تيم لوماس يلاحق ظلال 'السعادة' بأدوات العلم

عالم النفس المهتم بشكل خاص بمنظورات الرَّفاه المتعددة الثقافات يقدِّم نظرةً واسعة لمعنى السعادة مستكشفًا عددًا كبيرًا من مساحات التجرِبة مستعينًا بتخصُّصات عديدة تمتدُّ من الفلسفة وعلم الاجتماع إلى الاقتصاد والأنثروبولوجيا.

قليلة هي التجارب التي يقدِّرها الناس ويسعَون إليها اليوم سَعْيهم إلى السعادة. في الواقع، طالما كانت تلك الحالة المحمودة بشتَّى أشكالها ونظائرها شاغلًا رئيسيًّا للبشر على مدار التاريخ المُدوَّن. لكن قليلة هي الظواهر التي تماثلها في استعصائها على الفهم أو إبهامها. وإننا نرى الاحتفاء بوعد السعادة ودراستها في شتَّى مجالات السعي البشري، من الدراسات الأكاديمية للدعاية. ولكنها ما زالت مفهومًا مستغلقًا مختلفًا عليه، لا يوجد إجماع كبير حول ماهيَّتها أو السبيل للعثور عليها. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن تصوُّرها دائمًا ما يكون من خلال مفاهيمَ تُعادلها في الغموض والخلاف، مثل الرفاه. من ثَم فإنني لا أستطيع أن أكون بالِغ الدقة في تعريف السعادة هنا في البداية، بما أن الكتاب بأكمله مُكرَّس لاستكشاف ظلالها المختلفة.

انطلاقا من هذه الرؤية يأتي كتاب "السعادة" لعالم النفس تيم لوماس المهتم بشكل خاص بمنظورات الرَّفاه المتعددة الثقافات، والباحث في بَرنامج "الازدهار الإنساني" التابع لجامعة "هارفارد"، ومؤلِّف كتاب "ترجمة السعادة: معجم متعدِّد الثقافات لمصطلحات الرَّفاه". حيث يُقدِّم نظرةً واسعة لمعنى السعادة، مستكشفًا عددًا كبيرًا من مساحات التجرِبة، مستعينًا بتخصُّصات عديدة تمتدُّ من الفلسفة وعلم الاجتماع إلى الاقتصاد والأنثروبولوجيا.

لوماس في كتابه الذي ترجمته ترجمة دينا عادل غراب وراجعته سارة ياقوت، والصادر بموجب اتفاق قانوني بين مؤسسة هنداوي ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يتتبَّع الأفكارَ المتعلِّقة بالسعادة، بدايةً من المفاهيم البوذية مثل "النيرفانا"، ومرورًا ﺑأرسطو الذي ميَّز بين سعادة المتعة واليودايمونيا، وانتهاءً بالمنهجيات العلاجية والعلمية المعاصِرة، ثم يستعرض تقسيمَه الخاص للأشكال المختلفة للسعادة وتصنيفاتها، وتعريفَه لكلٍّ منها، ويناقش المنظورات الأكاديمية الحالية، مُستعرِضًا الأبحاث المتصلة بالسعادة في مختلِف التخصُّصات، ويبحث آليات السعادة؛ العمليات الفسيولوجية والنفسية والظواهرية والثقافية الاجتماعية التي تُشكِّلها، ويستكشف العواملَ التي تؤثِّر فيها على مستوى الفرد والمجتمع، ويناقش سُبل تيسيرها وتنميتها.

