لا هوادة فيها ومليئة بفكاهة كانت تضرب باستمرار تحت الخصر كونها تكسر المحرمات وتشكك في الثقافة الاستهلاكية الأنانية في الغرب أبطالها أما بغايا أو قوادين أو تجار مخدرات أو نازيين جدد أو مجرمين العنيفين.

ماتياس فالدباكن فنان وكاتب نرويجي يعيش في أوسلو، ابن الكاتب النرويجي الشهير كنوت فالدباكن، درس في الأصل الفنون الجميلة، ولكن لفترة من الوقت أصيب بخيبة أمل من فكرة ممارسة الفن كمهنة وكرس نفسه للكتابة، فأصدر أولى روايته "كوكا هولا" عام (2001) ثم أولى أجزاء "ثلاثية الكراهية الاسكندنافية"، وقد كان يستخدم في تلك الفترة اسم مستعار هو "أبو رسول".. 

روايات فالدباكن بلاذعتها وهجائيتها التي لا هوادة فيها، والمليئة بالفكاهة والتي كانت تضرب باستمرار تحت الخصر، كونها تكسر المحرمات وتشكك في الثقافة الاستهلاكية الأنانية في الغرب، أبطالها أما بغايا، أو قوادين، أو تجار المخدرات، أو نازيين جدد، أو مجرمين العنيفين. الأمر أثار ضجة كبيرة في النرويج حولها.

يؤكد فالدباكن في هذه الأعمال السردية ما يقدمه في أعماله الفنية حيث يلعب على الاختلافات والتشابهات في مجريات الحياة اليومية والللغة والأهم بين فرادة الفن المستقل والآخر التجاري الاستهلاكي في الحياة اليومية، حيث يرى أن ذلك يعد مركزيا في ممارسته الفنية، نظرًا لشغفه بأنظمة المعرفة والسلطة والنظام والتبادل، وبالفعل يظهر اهتمامًا خاصة بفهم كيف يمكن للفن والفنانين أن يكونوا مشاركين نشطين في التفاعل مع حيوات البشر مع الواقع المحيط على اختلاف مستوياته.

فالدباكن فنان بصري رفيع المستوى بشكل متزايد،اذ إنه أنتج مجموعة منتقاة من الأعمال الفنية، بما في ذلك الفيديو والنحت والتركيبات والرسم، والتي تدين من الناحية المفاهيمية للتيارات المناهضة للمؤسسة والمناهضة للفن. في أعماله العديدة المستندة إلى النصوص والمناهضة للشعارات يتجلى ذلك في الشريط الأسود على اللوحات أو اللوحات التي توضح الكلمات، أو الكلمات التي يبدو أنها تم التراجع عنها، والتي أصبحت بشكل تدريجي أكثر تجريدًا وصعوبة في القراءة. على سبيل المثال، ربما يعلن في لوحة "بدون عنوان عن الموت والدمار، قد تكون مستوحاة من العلامات التي يتركها المراهقون الذين يؤذون أنفسهم على أذرعهم.

هذه الرواية التي ترجمتها عن الإنكليزية "حكاية نرويجية" نانسي محمد، وحررتها وراجعتها هدى فضل، وصدرت عن دار العربي، هي الرواية السادسة للروائي، ويذهب فيها إلى الأساطير والطب والقانون والأدب لخلق العديد من المفاهيم التي تكشف عن الخوف والانبهار بالاختلاف.

وتدور الرواية حول الصبي "أوسكار" الوحيد بالتبني والذي يعمل في مزرعة "أود و"أولاف بلوم" التي تقع في إقطاعية "سكراستاد" مقابل الطعام والسكن. في أحد الأيام يكتشف "أوسكار" "طفلا صغيرا قبيحا غير مهندَّم، شعره الملبد يتدلى على جبينه المجعد بخصلات متشابكة كالنقانق. ومن تحتها تظهر عينان مذعورتان، تتلاحق نظراتهما من جانب إلى آخر فوق أنفٍ مغطى بالقشور. شفتاه متيبستان زرقاوان، وعنقه نحيل للغاية. غطت جسدَه خِرقٌ كانت يومًا ملابس عفا عليها الزمن، وحملته ساقان نحيلتان أبرز ما فيهما ركبتاه. كان الصغير حافيًا، وبدت قدماه المتضخمتان - كجوربين صوفيين - مبللتين. احتكت إحدى يديه بالأرض بين حين وآخر، إذ انحنى للأمام في أثناء سيره على الطريق، في حين تشبثت يده الأخرى بملف أو ظرف رث الهيئة، وقد ضمَّه إلى ضلوعه البارزة. بدا كأنه حيوان خرج من وسط الشجيرات من أجل إيصال رسالة ما". وسرعان ما يكتشف "أوسكار"  أن الصغير طفلة وأنها تعاني من بطئ النمو وعدم القدرة على التعبير، ولكن تحت رعايته وترويضه وفي ظل حميمة وتفهم أسرة آل بلوم، تبدأ في النمو بسرعة فائقة.

الرواية بالنهاية قصة حب بين شخصين ضائعين، قصة بلوغ سن الرشد "ذكر وأنثى" بين القرى والمدن والغابات وفوق الجبال التي يتعين عليهما المرور بها؛ قصة مكتوب بشفافية لغوية، حيث تنطلق اللغة إلى حدودها المطلقة عبر سرد غير التقليدي، يتناوب بحرية بين تقاليد الرواية الواقعية، والهجاء، والرومانسية، والحكايات الشعبية، وتمزج مزجا فنيا فريدا بين العاطفة والسخرية الفظة، ذات رؤية تمس أسئلة وجودية أساسية: ما هو الإنسان؟ ما هي اللغة والحضارة مقارنة بالطبيعة؟.. وأخيرا تتجلى فيها خلفية الروائي مجال الفن البصري حيث الاهتمام الحماسي بملمس الطبيعة الإنسانية وتطوراتها وأيضا ملمس الأشجار والنباتات في القري والغابات.

