تفسير تركي لتصرفات أردوغان

أردوغان ليس بالقوة التي يعتقدها كثيرون.

يشعر كل من يتابع تصرفات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، أن الرجل مسكون بالتضخم المعنوي الذي يجعله يقدم على تبني توجهات والقيام بممارسات تثير الغضب. واحتار كثيرون في تفسيرها وما هو منطقها، أو حتى استيعاب دوافعها. فهو يدعم التدخل العسكري في ليبيا، ويقدم ويحجم عن تطورات شرق البحر المتوسط، ويهذي أحيانا مع الغرب.

ربما تكون هناك شريحة من المواطنين الأتراك قادرة على فهم وتحليل الأسلوب الذي يتبناه أردوغان، لأن ما يبدو عشوائيا له خلفيات يستند عليها، وغير منفصل في معظم تفاصيله عن التوازنات التي يريد أردوغان التحكم فيها من دون السماح لأي شخصية أن تنازعه بعد تجربة انتخابات بلدية اسطنبول التي أطاحت بمرشحه وفاز منافسه المعارض.

جمعتني الظروف قبل أيام بصحفي تركي يقيم في مصر. ودار بيننا حوار طويل حول ما يقوم به فعلا أردوغان وما يمكن أن يقدم عليه قريبا. لم يبخل الصحفي في تقديم المعلومات التي تؤكد أن الرئيس التركي يبدو كمن يتصرف بجنون العظمة وهوس السلطة والرغبة في الاستحواذ والسيطرة على مقاليد ملفات رئيسية في المنطقة، لكنه في الحقيقة هو جنون الخوف من المستقبل والمصير القاتم، فهناك أعداء يفوقون الأصدقاء والحلفاء، ما جعله يلجأ إلى المعاني العاطفية التي تحمل دلالات وطنية لاستنفار المكونات القومية التي نجحت في جلب مؤيدين من غير المؤدلجين الإسلاميين.

قد يكون هذا الكلام يمثل لغزا لدى البعض أو يظهر كأنه محاولة لتهوين الأمر وتفريغ التحركات الأخيرة من مضمونها أو حتى النيل من أردوغان شخصيا. كل واحد يقرأ من الزاوية التي تريحه، لكن عليه الانتظار حتى نهاية السطور التي ربما تحمل مفاجأة لمن لم يتدبروا جيدا ما يفعله الرجل، أو حاولوا ولم تسعفهم الحجة ولم يتمكنوا من وضع أياديهم على جوهر ما يخطط له.

قال الصحفي التركي، إن أردوغان ليس بالقوة التي يعتقدها كثيرون. هو يشبه البالون القابل للانفجار في كل لحظة بمجرد أن يلمسه رأس دبوس. فالهواجس التي تسيطر عليه تجعله يرتكب ما هو أكبر. فقد أراد منذ سنوات قليلة أن يترجل ويبتعد عن السياسة ونتائجها السلبية، وأوعز لعدد من الدوائر الغربية بذلك، وألمح للحصول على ضمانات سياسية بعدم ملاحقته قانونيا على ما ارتكبه من جرائم، وتحديدا في سوريا. لكن جاءه الرد بالرفض، فشعر بالمهانة الشديدة وقرر التدخل والتسخين في كل القضايا والجبهات لخلط أوراق الدول الأوروبية. بدءا من الانحياز لصف روسيا وإيران وقطر والقريبين معهم، وحتى احتضان حكومة الوفاق في ليبيا ورئيسها فايز السراج.

اختار أردوغان حاشية في الداخل تسلم بكل رؤاه وتنساق وراء تصوراته ونزواته. ومن يدقق في الخطاب الرسمي يجده متشابها على كافة المستويات الوزارية ويردد أسطوانة واحدة، من الدفاع والخارجية والداخلية إلى وزارة العدل. وبالطبع حزب العدالة والتنمية الذي فرغه من كل القيادات التي قالت لا أو أبدت تحفظا على إجراءاته. وشكل هـؤلاء قوة لمعارضته، بعد أن باتت البيئة المحلية قابلة لتنفجر في وجه أردوغان. ولذلك لا تخلو خطاباته الخارجية من معان سياسية واضحة لتهدئة الفوران الداخلي.

