'ثعلب ثعلب' تجربة جديدة على الساحة الإبداعية

أحمد فضل شبلول ينجح من خلال روايته في توصيل رسالته التثقفية إلى جانب رسالته الفنية مع مرونة التصوير وبراعة التخيل.

وأفتح قوسين وأسطر "ثعلب ثعلب" تلك الرواية المدهشة المختلفة في طريقة الكتابة والحكي واختيار المفردات والعناوين وحتى مفاتيح الفصول وعتبات النص.

نحن أمام كاتب في كل عمل يخرجه إلى النور يرتدى ثوبًا جديدًا.

يعمل على فكرته بطرافة.

نحن أمام سلطة يتنازع عليها أفراد مملكة البحار والماء.

تارة يأتي الثعلب، وتارة أخرى تخرج لنا ملكة البحور.

عالم تتصارع فيه الكائنات البحرية، ولكنها تحمل نفس ذات الطبع في الإنسان.

جاء الرمز، والتناص المدهش الموازي، ليضيف إلى الرواية نكهة مختلفة عن كل أعمال شبلول السابقة.

يلعب المكر والدهاء والخبث في مصير الأبطال. وتظهر الحقيقة العارية في صوت الضمير المتكلِّم السارد الواعي أسفا على ما يحدث حوله. وتأتي التحذيرات خافتة أحيانا وصريحة واضحة في هذا الإهداء إلى الأحفاد، احذروا لأن القادم ليس طيبًا.

دعوة لفتح آفاق التفكير نحو كتابة جديدة.. بعيدة كل البعد عن الرواية البوليسية للكاتبة الكبيرة أجاثا كريستي المسماه بالثعلب، وعن رواية محمد زفزاف في المغرب وروايته الاجتماعية ثعلب.

تأتي رواية أحمد فضل شبلول "ثعلب ثعلب": مزيج من الواقعية السحرية والخيال العلمي والتاريخي.. تضفيرة مهمة وأسلوب جديد غير معتاد في كتابة الرواية ذات ملامح الغرائبية السحرية في كثير من فصولها.

هناك ثعلب حقيقي: يجول ويصول ويحكم مجموعة من الحيوانات في المدينة.. بل ويكوِّن فرقًا لا تستطيع فرق الشرطة ولا قوات الأمن تفريقها، ويخلق روحا من الثورة السياسية مطالبا فيها المحافظ ومدير الأمن بتحقيق العدالة المنشودة في المجتمع.. وإنصاف الثعالب؟؟ ولكن هل هم ثعالب حقًّا؟ أم متحولين؟ .. أم بشر حقيقيون يلبسون أقنعة الثعالب؟ ولهم نفس الروائح الكريهة وغير المستحبة!!

تراهم وتتعاطف مع الثعلب البطلة هدى. تلمح طيفه وتشم رائحته كلما مرَّ وعبر في محيط حياتها.. ولا تتوانى عن الإفصاح عن مشاعرها وإعجابها به في بادئ الأمر.. الذي تحوَّل مع فصول الرواية وتقدم السرد إلى حالة من الأستنفار والاستنكار لكل تصرفاته وآلاعيبه ومكره.. حتى أزيل القناع واختفى وظهر على شكل بني آدم دميم المظهر.. له نزاعاته وأفكاره غير السوية.. ألم يكن في بادئ الأمر ثعلب!

ونتفاجئ ونحن في وسط الرواية بظهور حيوانات أخرى: نتعرف على فصيلتها ونشأتها في الجزيزة العربية وأنواعها.. ومميزتها: إنها الكلاب.. بل ونذهب إلى فرع أكاديمية الشرطة الخاص بترويض الكلاب البوليسية في سيدي شر بالإسكندرية، مرورا بحدائق المنتزه وحديقة الحيوانات بالنزهة.. وبئر مسعود وشاطئ ميامي بكل تفاصيل وخلفيات الأمكنة، فنتعرف على ملكة البحار.. وصراعها الدائم مع الثعلب.

لقد أتاح الرمز والتناص في هذا العمل مساحة كبيرة للتأويل السياسي والاجتماعي..

