"ثلاثية أوزير" تسعة أعوام من القلق

سعد القرش: وهبتني الكتابة عائلة إنسانية كبيرة، وأجتهد لتضمن لي بنين وحفدة.
الكاتب لا يعيش بمعزل عن محيطه. ربما لا يبالي به فيمضي، أو يتأثر فيتوقف مؤقتا؛ لكي يعيد النظر ويبحث عن موضع لخطوته التالية
تظل الأعمال العظيمة تستفزني للتحدي، وتبث في نفسي الحنين، فلا أتخيل الحياة بلا كتابة
عوالم رحيبة تبدد وحشة العالم المحدود وزيفه

أوضح الكاتب المصري سعد القرش أنه في عام 1988 اشترى نسخة من كتاب "تاريخ ملكية الأراضي في مصر الحديثة 1805 ـ 195"، تأليف جابرييل باير وترجمة عطيات محمود جاد. كان في الثانية والعشرين، ولم يتوقع أن أمامه عاما واحدا فحسب تنتهي فيه كراهيته لجمال عبدالناصر. لم يكن مصدر تلك الكراهية خلوّ تراث أسرته مما يدعوه إلى محبته؛ فلم يستفد أبوه من الإصلاح الزراعي، لنفاد أراضي الخواجة والإقطاعيين في قريته قبل أن يصيب الحظ فلاحا آخر، سبق اسمه اسم أبيه في قائمة انتظار الموعودين بتملّك قطعة أرض. نشأت الكراهية في سن الثالثة عشرة، حين «اهتدى» إلى مجلة «الدعوة» لسان تنظيم الإخوان، وكانت هي «اليقين» مع هداياها من رسائل حسن البنا ووصاياه، ومن تفسيرات «تلمودية» لذلك «الرجل القرآني» كما وصفه أحدهم في كتاب بهذا العنوان الأخير.
وفي شهادته الأدبية بالجلسة التي ترأسها الكاتب السعودي يوسف المحيميد ضمن جلسات ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي قال القرش: في جامعة القاهرة فوجئت بأن لعبد الناصر ـ الذي تأكّد لي كفره ـ مريدين وأنصارا «ضالين» مثله، يقال لهم «الناصريون». أيام الجامعة، كنت ممزقا بين إيماني بكفر عبدالناصر، ونشر قصصي القصيرة في منابر يسارية: الصفحة الأخيرة في العدد الأسبوعي لصحيفة "الجمهورية" إشراف الشاعر محسن الخياط، ومجلات "أدب ونقد" فريدة النقاش ومحمد روميش، و"القاهرة" إبراهيم حمادة، و"إبداع" عبد القادر القط وسامي خشبة. وعبر قراءات ومجاهدات، أقرب إلى سحْب السموم من الدماء، أنقذني الخيال ونقّى قلبي الذي بدأ يسمح بمحبة رجل رسّخت مجلة "الدعوة" في نفسي أنه "رأس الجاهلية في القرن العشرين". 

أكتب فأرى، وأبلغ فضاء طليقا يهزم الزمن، وأتحايل على حياة واحدة لا تكفيني؛ فأصوغ حيوات، وأرتحل في التاريخ، التاريخ لا الماضي، أرتحل فيه لا إليه