لم يستبعد الصحفي التركي، حدوث انقلاب عسكري جديد، على الرغم من أن أردوغان قصقص الكثير من الأجنحة المناوئة له في الجيش، عقب التمثيلية التي حبكها عام 2016 عندما زعم أن هناك انقلابا عسكريا عليه، وتمكن من تقويض أركان هذه المؤسسة العريقة، وغيرها من المؤسسات الحيوية، ليصبح الرجل مطمئنا على عرشه. مضى نحو ثلاثة أعوام ونصف على هذه الواقعة ولم يستطع تبديد مخاوفه، ويثق في أن ظهره محميا من قوات الجيش والشرطة. فلا تزال مشاهد الانقلابات السابقة ماثلة في ذهنه، ولم تفلح تحركاته في طيها.

من هنا بدأ يفكر في حيلة أشد خطورة، تتعلق بتكوين ما يشبه الحرس الثوري، على غرار التجربة الإيرانية، لحماية أركان النظام في الداخل، وإسناد المهام الجسيمة له في الخارج. نعم الفكرة تصيب بالصدمة، غير أن تفاصيلها يمكن أن تفسر الكثير من الخطوات التي قام بها أردوغان في كل من سوريا ثم ليبيا. لم يتوان عن دعم المتطرفين والإرهابيين في البلدين وترحيلهم من بلد لآخر للتغطية على رغبته في جلبهم إلى تركيا ثم تجنيسهم. ويخطط ليكون هؤلاء نواة صلبة للحرس الثوري التركي على حساب عناصر الجيش الوطني.

جاءت إشارات رسمية من جهات عدة تؤكد العلاقة الوثيقة بين أردوغان والمتشددين وتوظيفهم في عمليات قذرة لم تعد العلاقة خافية. وتركز الحديث حول إرسال هؤلاء إلى بعض مناطق الصراعات الخارجية. واحتلت ليبيا حيزا كبيرا من الاهتمام في هذا المجال لتبرير استقطاب المتطرفين ونقلهم من شمال سوريا إلى تركيا. وهي العملية التي نشطت مع الشروع في إنشاء المنطقة الآمنة على الحدود بين البلدين، على اعتبار أنه سيتم شحنهم لاحقا إلى ليبيا. وبالفعل وصل المئات إليها مؤخرا، وبقي الآلاف داخل تركيا لتحضيرهم للمهمة الأخطر. وهي تكوين جيش يوصف بالحرس الثوري الإسلامي التركي، يتولى حماية النظام في الداخل، وذراع طويلة لتنفيذ عملياته في الخارج. وبذلك تخلصت روسيا والغرب من عقبة ترحيل المتشددين الذي ظل أردوغان يهدد بها ويتوعد بإطلاقهم نحو أوروبا لابتزازها.

أوضح الصحفي التركي، أن أردوغان لن يرسل قوات نظامية كبيرة إلى ليبيا وسيكتفي بأعداد رمزية منهم. فهو يخشى أن تكون هناك نهايته العملية. وسيواصل إرسال المرتزقة عبر شركة سادات الأمنية التركية الخاصة التي تستكمل حلقاته العسكرية مع جناح المتطرفين. ويركز على هدفه الاستراتيجي في أن يحصل على حصة كبيرة من غاز شرق المتوسط، تجلب له عوائد مالية تقلل من حدة مشكلاته الاقتصادية. وزاد قلقه مع تنامي دور منتدى شرق المتوسط وتحويله لمنظومة متعددة الأوجه. ونجاح مصر في أن تتحول إلى مركز إقليمي للغاز. وتيقن أن سياسة التهديد والوعيد جاءت بنتائج عكسية عليه. بالتالي أصبح مضطرا أن يظهر الفترة المقبلة انحناءة خارجية كي لا يضطر لينحني داخليا وتجتاحه العواصف التركية.