ويلفت لوماسان ان  كتابه يعُدُّ كتاب سعادة المتعة مقتصِرة على الجانب الوجداني فقط من الرفاه الذاتي. وغالبًا ما يشتمل هذا الجانب على تقييم المشاعر الحالية أو المُختبرة حديثًا من منظور الوجدان الإيجابي مقابل الوجدان السلبي. يمكن تصنيف المشاعر عامةً ـ باستثناء ما يُسمَّى العواطف المختلطة ـ بصفتها ذات مستوى تكافؤ مستحب (وجدان إيجابي) أو غير مستحب (وجدان سلبي)، مثل الفرح أو الحزن، على التوالي. ومن ثَم فإن الأدوات على غرار مقياس الوجدان الإيجابي والسلبي تسأل عن مقدار إحساس الناس بتلك المشاعر على مدار فترة مُعيَّنة، حيث تعطي النسبة الناتجة تقييمًا للجانب الوجداني من الرفاه الذاتي. هكذا يمكن اعتبار سعادة المتعة تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بالعواطف الحالية للمرء، مع تركيز خاص على الوجدان الإيجابي العالي الاستثارة الانفعالية.

ويرى أن التوازن والانسجام لهما أهمية في كل نواحي الحياة وأشكال السعادة بالطبع. من ناحية العواطف، مثلًا، نجد مفاهيم مثل الرصانة العاطفية والاتزان العاطفي والتعقيد العاطفي والتنوع العاطفي. يتصل أول اثنين بالتوازن أكثر كما أنهما وثيقا الصلة بسعادة الرضا؛ إذ يصفان الموازنة بين الانفعالية الإيجابية والسلبية. أمَّا الاثنان الأخيران فيتعلقان في المقابل بالانسجام على نطاق واسع من المشاعر المتمايزة، بما في ذلك المشاعر السلبية؛ ومن ثَم فهما ذوا صلة بسعادة النضج والحياة الثرية نفسيًّا. إلا أن التوازن والانسجام ليسا متعلقين بالعواطف فحسب. لنستعرض الشخصية مثلًا، حيث يزعم مبدأ المتوسط الذهبي لدى أرسطو أن الفضيلة نجدها في التوازن الأمثل بين الضدين (مثل التحلي بالشجاعة باعتبارها تجنُّبًا للجبن والتهوُّر)، وهو الشيء المتصل باليودايمونيا، أو التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، الذي يعكس توزيع الوقت والموارد على عناصر الحياة المختلفة بحكمة، وقد يكون أصيلًا في أشكال من السعادة مثل سعادة المغزى والسعادة التقديرية. أو في الناحية الاجتماعية، حيث تنطوي جودة التفاعلات بيننا وبين والآخرين على التوازن بين حاجات كلٍّ منَّا، وهو الشيء المهم في سعادة العلاقات. ومن هذا المنظور، يستتبع الرفاه العديد من تلك الموازنات، التي يكون الشكل الإجمالي الأمثل لها هو الانسجام. من ثَم، فإن سعادة الانسجام هي تجربة ذهنية حسنة مُستحَبة فيما يتعلق بجودة اتساق عناصر حياة الفرد وتآلُفها. علاوةً على ذلك، رغم أنه من الممكن اعتبار هذه المبادئ شكلًا مستقلًّا من السعادة، فهي تنطبق أيضًا على الأشكال الأخرى عمومًا، كما أشرت سابقًا. من ثَم فإنه من الوارد أن يكون أكمل شكل من السعادة بمعناها الأتم الأعمق متمثلًا في تحقيق الانسجام بين أشكالها كلها.

ويذكر لوماس أن هناك فرقا دقيقا بين سعادة العلاقات والرفاه الاجتماعي. ويقول "الثاني يتعلق بجودة علاقات الناس ومجتمعاتهم، دالًّا على اتساعها وعمقها ورسوخها وما إلى ذلك. أمَّا سعادة العلاقات فهي في المقابل تجربة مشتركة، وهو الشيء المختلف نوعًا ما. ولكونها مشتركة، فهي مختلفة أيضًا عن الشعور بأشكال أخرى من السعادة الناتجة عن علاقة ما. من ثَم فإنه يجوز اعتبار سعادة العلاقات تجربة ذهنية مشتركة حسنة مُستحَبة ناشئة عن دينامية علاقة ما. وتفيد الأبحاث القليلة عن سعادة العلاقات بأنها محل اهتمام في الثقافات التي تُعَد أكثر نزوعًا لروح الجماعة (في الشرق مثلًا)، بينما لا توليها الثقافات التي تُعَد الأكثر ميلًا للفردية عناية بالقدر نفسه (في الغرب مثلًا). ولمَّا كان الأمر كذلك، فقد تجاهلتها بدرجة كبيرة الدراساتُ الأكاديمية المعاصرة نظرًا لتمحورها حول الغرب. إلا أننا قد نجد ـ كما الحال مع الأشكال المهملة الأخرى ـ أن هذا النوع يقدره الناس ويشعرون به عالَميًّا أكثر مما نظن.

