أوروبا اليوم: بين الهويات القومية والعداء للسامية

المسلمون يكرهون اليهود واليهود يكرهون اليمنيين واليمينيون يكرهون المسلمين واليهود معا.

من يتابع مجريات الأمور السياسية اليوم في أوروبا ومن يستمع، ليس لما يقوله الشعبيون أو الحزبيون بل لما يقوله محاضرون أكاديميون ذوو مكانة مرموقة، حيث يصل النقاش إلى حد المقارنة مع المرحلة التي سبقت صعود النازية والفاشية يصاب بالدهشة، حتى وان كان على علم بالتغيرات التي تحدث منذ التسعينات. ولكن الوصول الى هذه النقطة الحرجة بشكل مفاجئ تقريبا وباعث على الصدمة، يجعل المراقب يقع فيما يشبه التناقض فكيف تحدث مفاجأة طالما أنها جزء من سياق معروف يرجع الى ما بعد انهيار جدار برلين ولها مصادر معروفة؟

وتفسير ذلك ان الإعلام السائد لا ينقل وتيرة التغيرات الحقيقية بشكل تغطية إخبارية لأنها تكون من طبيعة إشكالية، أي أن نشرات الأخبار تذيعها ولكنها لا تغطيها بصورة عاكسة. فالقول ان هناك يمينيين او حتى نازيين جدد ليس جديدا منذ زمن، ولكن الانطباع الذي كان يتولد عن أخبار هذه المجموعات هو أنها تحت السيطرة، بل إنها في الحقبة الماضية كانت تظهر في الأفلام الأميركية كما يظهر الفلكلور الشعبي أو المعتقدات البالية التي يتمسك بها المتزمتون والجامدون وتظهر هكذا، وبدرجة اقل، في الدراما الأوروبية. ثم فجأة يجد من يقترب من أعماق المجتمعات الأوروبية أو الذي يعيش وسطها ويقوم بدراسة استقصائية، ان الظاهرة اليمينية تتجذر وتقترب من بلوغ درجة قياسية تنذر بالخطر في الوقت الذي يواصل فيه الإعلام الانشغال بقصة أخرى، وان لم تكن بعيدة عن التعصب، وهي: تقديم صورة ملحة وتفصيلية عن الجماعات الإسلامية المتطرفة، ويملأ الجو العام بتغطيات إخبارية عن حياة الأصوليين الإسلاميين وزوجاتهم وأطفالهم. بينما يفاجأ المراقب بازدياد بروز العداء للسامية بعيدا عن الأضواء، ووصول اليمين الى القمة في النمسا وايطاليا وتقدمه في ألمانيا وبولندا. ثم يأتي الإعلام ليقدم هذه الأخبار كنتائج دون ان يكون قد قدم السياق او الأسباب لتقدم اليمين الذي أصبحت شعاراته المعادية لليهود أكثر علانية. اي ان وسائل الإعلام الغربية – وبالتالي العالمية – عكست ظواهر سياسية ليس لها جذور حقيقية في المجتمعات الأوروبية، مثل الأصولية الإسلامية وحجبت – بذلك – إعادة اليمين المتطرف بناء قواعده السياسية وسط الناس وليس وسط الدعاية. ففي فيلم وثائقي من إنتاج قناة د. دبليو الألمانية العام الماضي نكتشف ان خمسين ألف يهودي هاجروا من فرنسا إلى إسرائيل خلال السنوات الأخيرة، والتقى الفيلم مع إحدى الأسر المهاجرة التي تحدث أفرادها أنهم لم يعودوا يشعرون – كيهود - بالأمان في فرنسا وهو أمر لم تلحظه نشرات الأخبار ولكنه حدث اجتماعي كبير بالنسبة للفرنسيين ولليهود.

وبالتالي فان النقاش الدائر يتمحور، في احد جوانبه، حول فشل او نجاح الإعلام الغربي في سياسته ورغم ان الإجابة تبدو سهلة وساخرة، لانه في هذه الحالة أدى إلى العكس من أهدافه ولكن ربما أن الأمر ليس بهذه السهولة فمن الصعب الاعتقاد بان إعلاما دءوبا وعالميا ومتفوقا، كان يجهل ما يفعله طوال نصف قرن تقريبا وانه لم يكن يتخيل النتائج.

