تماثيل الإسكندرية

المثَّال الإيطالي بييترو كانونيكا نحت تمثال الخديو إسماعيل وأزاح الملك فاروق الستار عنه في مكانه الأصلي بميدان المنشية.
تمثال نوبار باشا وهو جالس على كرسيه في حدائق الشلالات، كنا نجلس على ركبتيه، ونصفعه على وجهه وعلى قفاه ساخرين
كنت أسعد لمشاهدة ميدان المنشية في أفلام توجو مزراحي، عندما يتقابل علي الكسار مع بعض الرجال قريبا من تمثال محمد علي باشا
رفعوا تمثال الخديو إسماعيل ونوبار باشا وأودعوهما في متحف الفنون الجميلة بشارع منشا

تمثال الخديو إسماعيل ونوبار باشا    
كُبر سني يسمح لي بتذكر التماثيل المشهورة في الإسكندرية، فقد عاصرت تمثال الخديو إسماعيل بميدان المنشية، وهو يقف في شموخ قريبا من المارة الذين يسيرون حوله، وأسعد – الآن – عندما أرى هذا التمثال في الأفلام المصرية القديمة، ففي فيلم لحسين صدقي يسير أمام هذا التمثال في طريقة لسراي الحقانية، فأصيح سعيدا من شدة الوجد. وأتمنى أن يتوقف المشهد للحظات لأتأمل تفاصيل التمثال وقاعدته البيضاء الجميلة. 
نحت التمثال المثَّال الإيطالي بييترو كانونيكا، وأزاح الستار عنه الملك فاروق في 4 ديسمبر/كانون الأول 1938 في مكانه الأصلي بميدان المنشية.
وأذكر تمثال نوبار باشا وهو جالس على كرسيه في حدائق الشلالات، وكنا – في طفولتنا - نجلس على ركبتيه، ونصفعه على وجهه وعلى قفاه ساخرين. 
وازدادت حدة العداء للملكية السابقة بعد قيام ثورة يوليو 52، فكانوا "يخربشون" صورة الملك السابق التي عادة ما تظهر في الأفلام المصرية القديمة، خاصة فوق منصة القضاء في المحاكم، وحذفوا في الأفلام أي تحية أو مدح لملوك مصر السابقين.  

دارت الأيام وهدأت حدة العداء للملكية،
تمثال نوبار باشا

واقترح البعض إزالة تماثيل رموز العصر الملكي السابق، وبالفعل رفعوا تمثال الخديو إسماعيل ونوبار باشا وأودعوهما في متحف الفنون الجميلة بشارع منشا، وكنت أنظر من نافذة مكتبة البلدية فأجدهما ملقين على وجهيهما في إهمال شديد. وفكروا في رفع تمثال محمد علي باشا أيضا، لكن البعض ذكرهم بأنه باني مصر الحديثة، فاكتفوا بتغطية التمثال بقطعة قماش بالية وقت احتفال الإسكندرية بالثورة يوم 26 يوليو (العيد القومي للإسكندرية – يوم جلاء الملك فاروق عن مصر)، وأرسل صديق لي بفكرة بأن يتم صهر هذه التماثيل وتحويلها لنقود معدنية، واستجابوا لفكرته، لكن مصلحة صك النقود ردت بأن المعدن المصنوع منه التماثيل لا يصلح لصناعة النقود. 
ودارت الأيام وهدأت حدة العداء للملكية، وطالب الكثير برد الاعتبار للخديو إسماعيل، فقد أكمل ما بدأه – جده محمد علي – في بناء مصر الحديثة. كما أن نوبار كان رئيسا للوزراء لعدة مرات، وشارك حكام أسرة محمد علي في بناء مصر.
لكن المكانين السابقين للتمثالين صعب استردادهما، فالقاعدة التي كانت أمام تمثال إسماعيل، شغلها الآن الجندي المجهول التابع للقوات البحرية، علما بأن التمثال والقاعدة كانا هدية من الجالية الإيطالية بالإسكندرية تقديرًا لاستضافة مصر للملك فيكتور عمانويل الثالث آخر ملوك إيطاليا بعد عزله عن عرشه والاطاحة به.
وقاعدة تمثال نوبار باشا وضعوا فوقها تمثال كاتمة الأسرار لمحمود مختار.  