ويوضح أن العلاقة بين الذهن والجسد علاقة معقَّدة وموضع خلاف. بالنسبة للتفرقة بين الذهن والجسد، فالمنهج العلمي السائد حاليًّا هو نموذج الارتباطات العصبية للوعي، الذي يرصد أنساق الارتباط بين الذهن (الحالات الذاتية) والجسد (الحالات الفسيولوجية). إلا أن العلاقة بينهما لا تزال غير مفهومة جيدًا، ولا تزال مُبهَمة تمامًا بصفة أساسية. فهذا النموذج على سبيل المثال لا يثبت السببية، أو لم يستطِع إثباتها بعدُ. فحالات الدماغ ليست بالضرورة هي المتسببة في التجربة الذاتية في حدِّ ذاتها. والكيفيات المحسوسة قد تعتمد في وجودها على ـ أو تتبع بالاصطلاح الفلسفي ـ الحالات الدماغية. إلا أنه من الأفضل اعتبار الدماغ البنية أو الآلية الفسيولوجية التي يتمثل بها الذهن، لا المسبب له. فعلى سبيل المثال، وُجد ارتباط بين الحالة المزاجية المتفائلة والنواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين. إلا أنَّ سببها المباشر قد يكون عناقًا من شخص نُحبه، فتكون الاستجابة له فسيولوجيًّا في الدماغ بنشاط النواقل العصبية وظواهريًّا في الذهن بشعور سار. بذلك المعنى، يجوز أن يكون الذهن والجسد ـ الوجود الذاتي والموضوعي ـ وجهين لعملة واحدة: فالذهن هو تجربة الجسد أو الدماغ الداخلية، والجسد أو الدماغ هو الذهن عند ملاحظته "خارجيًّا".

ويؤكد لوماس أن الديناميات الثقافية بين الذاتية (مثل اللغة) تتأثر بعوامل مجتمعية بين موضوعية. فعلى سبيل المثال، زعم العالم السياسي، رونالد إنجلهارت، أن قيم أي ثقافة تتشكل حسب درجة أمنها الوجودي. كلما زاد الإحساس بالتهديد والخطر ـ من الفقر والتعرُّض للمرض إلى خطر الغزو وعدم الاستقرار على الصعيد الجغرافي السياسي ـ كان الناس أكثر استعدادًا على ما يبدو لتبنِّي تقاليد محافظة، والتضامن العصبي الشديد، ورهاب الأجانب، والحكم الاستبدادي. وعلى النقيض، كلما زاد أمنهم بدا الناس أكثر استعدادًا لتبنِّي مُثُل أكثر تحرُّرًا وانفتاحًا وتقدمية. وهذه إنما هي نظرية واحدة ضمن العديد من النظريات المتعلقة بالتطور والتغيير الثقافي، إلا أن تلك النماذج عمومًا تدَّعي أن الثقافة تتشكل ولو جزئيًّا بعوامل مجتمعية مثل السياسة والاقتصاد.