النازية والشيوعية والإرهاب الأصولي

كانت السياسة الإعلامية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية تقوم حول التذكير بالمحرقة النازية لليهود كردع ضد الأفكار النازية من جهة، وتقوم على اتهام الشيوعية بكل شيء آخر من جهة أخرى. وحتى الثمانينات لم يكن يجرؤ الأوروبيون على انتقاد اليهود او إسرائيل، وقد حوكم مؤرخون شككوا بالروايات السائدة حول المحرقة – مثل روبرت فوريسون - كما سجن مؤرخون بعد صدور قانون يجرم "نكران المحرقة".

ولكن في ذلك العقد، أي الثمانينات، طرأ عنصر جديد هو تصاعد الموضوع الفلسطيني حيث شهدت العواصم الأوروبية، لأول مرة، مسيرات ضخمة تعلن تعاطفها مع الفلسطينيين وانتقادها لإسرائيل، وأرسيت تقاليد تضامنية مع القضية الفلسطينية حتى اليوم. ثم حدث تعديل جزئي في التسعينات مع اختفاء الكتلة الشيوعية حيث أصبح التركيز على المحرقة اليهودية – نفسها – مع التركيز على الأصولية الإسلامية كجذب لتوجيه العداء والمشاعر السلبية مع التيار العام لمحاربة الإرهاب، وتبرير السياسات الخارجية القاسية، وتوجيه الانتباه إلى أن الإسلاميين هم الذين ينكرون المحرقة.

حاولت إسرائيل إعادة التموضع ضمن الصورة الإعلامية الجديدة، حيث أصبحت ضحية الإرهاب الإسلامي وليس الإرهاب العربي كما كانت في السابق، أي ان الإعلام قام بترويج صور نمطية طالما كانت تحت السيطرة من اجل تهميش الظواهر الاجتماعية الحقيقية مثل اليسار واليمين ومعاداة السامية، التي إذا اتسعت لا يمكن السيطرة عليها. ولكن اليوم، حين نسمع أصوات يهودية تشعر بالقلق من البقاء في أوروبا أكثر من القلق الذي يشعر به المسلمون الذين يتضررون من الصورة الإعلامية عن الإسلام، فيصح التساؤل عن نجاح تلك السياسة الإعلامية أم فشلها. فاليوم يناقش حتى بعض اليهود ان اليمينيين صاروا يستخدمون الحديث الدائم عن المحرقة كسلاح ضد اليهود – على حد قولهم حرفيا. فاليمينيون يعترفون بالمحرقة ولكن بطريقة "نعم ارتكب النازيون ضدكم نفس المجازر التي ترتكبونها ضد الآخرين". وهذا ليس نكرانا للمحرقة، وبالتالي يلمح المناقشون ان الإصرار طوال نصف قرن على التذكير بما تعرض له اليهود في ظل النازية وإصدار قوانين تجرم من ينكر المحرقة، أدى إلى مفعول عكسي. بل يقول بعض اليهود ان اليمين الأوروبي معاد لليهود وللمسلمين وان الإعلام المعاصر يركز على صعوبة اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية، مثل التركيز في العهد النازي على ان تقاليد اليهود ومعتقداتهم تجعلهم عاجزين عن الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وهذا اعتراف من اليهود بان المسلمين ضحايا صورة نمطية، بعد ان كان كثير من أنصار إسرائيل الى فترة قريبة سعداء من الصورة الإعلامية الطاغية عن الإرهاب الإسلامي. بينما يقول يهود آخرون اليوم ان العداء لإسرائيل في العقود الماضية كان، في حقيقته، عداء كامنا لليهود لكنه استغل الموضوع الفلسطيني ظاهريا فقط، ولكن لم يقل هؤلاء اليوم بان سياسة الإعلام كانت غبية او أنهم كانوا مخطئين، فأين وقع الخطأ حقا وحدث الانحراف عن الهدف؟

عودة الهويات

هل يمكن ان تكون السياسة الإعلامية الأوروبية قد لعبت لعبة خطرة تشبه ما فعله الأميركيون في الستينات، عندما حدث استقطاب في المجتمع الأميركي بين البيض والسود؟ وهذه قضية اجتماعية حقيقية، فقد لجا الأميركيون الى التركيز على الأقليات الأخرى، مثل المكسيكيين والبورتوريكيين وغيرهم، بحيث أضاعت الاستقطاب بين المواطنين البيض ودعاة الحقوق المدنية الزنوج. ثم تدريجيا حصل السود على حقوقهم المدنية، ولكن فقدوا زخمهم السياسي وصاروا أقلية بين أقليات متعددة. فهل يمكن القول ان أوروبا تلاعبت سياسيا بتبني سياسة قبول المهاجرين في السنوات الأخيرة، وهي تعرف انها سوف تثير حساسيات اجتماعية يستفيد منها اليمين، وليس اليسار؟ فقد أصبحت الدعوة إلى وقف قبول المهاجرين شعارا يجذب المواطنين في كل مكان من أوروبا.