من تماثيل الإسكندرية
تمثال كاتمة الأسرار لمحمود مختار

وحدثت محاولات عديدة لرد الاعتبار للتمثالين وعرضهما للجمهور، ففكر فاروق حسني - وزير الثقافة وقتذاك - في شراء أرض كوتة في الشاطبي ووضع التمثالين فيهما، لكن هذا لم يتم، ووجدوا أخيرا مكانا للخديو إسماعيل أمام المسرح الروماني، ونقل تمثال نوبار باشا بمقعده في مدخل سينما رويال ومسرح سيد درويش الذي تحول لأوبرا الإسكندرية.  
تمثال محمد علي باشا
وكنت أسعد لمشاهدة ميدان المنشية الذي كان يسمى – قبل قيام ثورة يوليو 52، ميدان القناصل، خاصة في أفلام اليهودي  السكندري توجو مزراحي، عندما يتقابل علي الكسار مع بعض الرجال قريبا من تمثال محمد علي باشا.
فكر الخديو إسماعيل في إقامة تمثال لجده محمد علي، في عام 1865، وبلغت تكلفته حوالى ٢٠٠ ألف فرانك تم دفعها إلى صانع التمثال المسيو ألفريد جاكمار- أحد أشهر المثّالين الفرنسيين فى القرن التاسع عشر - والذى تلقى تعليمه فى مدرسة الفنون الجميلة فى باريس وأخذت شهرته فى الازدياد حتى أصبح عضوا فى مجلس العلوم فى باريس، ويرجع إليه الفضل فى إقامة عدد من التماثيل فى مصر، منها تمثال لاظوغلى القائم الآن فى ميدان لاظوغلى بالقاهرة، فضلا عن تماثيل الأسود الأربعة القائمة على كوبري قصر النيل.

وفى ١٧ مايو/آيار ١٨٦٩ تم تخصيص ٨ آلاف جنيه للبدء فى تنفيذه وانتهى جاكمار من التمثال فى ١٨٧٢، وعرض لمدة شهر في شارع الشانزليزيه، وفى ١٩ ديسمبر/كانون الأول ١٨٧٢ كان الاحتفال الرسمى بإقامته وسط ميدان محمد علي الذي كان يتجلى فيه كفارس مهيب يمتطى صهوة جواده، وكأن النصر بات طوع بنانه وبدا واثقا من قوته، أما الفرس فقد مثله جاكمار يخطو فى ثقة وزهو، رافعا قدمه اليمنى عن الأرض، كما نجح الفنان فى تمثيل شعر ورأس الفرس وذيله بواقعية شديدة، فيما صمّم المعمارى امبرواز بودري قاعدة التمثال وعلى جانبيها كتفان صغيرتان من الرخام بينهما وحدة زخرفيه من المعدن على هيئة هلال ونجمة.
وقد كانت قاعدة التمثال دائرية وحولها الأسود الأربعة كأنها تحمي الفارس المعلق في أعلاه. فيضطر المارة والمركبات للطواف حوله، فاعترض أحد مشايخ حي بحري وأثار الناس، فأمر الخديو إسماعيل بجعل قاعدة التمثال على شكل مستطيل وبنقل الأسود الأربعة إلى القاهرة وهم يقفون الآن أمام وخلف كوبري قصر النيل. 
الصراع بين تمثالي سعد زغلول والملك فؤاد