ويشير إلى إن تأثير الثقافة على السعادة تأثير عميق ومُعقَّد؛ إذ يتقاطع فيه عدد لا يُحصى من التيارات، ولا يكاد المجال هنا يتسع حتى لتناولها تناولًا سطحيًّا. وهكذا فإنه لإلقاء الضوء على أهمية الثقافة، سأذكر المنتج الثقافي الذي يتعلق به القَدْر الأكبر من النتائج التي يمكن الاعتداد بها فيما يخص السعادة والرفاه بصورة أعم، ربما من بين جميع الظواهر المماثلة: الدين والروحانية. فإن القَدْر الهائل من الأبحاث التي أُجريت في هذا الموضوع ـ الذي يُعرَف غالبًا باسم "العلاقة بين الدين والصحة" ـ تشتمل على خيوط متشابكة، تغطِّي أبعادًا متعددة من الحياة.

ويوضح لوماس أنه على المستوى النفسي، يقترن الدين والروحانية بالعديد من السمات المفيدة. منها الكرم على سبيل المثال ـ الذي سلَّط عليه الضوءَ تقريرُ السعادة العالَمي باعتباره مهمًّا في حد ذاته ـ حيث غالبًا ما تحض الموروثات على العطاء، الذي ينمي السعادة ليس لدى المتلقي فقط ولكن لدى المانح أيضًا..كذلك فإن الدين والروحانية مفيدان بدرجة كبيرة في خَلْق المعنى؛ إذ يوفِّران الوضوح (بتقديم فهم للوجود) والأهمية (بإضفاء غاية على حياة الفرد. وتقود أُطُر المعنى هذه بدورها إلى نتائج إيجابية أخرى، منها الوقاية من الصدمات والمساعدة على تخفيف المخاوف الوجودية إزاء الفناء من خلال المعتقدات المتعلقة بالخلاص، كالإيمان بالحياة الآخرة وبوجود خطة أكبر للوجود. كذلك يبعث الدين والروحانية على السعادة بطُرُق أخرى. فإنهما من الناحية الجسدية يعزِّزان سلوكيات ونتائج صحية ـ من خلال أوامر ونواهٍ أخلاقية، مثل حظر الكحوليات ـ وهو ما يؤثِّر على السعادة. وإذا تجاوَزْنا هذه العوامل الفردية، فسنجد أن الدين والروحانية محفزات فعَّالة للجوانب الاجتماعية للرفاه. فالمشاركة الدينية عادةً ما تكون عملًا جماعيًّا، على الصعيد بين الذاتي (مثال: بمشاركة المعتقدات مع الرفاق متبعي المذهب) وعلى الصعيد بين الموضوعي (مثال: بارتياد أماكن عبادة مشتركة). وهكذا توفِّر الأديان دعمًا ثقافيًّا وهيكليًّا بالِغ الفاعلية، مشجِّعةً على استثمارات "طويلة الأجل للوقت والطاقة والعلاقات المتبادلة، داخل سياقات تحكمها قواعد الثقة والتبادل والالتزام المشترك". كما هو الحال مع كل الديناميات الثقافية ـ وعوامل السعادة عامةً ـ ثمَّة تباينات دقيقة بالطبع، فالدين والروحانية ليسا مفيدَين بالضرورة أو في جميع الحالات. فمن الممكن أن تكون بعض منظماتهما غير مرحبة بفئات مُعيَّنة من الناس، مثل أصحاب الميول الجنسية المخالفة، وهو ما قد يبعث على قَدْر كبير من الكرب. أو قد يَحدُث تنازعٌ بين الديناميات الشخصية والمجتمعية؛ فمن الجائز أن ينتمي الشخص إلى مجتمع أو بلد متديِّن، لكنه شخصيًّا لا ينزع إلى التديُّن أو الروحانية، أو العكس. وتلك الحالات قد تؤدِّي إلى عزلة أو اغتراب ثقافي، وهو ما قد يحول دون السعادة. إلا أن الدين والروحانية، في العموم، غالبًا ما يساعدان على تحفيز السعادة، شأن العديد من الديناميات الثقافية الأخرى. بالإضافة إلى ذلك فإننا حين نفهم هذه العمليات المؤثِّرة على نحو أفضل، سنستطيع السعي إلى تنمية السعادة بفعالية أكبر.