مقتطف من الرواية

كان الطعام كله لذيذًا وراقيًا. تجاذبت المراهقتان أطراف الحديث فيما بينهما عند أحد أطراف الطاولة، أما الشابة باعتبارها ضيفة الشرف هذا العام فقد أكلت بشراهة. كانت جائعة حقًّا. لم تعد تأكل ورأسها تقريبًا في الطبق، على الرغم من أنها ما زالت تأكل بانحناءة طفيفة، وتجلس في وضع منخفض عن الآخرين. وانتباهها منصبٌّ على أطباق التفاح المختلفة أمامها. كانت تأكل بسرعة، لكن هذا كان ببساطة ما عليهم تحمله.

لأنها كانت هنا جالسة إلى طاولة بشكل بدا طبيعيًا، كما أن الغداء نفسه مر دون عوائق. أما نحن بصدده هنا لم يكن الغداء اليومي – ولكن تجمع الغداء السنوي، فقد مر بشكل عادي أو خاص مثله مثل أي تجمع آخر – ولكن رد الفعل الذي اتَّخذته الطفلة عندما نهضت بعده هو الذي أتحدث عنه.

في أقصى الشمال، في الكتلة الصخرية الباردة المعروفة باسم النرويج، في مزرعة، في صالون، نهضت فتاة، امرأة شابة، عن المائدة بعد الغداء بحركات متصلبة. ثم توقفت فجأة لتنظر على يسار المدخل، حيث عُلِّق جزء من إرث العائلة، مرآة طويلة بإطار مذهَّب ومزخرف. لم تكن المرآة شيئًا تلاحظه عند دخولك إلى الغرفة، ولكن كان من السهل "مصادفتها" في طريقك للخروج. وقد "صادفتها" الفتاة. آخر مرة رأت فيها تلك الصغيرة انعكاس صورتها، كانت صورة مرتعشة لطفلة تطل على مستنقع صغير بجوار "جرافاسن"؛ أما الآن فقد وجدت نفسها تحدق إلى صورة كاملة الطول لامرأة حسنة الملبس.

إن أولئك الذين لم يروا سوى انعكاسهم على سطح مستنقع هادئ ومظلم لديهم صورة ذاتية لا يمكن تغييرها. وحتى أفضلنا لا يستطيع مواجهة انعكاسه، لذلك يمكننا فقط أن نتخيل كيف رأت هذه الفتاة الشابة انعكاسها في مرآة كاملة وواضحة. كانت المرآة في ارتفاع الباب وعرضه تقريبًا. بعبارة أخرى، بدت وكأنها باب لعالم آخر بالخارج. وقفت الشابة التائهة أمامها كالمسحورة، وبدأت – أو بدت كأنها - تتحدث مع نفسها.

انفتح فمها وانغلق دون صوت، في نوع من الهمس الصامت. أمالت رأسها إلى الخلف قليلًا وضيقت عينيها متفحصة وجهها بنظرة متربصة. قال أحدهم:

- حان وقت الرحيل.

لكن الفتاة لم ترغب في أن تمر عبر الباب؛ بل أرادت أن تمر من خلال تلك الفتحة الأخرى التي بدت كأنها تسحبها إلى داخلها. كان باب الصالون هو المخرج إلى العالم الواقعي، والباب الآخر هو الذي يفتح الحدود لعالم آخر ربما أكثر أهمية. وهكذا ظلت الفتاة في مكانها، مشلولة ومهتاجة.

تُرى كيف بدت في فستانها، وشعرها ولونه الذي يشبه لون الحصى وقد رُبط إلى الخلف، وبشرتها، هل هي بلون الطباشير أم الجير؟ لا، هي نفسها لم تكن لتعرف هذه التشبيهات، ولكن لو أن هناك من يمكنه مساعدتها، فماذا كان ليقول؟ شعرها بلون الفحم، وجلدها بلون بودرة التلك، وكتفاها هزيلتان، وصدرها مدور كالبرميل، ما زالت قصيرة بعض الشيء، لكنها بدأت تتغير. عيناها ثاقبتان، نظرتها دكناء منطفِئَة كما لو أنها قد أكلت توتًا غير ناضج، من عينين تشبهان رأسي دبوسين ضخمين. حاجبها مستقيمان ومميزان، ذراعاها مرتخيتان مثل خرطوم المياه، معصماها متعرجان، يداها متأرجحتان. تبدو كأي طفل نرويجي لم يبلغ بعد، ولكنها أيضًا نحيفة كفزاعة الحقل، جذابة إلى حد ما، لكن عظام جسدها شديدة البروز. بدا مظهرها غير متلائم تمامًا. ظلت محاصَرة في المرآة. من المحتمل أن "أوسكار" هو من سيضطر إلى انتزاعها بعيدًا عنها. "أوسكار؟" نطق أحدهم.. لكن لا، لم تستمع. كانت الفتاة واقعة في أسر انعكاسها في المرآة، ولم تكن لإغراءات "أوسكار" المعتادة - الثور، وشجرة البلوط، والحوض - أي تأثير.

ثبَّتت الفتاة قدميها في الأرض، ولم تتزحزح.