لا شك ان المهاجرين يستحقون اللجوء، خاصة الهاربين من المعاناة والحروب. ولكن، كان يمكن للدول الأوروبية ان تخفض الصراخ عن استقبال اللاجئين وتكتفي باستقبالهم وتأمين إقامتهم. بينما الملفت للنظر عدم الحذر الذي استخدمته الحكومات في الدعاية للمهاجرين في البداية ثم اخذت تعد بوقف قبول المزيد. وفي المقابل، نجد ان أنصار اليمين المعادي لاستقبال اللاجئين، والذين يعبرون عن خوفهم من ذوبان هويتهم الأوروبية وضياع عاداتهم بوجود الغرباء، هم في اغلبيتهم يعيشون في مناطق ريفية ليس فيها الكثير من المهاجرين وبعضهم لم يصادف مهاجرين في حياته، ولكن مشاهدة البرامج التلفزيونية لعبت دورا في اخافتهم.

هناك عودة للهويات وللانتماءات القومية، والتي تسمى بالشعبوية، ويمثلها اليمين المتطرف بينما يخسر اليمين المعتدل والشيوعيون التقليديون واليسار المتطرف، ماعدا الخضر، بينما الشعبوية في الأوساط العربية هي اللاقومية، باعتبار ان الهوية القومية والماركسية موضتان بائدتان من وجهة نظر الأوساط العربية التي تكيل المديح لأوروبا وديمقراطيتها وليبراليتها. ولكن بعد سنوات قليلة سيعيد الشعبويون العرب النظر في خطابهم عندما يرون ظهور الخطابات القومية المعادية لليبرالية الحالية في أوروبا.

وبالتالي نجد أنفسنا أمام هذا المشهد: فاليمينيون الأوروبيون معادون للمسلمين ولليهود، واليهود معادون لليمين الأوروبي وللأصولية الإسلامية، والمسلمون يكرهون اسرائيل واليمين الأوروبي، ليس هذا فحسب فبعض اليهود يتعاطفون مع المسلمين ويعادون اليمين فقط وبعض اليمينيين يعادون اليهود فقط وليس المسلمين وبعض المسلمين يعادون الإسلاميين المتطرفين بالإضافة الى خوفهم من اليهود واليمينيين. وليس غريبا – باعتقادي – ان عتاة السياسة الغربية على علم بكل هذه العناصر وربما تراهن على تشتتها هكذا للتحكم بها كلها؟ ولكنها تبقى كالعادة سياسة خطرة وسيئة ولكنها، والحق يقال، ليست جديدة. ففي بدايات القرن الماضي، منذ قرن كامل، كان الشيوعيون يتقدمون في ألمانيا وبريطانيا وايطاليا، فوجد الساسة الغربيون ان الأفضل فتح الطريق أمام القوميين من أبناء الطبقات الوسطى لصد الشيوعيين الذين ينشطون بين الطبقات الفقيرة. وحتى بعد وصول هتلر الى السلطة ظل الغرب يغض النظر عن التمويل المالي للدولة الالمانية التي يحكمها هتلر، ويرجع الى تلك الحقبة كتاب "ثقافة محتضرة" لكريستوفر كولدويل الذي يقول عن ليني "ما ان يظهر البطل حتى يظهر المهرج"، وكان يقصد بالمهرج كلا من هتلر وموسوليني. ولكن هذين المهرجين أشعلا الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا الغربية الديمقراطية ولم يسحقهما سوى تحالف يضم الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. ومنذ ذلك الوقت يتجاهل الغرب السياق الذي صعدت فيه النازية لأنه أسهم في صعودها، ورغم انه نجح في إبعاد الشيوعية عن أوروبا الغربية وأقام دولة اسرائيل لليهود إلا أن الغرب الرأسمالي دفع ثمنا فادحا، وجعلت الحرب من الاتحاد السوفييتي الشيوعي ثاني اقوى دولة في العالم.