تونس على سرير الإنعاش بلا أكسجين!

فيما تصب الحكومة تركيزها على مفاوضات مع صندق النقد للحصول على قرض جديد ينقذ اقتصادا محتضرا، السلطات الصحية تخوض سباقا للتزود بالأكسجين الطبي مع هبوط مخزونه لمستويات غير مسبوقة فيما يكابد تونسيون لم تستوعبهم المستشفيات للحصول على آلات طبية تمدهم بجرعة هواء أيا كانت التكاليف.

تونس – يعتصم التونسيون بالتهكم مع كل ضائقة تصيبهم، وعلى مر سنوات حكم نظام بن علي والحكومات التي تعاقبت على البلد بعده ومع كل ضريبة جديدة تقرها السلطات تصدح العبارة الشهيرة "لا ينقص الا ان ندفع لنتنفس"، لكن لا أحد منهم، تخيل يوما في أسوأ كوابيسه ان تحول الجائحة والأزمة الاقتصادية الخانقة هذه السخرية السوداء الى واقع معاش.

وفيما تصب السلطات تركيزها على التفاوض مع صندق النقد الدولي للحصول على قرض جديد ينقذ اقتصادا محتضرا، تبدو البلاد حرفيا على سرير الانعاش وسط حالة طوارئ صحية الغائب الأبرز فيها هو الأكسجين.

ومع استفحال انتشار فيروس كورونا المستجد في البلاد نتيجة تساهل حكومي في تطبيق اجراءات الحجر الصحي والاغلاق من جهة واستهتار شريحة واسعة من التونسيين بالمرض، تواجه البلاد نقصا حادا في "غاز الحياة" يضاعف معاناتها مع نقص حاد في المعدات الطبية وسط معدلات وفيات هي الأعلى في القارة الأفريقية.

ويؤكد مختصون ان حاجة المؤسسات الاستشفائية العمومية إلى الاكسجين تضاعفت 6 مرات مقارنة بالوضع الطبيعي.

والأكسجين، غاز متوفر في الهواء الطبيعي، يعد أحد مقومات الرعاية الصحية في المستشفيات.

ويوصف هذا العلاج للأشخاص الذين لا يستطيعون الحصول على كمية كافية من الأكسجين بمفردهم، ويحدث هذا غالبا بسبب أمراض الرئة التي تمنع الرئتين من امتصاص الأكسجين، مثل مرضى الانسداد الرئوي المزمن، والالتهاب الرئوي، والربو، والحالات الشديدة من مرض فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19".

كما يستخدم لاستعادة تركيز الأكسجين في الأنسجة في حالات مثل توقف التنفس، والسكتة القلبية، والصدمة، والتسمم بأول أكسيد الكربون، والنزيف الشديد، وفي التخدير.

ونقصه أو انقطاعه في مراكز الرعاية من الممكن ان يتسبب في وفيات، وهو تحديدا ما حصل في مستشفى حكومي أردني  ما اضطر وزير الصحة استقالته من منصبه على خلفية هذه الحادثة.

ويجثم هذا السيناريو أمام أعين الطواقم الطبية في تونس باستمرار، مع ابلاغ كوادر طبية عن حالات نقص شديد للاكسجين في الأيام الأخيرة واطلاق أخرين نداءات استغاثة بعد نفاد مزعوم لمخزون هذا الغاز الثمين.

وينقل أطباء باستمرار على شبكات التواصل الاجتماعي شهادات مرعبة، عن اضطرارهم لاختيار المرضى الذين سيخضعون للعلاج وسط نقص فادح في المعدات، لكن الايام الاخير حملت معها شكلا جديدا من هذا العوز مع ابلاغ بعضهم عن تدهور الوضع للحد الذي صار فيه منح جرعات اكسجين للمرضى خاضعا لمقاييس الأولوية لا حاجة المريض الحقيقية.

وتواجه السلطات عادة هذا الوضع مرة بالتكذيب واخرى بالتهوين، مؤكدة في كل مرة سيطرتها على الوضع وهو ما يشكك فيه كثيرون خاصة مع تآكل رصيد الثقة في الطبقة السياسية والحكام.

لكن بعض المسؤولين خرجوا مؤخرا عن صمتهم، اذ حذر مسؤول صحي رفيع المستوى الجمعة من من كارثة صحية اذا لم تتمكن تونس من توريد الاكسجين من الخارج و ذلك امام قرب نفاد الكميات المتوفرة من الانتاج الوطني.

