تظاهرات السترات الصفراء في فرنسا.. هل هناك ربيع اوروبي قادم؟

الغربي يجد أن لا عدالة الرأسمالية هي العدو الحقيقي وليس ما يريدون أن يقنعوه به من خلال الأخبار المزيفة.

"لا يمكن القيام بدراسة اجتماعية.. بدون فلسفة" - لينين

"المشكلة انه يتم احلال السياسي مكان الاجتماعي" – ماركس

الاحتجاجات على ضرائب الوقود في فرنسا حملت عنوانا مبسطا ومناسبا لوسائل الاعلام وهو "السترات الصفراء". غير ان تحولها بسرعة الى تظاهرات منظمة وحاشدة تضم ربع مليون شخص جعلت العالم يأخذها بجدية بعد ان ظنها مجرد احتجاجات عابرة كما ظنتها الحكومة الفرنسية نفسها في البداية.

الرئيس الفرنسي خرج بخطاب بعد المظاهرة الكبرى الاولى ليعترف بوجود مشكلة لكنه قال انه لن يتراجع عن اقرار المرسوم. ولكن بعد المظاهرة الثالثة اعلنت الحكومة تعليق الضريبة. غير ان المتظاهرين لم يتراجعوا وفي اليوم التالي تم الاعلان عن الغاء الضريبة تماما. أي ان الدولة هي التي تراجعت امام المتظاهرين بدل تراجع المتظاهرين امام اغراء الرضوخ الاولي للحكومة.

واليوم هناك - مع ذلك - خوف من ان تندلع مظاهرات عنيفة يوم السبت والذي سيكون السبت الرابع من التظاهرات القوية. ولم يعد من باب المبالغة الاعلامية او الزخرفة الشكلية ان تعود قنوات الاعلام الفرنسية والعربية الى احياء ذكرى احداث "انتفاضة الطلاب عام 1968" التي شملت الغرب كله من اوروبا الى اميركا اللاتينية ومصر لكنها كانت ابلغ ما تكون في باريس بحيث ان الذاكرة اليوم تشير الى "ايار الفرنسي" عندما يشار الى انتفاضة الطلاب التي وصفها المفكر الفرنسي الكبير اندريه مالرو حينها بأنها: "أعمق تظاهرات الحضارة". والإعلام الحالي اضطر للاعتراف "بالبعد الثالث" لتظاهرات السترات الصفراء - اي بعد العمق - وكان يمكن ان تظل مثل مظاهرات سابقة ذات بعدين سياسيين فقط دون بعد ثالث وهما البعدان الذي يطبعان الاحداث منذ سقوط جدار برلين وتتويجه بشعار "نهاية التاريخ" كما لو ان كل ما يحدث يظل حدثا خاليا من التاريخ ومن الدلالة الاجتماعية.

لكن امتداد التظاهرات الحالية في فرنسا الى بلجيكا وهولندا منذ ايام – تماما مثل انتفاضة الطلاب في 68 - وخروج البلجيكيين والهولنديين بسترات صفراء قد يكون الاشارة الاولى في ظاهرة قد تمتد الى دول الجوار القوية مثل المانيا وبريطانيا. إلا أن الأهم هو انها قد تعطي الاشارة لمجتمعات اوروبية ديمقراطية ضعيفة ومتعثرة تقع بين التقدم الاوروبي والفشل العربي مثل اسبانيا في اقصى الغرب واليونان في الشرق والتي تضع اوروبا الغربية بين قوسين بالإضافة الى ايطاليا وسط اوروبا الغربية والتي تمثل "دولة فاشلة" بالمقاييس الاوروبية. وعندها ستكون هذه التظاهرات منعطفا لحقبة بدأت منذ انهيار الكتلة الشرقية وانتصار الايديولوجية الرأسمالية الوحيدة الباقية.

* * *

تقول مواطنة فرنسية لوسائل الاعلام في شوارع باريس تعليقا على التظاهرات: "لم يعد لدى الشعب ما يخسره". وهذا كلام يدهش اي مواطن من العالم الثالث كان يظن انه هو وحده من ليس لديه ما يخسره. ومنذ عام 1991 كتب نعوم تشومسكي في كتابه "الغزو مستمر" بان لدى الولايات المتحدة عالما ثالثا خاصا بها شبيها بسياسات في العالم الثالث. وجعل عنوان الفصل الاخير من الكتاب: "عالمنا الثالث". واليوم تعيش اوروبا الغربية منذ حوالي ربع قرن ما تم الترويج له باعتباره "انتصارا" للإيديولوجية الرأسمالية على الايديولوجية الاشتراكية لكنه يتكشف عاما بعد عام على انه انتصار الرأسمالية على قيم الديمقراطية والضمان الاجتماعي داخل المجتمعات الغربية اي انه خيانة للشعوب الغربية في موازاة خدعة الانتصار المجاني الوحشي للرأسمالية على بلدان في العالمين الاسلامي والاشتراكي مهزومة مسبقا والتي – في الحقيقة – لم تعد تحارب الغرب.