ولم يعد التناص هنا قاصرًا كما حدده "لسان العرب": أنه اتصال في النص ما بين الأحداث الحقيقية والخيال.. بل صار كما حددته "جوليا كرستيفا" أحد مميزات النص الأساسية والتي تميل إلى الإشارة إلى أحداث واقعية ونصوص بأكملها حدثت في الحياة المعاصرة.

ونعني هنا تداخل النصوص فيما بينها..

وأرسل مثل "سوليد" التناص في كل فصل ونص يتموضع بحيث صارت الكتابة الساحرة المدهشة أمامنا لتلك الرواية "ثعلب ثعلب" تجربة على الساحة الإبداعية جديدة.. تكثيف الأحداث المتخيلة والواقعية في مشهد واحد.. مثلما أشار "فوكو" عن فكرة التناص إنها محملة بكثير من الأحداث المتسلسة والمتتابعة ومن توزيع الوظائف والأدوار.

ونشأت فكرة الأزمة في عقدة النص: تجمِّل صراع الشر مع الخير.. الماضي مع الحاضر.. الحلم والواقع.. ما يحدث حقيقة في قصر المنتزه من حشد وتغيير ومواجهة واختفاء الحقيقة والكائنات البحرية والطيور مثل البجع الذي بدأ يقل عدده فى البحيرة الساكنة.

 والغريب في الأمر أن يجتمع الأنس مع الحيوان على مأدبة عشاء واحدة. تعايش مختلف مع حيوانات متوحشة وغير مستأنسة أو غير مألوفة مثل ملكة البحار.. وحضور ولادة الابن أو الابنة ذات الذيل.. تشبه عروسة البحر.. وخروجه إلى النور أنسيا كاملاً "ولكن بذيل سمكة".

لم يعد النص منغلقًا على فكرة الغرائبية السحرية.. بل صار منفتحًا على اتجاهات أخرى وصار مفهوم الحوارية أو الصوت المتعدد للأبطال يشبه الأسلوبية السيميائية.. أنت ترى المشهد وتتحرك مع أبطاله وتشم رائحتهم مع إفادة تاريخية أخرى للأماكن والشواطئ والبحار.. أنتَ تغوص في مدينة لها ملامحها الخاصة.. وأماكنها المتفردة ونذهب إلى الابعد.. هذه الإفادات العلمية الكثيرة التي تم إدراجها في الرواية لا تكاد تطرح سؤالاً بينك وبين نفسك حتى تجد الإجابة تأتيك تباعًا عبر الفصول والحكايات التي بلغت أكثر من 40 فصلاً صغيراً كل واحد له عنوانه الخاص الذي يشير إليه وأحيانا عبارة أو اسم أو حكمة أو آيات من الشعر القديم أو آية قرآنية أو شعار مرحلة ما:

1-الشم المرئي

2- عشاء الثعالب

3- على قلب حيوان واحد

4- ويخلق ما لا تعلمون

5- شاك إلى البحر اضطراب خواطري

6- لولا الوئام لهلك الأنام

7- بالروح بالدم.. نفديك يا ثعلوب

هذا التنوع الزاخر بكل فنون السخرية والطرفة.. والدهشة أيضا أعطى لهذه الرواية: ثقلاً إبداعيا مختلفا، وأقصد بهذا المعنى: أنه ميَّزها عن سائر أعمال الأديب والمبدع أحمد فضل شبلول (الشعرية والروائية).

 وأخيرا وليس آخرا: جاءت اللغة - وهي الجسر الحقيقي الذي عبَّرت به هذه الرواية عن كثير من الأفكار والمعلومات والأحداث، لتؤكد تمكن المبدع من تقديم روايته بلغة سهلة، والروائي الجيد هو الذي يعرف كيف يصنع اللفظة الصحيحة ويجعلها متداولة بسيطة ثم صياغتها بألفاظ متداولة في الكلام اليومي، وفي المكان الأنسب لها.. بل وأضاف جزءا غير معهود في روايته أسماه الحواشي.

ولا خلاف في أن سر الفاعلية في هذا التلقي هو أنا وأنت.. وهؤلاء القراء.. الذين سيجدون سحرًا في اللغة الفصيحة وعمق التراكم التراثي بها وسحر اللهجة العامية التي امتزجت أحيانًا ببعض الحوارات.

وبهذا يكون الروائي قد نجح في توصيل رسالته التثقفية إلى جانب رسالته الفنية مع مرونة التصوير وبراعة التخيل.