يحيا سعد .. يحيا سعد
تمثال سعد زغلول لمحمود مختار

العداء بين الملك فؤاد، وحزب الوفد عداء قديم وصعب. فسعد زغلول كان يمثل لأحمد فؤاد – الملك – مشكلة وأزمة حادة، ويقال إن الملك فؤاد اشترك في مؤامرة قذرة أدت لقتل السير لي ستاك – سردار الجيش الإنجليزي – وقت حكم سعد زغلول لمصر، لكي يتخلص من سعد ومن حزب الوفد، وبالفعل ما أن قُتل السير لي ستاك، وأرسلت بريطانيا تهديدها لمصر حتى استقال سعد وارتاح الملك فؤاد لبعض الوقت، لكن الشعب لم يدعه يرتاح، فظل يردد في كل وقت وبدون مناسبة "يحيا سعد، يحيا سعد" ومات سعد زغلول عام 1927، وتنفس الملك الصعداء، لكن الشعب المتعب لم يدعه يرتاح، وطالب بإقامة تمثال لسعد، وأسسوا لجنة لتلقي التبرعات، وكان المبلغ كبيرا، فاتفقت اللجنة مع المثَّال محمود مختار بإقامة تمثالين لسعد أحدهما في القاهرة والآخر في الإسكندرية، لكن حقد أحمد فؤاد من سعد جعله يعارض في إقامة التمثالين في ميادين القاهرة والإسكندرية، وظل هذا الوضع حتى مات الملك، ووافق ابنه فاروق على إقامة تمثال سعد في محطة الرمل في الإسكندرية. وتم الاحتفال بإقامته في 27 أغسطس/آب 1938. 
وقرر الملك فاروق أن يقيم تمثالين لوالده في بور فؤاد التي تحمل اسمه وفي الإسكندرية، وفي نوفمبر/تشرين الأول 1951 أعلنت الصحف المصرية عن زيارة الملك فاروق لمدينة بور فؤاد على اليخت الملكي "فخر البحار" احتفالاً باليوبيل الفضي لنشأة المدينة، وليزيح الستار عن تمثال والده – الملك فؤاد الأول – الذي اعتلى قاعدته في واجهة المدينة انتظاراً لحضور نجله، وتكفلت شركة – قناة السويس – تحت إدارتها الفرنسية - بسبك التمثال وتنصيبه، ولم تتم زيارة الملك حينها بسبب معارك القناة الدائرة بين الفدائيين المصريين والقوات البريطانية المرابطة هناك، إلى أن حدث حريق القاهرة الشهير في يناير/كانون الثاني عام 1952، وتأزّمت الحياة السياسية واندلعت ثورة يوليو/تموز التي قرر ضباطها الأحرار رفع التمثال عن قاعدته وإلقائه مهملاً في ظلام أحد مخازن هيئة قناة السويس باعتباره أحد رموز العهد الملكي البائد.

طالب الكثير برد الاعتبار للخديو إسماعيل،
تمثال الخديو إسماعيل

ومنذ طفولتي وأنا مرتبط بقاعدة تمثال لمحطة مصر القريبة من بيتي والتي كنت أمر عليها في طريقي للمدرسة الإعدادية ثم الثانوية. وظللنا لسنوات طويلة نقضي أيام العيد في حدائق محطة مصر، حول قاعدة التمثال الذي لم نره طوال حياتنا. 
فقد كلف الملك فاروق المثال فتحي محمود بإقامة التمثال وكلف مصطفى نجيب بعمل قاعدته، وسوف يقام التمثال في احتفال رسمي وكبير عام 1952، لكن قيام ثورة يوليو 52، أجهضت حلم الملك فاروق، وظلت القاعدة الشامخة والجميلة دون تمثال.
وبعد موت جمال عبدالناصر المفاجئ، أعلنوا أنهم سيضعون فوق هذه القاعدة تمثال لعبدالناصر، لكن من جاءوا بعده، كانوا يكرهونه، فلم يفعلوا هذا. وظلت القاعدة عارية. 
ثم أسندت الدولة إلى الفنان أحمد عثمان – عميد كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية في ذلك الوقت - في بداية عام 1967 إعادة تجميل ميدان محطة مصر واستغلال القاعدة الرصينة الجميلة الموجودة حاليا، فوضع الفنان أحمد عثمان على القاعدة نسرا وشعلة نار أضاءت في منتصف عام النكسة 67، وسرعان ما أُطفئت لإجراءات الأمان، وسمي الميدان فيما بعد بميدان الشهداء، وفي المناسبات القومية يقام احتفال عسكري للجندي المجهول في الحديقة.