هذه وقائع تحدث تباعا من خلال عجز شامل لدى القوى الاجتماعية الاوروبية عن تغيير مسار العولمة التدميري. فقد فشلت اوروبا - رغم ارادتها الصادقة - في دعم مسيرة السلام بين الفلسطينيين واسرائيل وتحقق الالتفاف على السلام والعودة الى الصفر تقريبا كما فشلت في الحد من الهجوم الاميركي على العراق وأفغانستان وفشلت اخيرا في وقف التلاعب السياسي بـ"الإرهاب الاصولي" الاسلامي وهو بالأصل "نظرية اميركية" عن صناعة تهديد دولي بعد انهيار الكتلة الشرقية وقد رفضت اوروبا في البداية الانخراط فيها – كما يذكر بونيفاس في كتابه "ارادة العجز" ومثلما يذكر وزير الدفاع الفرنسي المستقيل اثناء حرب تحرير الكويت – لكن اوروبا منذ سنوات رضخت للحرب على الارهاب من خلال تواتر وقوع حوادث ارهابية متنقلة في اوروبا كلها كنوع من الولاء للسياسة الاميركية او على الاقل عدم معارضتها تماما كما تفعل بعض البلدان الصغيرة والضعيفة التي من اجل استرضاء الولايات المتحدة حين تكون غاضبة منها فانها تعلن القبض – فجأة – على عناصر من تنظيم القاعدة بحيث تثبت ولاءها من خلال التأكيد على ان الارهاب ليس كذبة او وهما بل أمر واقع تأتي اخباره من كل جانب.

والمراقب قد يتفهم عجز البلدان الاسلامية عن وقف اللعبة الخطرة التي روج لها مفهوم صموئيل هينتنغتون عن "صدام الحضارات" لكنه يستغرب عجز مجتمعات ديمقراطية عريقة عن رفض جرها الى ضغط امني داخلي مستمد من الدعاية الدولية عن الارهاب اكثر مما هو نابع من معطيات او تحديات جدية.

الى هنا فان الموقف الاوروبي الشعبي هو موقف سلبي من سياسة تلقي بثقلها على البلدان الشرقية - فقط – ولكن الوضع لا يمكن ان يستمر بهذه السلبية لدى مجتمعات متطورة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا عندما تلقي نفس السياسة عبئها على المواطن الاوروبي. وقد كان من الممكن دائما توقع ان الاشارة سوف تنطلق من فرنسا اولا اذا انقلبت الامور عند نقطة معينة ضد مسار العولمة او الليبرالية الجديدة التي تفرغ الليبرالية الاصلية والديمقراطية من مضمونهما. وقد كانت النقطة الفاصلة هي مرسوم الضريبة الجديدة على الوقود واندلاع تظاهرات السترات الصفراء.

من الطبيعي ان المتظاهرين لا ينتمون الى اي من احزاب المعارضة ولا الى النقابات بحيث يصح التساؤل عن جدوى وجود نقابات طالما ان العمال والموظفين يتظاهرون دون استخدام هذه المؤسسات مما يعني ادراك الشعب بان السياسة افرغت الديمقراطية من معناها في الوقت الذي يحاول اليسار واليمين الاستفادة من التظاهرات على حساب الحكومة بدل الانضمام للمتظاهرين. اي ان الاحزاب كلها في الحكومة والمعارضة تمارس سياسة لم تعد لها علاقة بالمجتمع كما لو انها سياسة "تجريدية" يمكن حسابها بالأرقام والأصوات وليس بالمعاني او المضامين الاجتماعية الشعبية. وهذا بحد ذاته دليل على عمق الحدث الفرنسي الجديد كحدث شبيه بالحدث التاريخي لمظاهرات الطلاب قبل نصف قرن. وكما ان اعتراض الفرنسيين على ضريبة الوقود كشف بسرعة اعتراضهم على مرسوم سابق كان قد مر دون ضجيج هو الغاء الضريبة على الثروة اي اعفاء الاغنياء من الضرائب وفرض الضرائب على الطبقات الفقيرة وهو مبدأ تنهج الدول الرأسمالية على تبنيه بعد انهيار الاشتراكية. فلم تعد ايديولوجيا الرأسمالية بحاجة لإظهار سمات منافسة طالما انه لا يوجد منافس. كذلك فان تصاعد الجدال السياسي حول المشكلات الحقيقية قد يكشف المشكلات المزيفة والقرارات التي مرت وسط الركود السياسي السابق وقد يفضح سياسات ليست الدول الغربية جاهزة الان للتخلص منها مثل سياسات الارهاب. فالمشكلات المزيفة هي المشكلات الحقيقية الوحيدة حين لا يكون هناك جدال حولها.