تجربة خاصة جدا، أقرب إلى علاج بالخيال، وخلاص بالقراءة قبل الكتابة. ذهب بي كتاب "تاريخ ملكية الأراضي في مصر الحديثة" إلى طرف من هذا الخيال، إلى زمان يفصلني عنه نحو قرنين ونصف القرن، وهو زمن بدء أحداث روايتي "أول النهار". ولم أفكر قبل الشروع فيها، ولا بعد الانتهاء من كتابتها، أنها ستكون جزءا أول في "ثلاثية أوزير" التي تضم "أول النهار" 2005، و"ليل أوزير" 2008، و"وشم وحيد" 2011.
وأوضح سعد القرشي أنه قبل "أول النهار"، كان من الضروري أولا تخفيف أثقال النفس، وتخليص الرؤيا بافتكاكها من أسر الرؤية، وأولها تجربة بها شيء من القسوة والمرارة، مجندا عام 1990 في جيش لا يحارب، وكانت رواية "حديث الجنود" 1996، وقد حملت في رأي البعض نفَس القصة القصيرة. وجاءت رواية "باب السفينة" 2002 محاورة لأزمة وجودية، لشاب حلم في طفولته بأنه سيصير نبيا، ثم فاجأه الأذان، ذات فجر، بنداء "الصلاة والسلام عليك يا خاتم رسل الله"، فبدأت سلسلة خيبات أمله، إلى أن بلغ الأربعين، سنّ النبوة، وأغرقته أمواج البحار المتدفقة من خريطة على الجدار، حين مزّقها وهو محموم.
ويرى القرش أن الكاتب لا يعيش بمعزل عن محيطه. ربما لا يبالي به فيمضي، أو يتأثر فيتوقف مؤقتا؛ لكي يعيد النظر ويبحث عن موضع لخطوته التالية. ويقول: مبكرا أدركت أن الكتابة عاجزة عن تغيير العالم، وأنها لعبة جمالية يتواطأ فيها القارئ مع الكاتب، فيلتقيان في عوالم رحيبة تبدد وحشة العالم المحدود وزيفه. ولعل هذا الإدراك حررني من أوهام المقولات الكبرى، فلا أتعمد شيئا، لأنني لست موظفا عند الكتابة أو القارئ. 
وحين يستعيد الكاتب روايتيه "حديث الجنود"، و"باب السفينة" يفاجأ بلغة متقشفة، تضنّ بالكلمات. ويتساءل: هل كنت أقسو على نفسي باللجوء، لا شعوريا، إلى سرد أسدد به أول وآخر فاتورة مستحقة قبل الفرار إلى عالم يشبه طموحي، إلى "ثلاثية أوزير"؟ ويؤكد أن الروايتين كانتا تدريبا على الجملة، على اللياقة الفنية والبحث عن حلول بعيدا عن سأم الاعتياد، واختبارا لحوار الشكل والمضون، وتمرينا على اكتشاف أغوار النفس البشرية المعقدة. وقبل هذا وبعده، الاستمتاع الشخصي بألعاب السرد، والاشتباك مع أكاذيب الفن الأكثر صدقا من الصدق. وهو لا يحكم الآن على روايتيه «حديث الجنود» و«باب السفينة».
أما عن الأداة، فيستعير الكاتب قول أنسي الحاج "لغة فقيرة وحتى ناشفة، إذا كانت صادقة، أبلغ من ديباجات فطاحل «الإنشاء». وتُعرّي سماجة الفصاحة وافتعال «المؤثرات اللغوية».     
ويقول: مما تأثرت به آنذاك، ودعاني إلى التوقف طويلا، ردود فعل قراء ونقاد كسالى. وإذا كان القارئ الكسول لا يُلام، فأي عذر لناقد يستهويه التلصص، ويتحرّى وشائج تربط الكاتب بالراوي أو شخص ما في الرواية؟ يستسهلون ذلك أحيانا، إذا تصدّوا لدراسة عمل لكاتبة، فيحومون حول الخباء، وينتظرون هبوب ريح لعلها ترفع الثياب عن حنّاء كعب امرأة، ويستقطرون طيفا، ويستنطقون كلمة فيتفننون في تأويلها. وقد حاول البعض، وخصوصا في "باب السفينة"، المطابقة بين مؤلف في منتصف الثلاثينيات وبطل تجاوز الأربعين. عندها أشفقت على الكاتبات، ضحايا الغرض والكسل أو كليهما، واستعدت مشروعا مؤجلا حرّضني عليه كتاب "تاريخ ملكية الأراضي في مصر الحديثة"، واحتشدت له بأكثر مما يستعد باحث للدكتوراه، وكان فقر المصادر عن التاريخ الاجتماعي لمصر في القرن الثامن عشر مصدر قلق، وفي الوقت نفسه داعيا إلى حرية تحدّها، في بعض الأحيان، وفرة المراجع.
ويتذكر القرش في شهادته أن التخطيط كان مناقشة نشوء الاستبداد، والقدرة على إطالة عمره، والقابلية له، فلا أحد يولد شريرا وإنما يكونه؛ إذا فشل في اختبار الآدمية. واحتشد خياله بصورة رجل يتمتع بذكاء فطري يؤهله لإنشاء قرية من عدم، ثم تغريه السلطة المطلقة باختطاف القرية، وارتهان أهلها نصف قرن على الأقل. وقال: قدّرت أن يكون ذلك بداية من عام 1800 مثلا، في فراغ سبق صعود محمد علي. تأهبت متسلحا بالأدوات والمواد الخام، وارتأيت أن أبدأ بفصل تمهيدي يحفر في العمق بما يضمن ثبات البناء. وانتهيت من الفصل الأول، وانشغلت ببحث في السينما استغرق شهورا في مشاهدة أفلام وقراءة دراسات. ثم استعصت عليّ العودة إلى الكتابة، وكنت قد بدأت بحماسة، وتماهيت مع شخصيات "أول النهار"، وقد رأت أن تعاقبني بحرماني من العودة إليّ. وطوال أكثر من شهر تفرّغت لمصالحتهم، باقتراب بريء من غرض الكتابة، مجرد قارئ لما هو مكتوب، يبدي حسن النية لصحبة جديدة، ويقدّم ما يستطيع من عرابين المودة والطبطبة والهدهدة. ثم فوجئت بالاستجابة، وعلى مهل امتدت الأيدي، وفي خجل فُتحت الصدور، فاستعدتهم واستعادوني. 
ويوضح أن القارئ لا يشعر بأن ثمة توقفا جرى بعد الفصل الأول، إذ تمضي فصول ثلاثة تشكّل رواية "أول النهار" بإيقاع يخلو من النشاز، كأنها قصة قصيرة كتبت في جلسة واحدة، فلم تترك ملاحقة الأنفاس مجالا لمطبات أو فجوات. ويقول: في أشهر يكنت تكتب دوما من قبل وستكتب الآن. كل ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة. اكتب أصدق جملة تعرفها".
انتهى القرش من ثلاثة فصول هي البناء التحتي، القواعد غير المرئية، للبناء المخطط له. ثلاثة فصول انتهت به إلى نقطة كان قد نوى الانطلاق منها إلى ما يريد كتابته. ولكن طاقته نفدت تماما، ولم يعد قادرا على مواصلة الكتابة، وحدّث أصدقاء عن مشروع رواية، ثم طال الفصل التمهيدي قليلا وأصبح ثلاثة، ولم يصل إلى ما كان يريد كتابته، وأنه سيفتعل الكتابة إذا أجبر نفسه على المواصلة، ويميل إلى «تأليف» لا يضمن أن تُبعث فيه الروح. 