وأشار المسؤول الى الوضعية الصعبة التي تعيشها المستشفيات التونسية بسبب الضغط على اقسام الكوفيد وارتفاع الطلب على والاستهلاك على الاكسجين مؤكدا بلوغ انتاج المزودين الخواص للمستشفيات بالأوكسجين  طاقته القياسية "لم يعد بامكانهم الاستمرار في التزويد".

ولم تتأخر نبوءة المسؤول في التحقق، اذ تفادى بالكاد مستشفى بجهة صفاقس (جنوبي العاصمة) الخميس الماضي كارثة محققة على خلفية نقص حاد في "غاز الحياة" اضطره الى نقل عدد من المرضى في ساعات متأخرة من الليل الى مراكز صحية اخرى قريبة.

ولمواجهة الوضع، التفتت السلطات الى جارتها الجزائر، اذ استلمت البلاد في الساعات الأولى من الجمعة ثلاث شحنات أكسجين قادمة من الجزائر، في دفعة تلتها دفعات أخرى.

وقبل اسبوعين اعترف وزير الصحة فوزي مهدي في جلسة علنية أمام مجلس نواب الشعب، ان الجزائر انقذت تونس من أزمتها، لكن يبدو ان هذا المدد امام فداحة الوضع لم يكن كافيا.

وصباح الخميس حطّت بقاعدة عسكرية في العاصمة طائرة عسكرية مصرية محمّلة بمعدات ومستلزمات طبية بينها حمولة أكسيجين للمساعدة على دعم جهود مواجهة الجائحة، بمبادرة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. 

وعلق تونسيون على هذا الوضع بالتحسر على انقلاب حال البلاد من مد المساعدة لدول اخرى خلال الموجة الوبائية الاولى في 2020 الى ما طلب المساعدة يمينا وشمالا.

معركة أخرى للتنفس تخاض في المنازل

ومع عجز السلطات عن توفير العلاج لكل المرضى، يخوض مواطنون صراعا اخرا من اجل البقاء ومعركة أكسيجين أخرى خارج المستشفيات عزلا من اي دعم او مرافقة.

ويمتد استخدام الأكسجين الطبي خارج نطاق المستشفى، حيث يعتمد آلاف الأشخاص على تقنيات الأكسجين الطبي المحمولة عبر مُكثِّفات الأكسجين لاستعماله في البيت.

والجهاز البيتي يأخذ الأكسجين من الغرفة ويركزه للاستخدام العلاجي ويزيل الغازات الأخرى. وفوائد المكثفات هي أنها أقل تكلفة ولا تتطلب تعبئة مثل الخزانات.

اسطوانات اكسجين
سلعة مفقودة

وقدم استفحال الوباء جرعة اكسيجين لتجارة أجهزة الأكسجين التي كانت في السابق بضاعة شبه متروكة للتحول الى بضاعة مفقودة فضلا عن تضاعف اثمانها  أكثر من ثلاث مرات.

ولا ملاذ في معركة البحث المحموم عن جرعة هواء منزلية الا شبكات التواصل الاجتماعي، التي تحولت الى ما يشبه سوقا لا تخضع لغير قوانين العرض والطلب.

وتوفر صفحات مختصة على فيسبوك عروض تأجير وأرقام هواتف لأشخاص يملكون هذه الأجهزة بأسعار خيالية احيانا ودون اي ضمان لقدرتها الفعلية على الاستجابة لحاجات المتعطشين للتنفس.

ونقلت شهادات ارتفاع ثمن تأجير أجهزة التنفس للشهر الواحد من قرابة تسعين دولارا الى نحو 250 دولار، فيما ابلغ أخرون ان السعر يمكن ان يصل الى اكثر من 360 دولارأ في مناطق تعاني من اكتضاض المستشفيات وعجزها عن ايواء مرضى جدد.

وكانت وزارة الصحة التونسية دقت مؤخرا ناقوس الخطر مع بلوغ المستشفيات طاقة عملها القصوى وسط مخاوف من انهيار المنظومة الصحية خاصة مع هبوط حاد في معنويات الاطار الطبي ووصوله لحالة ارهاق نفسي وجسدي كبيرين.

والاربعاء أعلنت تونس تسجيل 106 وفيات جراء إصابتهم بفيروس كورونا و1448 إصابة إضافة إلى تعافي 2957 مصابا.
وأوضحت الوزارة في بيان أن إجمالي الإصابات ارتفع إلى 315 ألفا و600، منها 11 ألفا و122 وفاة، و269 ألفا و653 حالة تعاف.