يبدو من المألوف والمتكرر اليوم ان السلطات الامنية في فرنسا تحذر من ان التظاهرات القادمة قد ينضم اليها متطرفون وقد تستفيد منها "مجموعات ارهابية". ولذلك على المتظاهرين الفرنسيين اخذ الحيطة من خلط احتجاجاتهم مع احتجاجات المهاجرين او سكان الضواحي وفي حال حاولت السلطات خلط الاحتجاجات بالإرهاب او التغطية عليها بحدوث "تفجيرات" يقوم بها أصوليون فان الشعب سوف يرفض ان تستخدم ضده "الخدعة" التي كانت عادة تستخدم ضد شعوب الخارج. وسوف يثبت من جديد جهل حكومات العولمة لما يدور في اعماق الشعوب وما يقر فيها من "معرفة صامتة". فاحدى ناشطات السترات الصفراء خاطبت الرئيس ماكرون اثناء حضوره الى شارع الشانزيليزيه لتفقد اضرار التظاهرات قائلة: "ان حكومته هي التي ارسلت المخربين لتشويه تظاهراتهم."

* * *

لقد بينت الاحداث الاخيرة عدم توقع المسؤولين الحكوميين للتظاهرات رغم فداحة وضع الطبقتين المتوسطة والفقيرة في ظل الغلاء مما يدل على هزال سياسة الرئيس والحكومة ولكنها ايضا كشفت هزال احزاب اليسار واليمين في ظاهرة تشبه ظواهر العالم الثالث. فحيث ماتت السياسة في بلدان الجنوب وحيث تعيش الشعوب في البؤس والقمع والاستهلاك فان حكومات العالم الثالث انشأت احزابا سياسية ليس لها اي امتداد اجتماعي. فهناك "حزب للرئيس" وأحزاب للمعارضة تمارس سياسة شبيهة بالديمقراطية دون اي مضمون مما يجعل طابع الحياة السياسية طابعا مزيفا. وكذلك منذ نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند لم يعد الرؤساء اصحاب شخصيات سياسية قيادية او ملهمة بل مدراء. اما ماكرون فقد اسس حزبا هو ايضا "حزب الرئيس" وليس له اي امتداد اجتماعي او شعبي بل سياسي فقط ومع ذلك نجح في الانتخابات على حساب احزاب المعارضة. ولكن المتظاهرين اليوم يسمون ماكرون "رئيس الأغنياء" في مقابل احزاب معارضة شبيهة بأحزاب المعارضة في العالم الثالث كأحزاب انتهازية سواء حملت شعارات اليمين القومي مثل الجبهة الوطنية وماري لوبين او اليسار الماركسي على الرغم انهم يستخدمون موضوعات متفجرة لكنهم يتراجعون الى الصفوف الخلفية.

وبسبب من هذا الزيف كله تعود الى السطح مشاعر "العداء للسامية " في عدة بلدان اوروبية مع ان السياسات الحكومية كانت قد طورت العداء للعرب والإسلام كعداء "معلن " بديلا عن العداء "المكبوت" لليهود والزنوج لأنها قادرة على "ادارة العداء للعرب" دون وقوع انقسام اجتماعي داخلي لكنها لا تستطيع ادارة العداء للسامية او السود بنفس السهولة. وقد قام احد اليمينيين في ولاية اميركية منذ اسابع قليلة بمهاجمة كنيس يهودي – وليس مسجدا - وقتل تسعة اشخاص.

مشاعر العداء للمهاجرين تعود رغم ان المانيا فتحت الباب على مصراعيه للاجئين مما منح زخما قويا لليمين الالماني المعادي للأجانب في تلاعب سياسي بالعناصر اليمينية واليسارية وتعود مشاعر القومية والهوية رغم سياسات العولمة والليبرالية الجديدة. وفي الولايات المتحدة فان الرئيس نفسه يصف وسائل اعلام بلاده بأنها مزيفة مع انها كانت مزيفة دائما.

لن يحدث تغيير جذري للدول الاوروبية بين ليلة وضحاها ولكنها بداية تغيير للقوى الاجتماعية وإعادة استخدام لتعابير تم تصويرها لمدة طويلة على انها تنتمي لعالم قديم انقضى مثل تعابير "الهوية القومية" و"التاريخ الوطني" و"كراهية اليهود" وكذلك تعبير "عاشت الثورة" كما يصيح بعض المتظاهرين في شوارع باريس اليوم.

وفي حال تحقق توقع استلهام السترات الصفراء في فرنسا لكي يتحول الى ظاهرة اوروبية فانه لن يكون تكرارا ثانيا لتظاهرات الطلبة عام 1968 فقط ولا حتى تكرارا ثالثا لكومونة باريس في سبعينيات القرن التاسع عشر في عصر ماركس بل تحولا جذريا رابعا منذ الثورة الفرنسية اواخر القرن الثامن عشر. فقد كان التغيير في اوروبا ينطلق من فرنسا وقد دعا بعض نشطاء السترات الصفراء للتوجه الى موقع الباستيل - رمز الثورة الفرنسية - فيما يبدو كتظاهرة اخيرة من تظاهرات الحضارة الاوروبية على حد تعبير مالرو.