ويعترف: استهانوا بكلامي، وحثّوني على الاستمرار، وتساءل البعض: أي «رواية» يمثلها فصل تمهيدي وإن طال كثيرا وصار ثلاثة؟ كان منهم الروائي عاطف سليمان، وقد أعطيته العمل، فقرأه ووافقني على نشره كما هو، حتى لو لم أكتب «الرواية» المستهدفة. وبعد النشر، كتب مقالا عنوانه «آية النهار»، جاء فيه: «ثمة أعمال روائية (وغير روائية) يشعر ويدرك قرّاؤها أثناء القراءة الأولى أنها تعنيهم بما يفوقُ العادة، وأنهم سيعودون إليها، وهم يعودون إليها - ككنزٍ - مرة ومرة، ويتوارثونها، ذلك أنها مغذيّة روحيا ومُلهِمة دون أن يبدو أنها قد عنتْ أن تكون كذلك، وذلك أنها ذات مددٍ جمالي يتجدد - وكأنها تنمو - في كل قراءة جديدة، منها في اللغة العربية «الحرافيش» - نجيب محفوظ، و«فقهاءُ الظلام» - سليم بركات، و«أول النهار» - سعد القرش».
وينتبه القرش أثناء كتابة هذه الشهادة، إلى أن «أول النهار» حظيت بدراسات تزيد على حجمها: فيصل دراج، إبراهيم فتحي، جورج جحا، سمية عزام، محمد المهدي  بشرى، محمد عيد إبراهيم، بهيجة مصري إدلبي، حمزة قناوي، عذاب الركابي، عبدالرحيم مؤذن، حسين عيد، حسن حامد، عزة هيكل، وأن أغلب الذين كتبوا عنها من الروائيين: خيري عبدالجواد، عمّار علي حسن، محمد العشري، زهور كرّام، قاسم عليوة، وغيرهم.
وأضاف: من حسن حظي أن يتحمّس المخرج أحمد فوزي صالح للثلاثية، وأن تنتقل عدوى هذه الحماسة إلى كاتبة السيناريو مريم نعوم، فتشرع في تحويلها إلى دراما تلفزيونية من ثلاثة أجزاء.    
وقال: سرقتني «أول النهار»، واحتالت عليّ، وغافلتني بمساهاة لطيفة. وكما كُتبتْ بالمصادفة، فوجئت بأبطالها يسلكون طرقا ومسارات على غير ما خططتُ لهم، ويختارون نهايات تربك حركة السرد، وتهدد بنسف فكرة الرواية. فالفصل الأول ينتهي، على غير إرادتي، بموت البطل الشاب «مبروك» في ليلة زفافه، تاركا لوعة في قلب أبيه، ودهشة وألما في روح عروسه «هند». مات بين يدي، وأوقعني في حيرة، وهو الذي كان يفترض أن أكمل معه مسيرة ما بعد «أول النهار».
في «أول النهار» أغمضت عيني كأني لا أبصر، ومشيت بمحاذاة شخصياتها، أسبقهم بخطوة فيمدون أيديهم يلتمسون الطريق، أو أتمهل فيسبقونني بخطوة وأراقبهم، ثم أسرع لنمشي كتفا بكتف، وأستعير خطابهم ولغتهم ورؤيتهم للحياة والموت، فيبدو العمل من دون «مؤلّف». 
ويضيف: ما كنت أريده ـ وآمل أن أكون قد نجحت فيه ـ ألا يجد القارئ كلمة أو وعيا أو خطابا مفروضا على أي شخصية، وأن يتناغم السرد مع الدراما باختلاف ثقافات الناس وتباين طبائعهم، ذلك أنني صاحبتهم، وأجدْت الإنصات إليهم، فلم «أؤلف» عنهم شيئا، ولم أخترع شيئا من خارجهم، والتمست سردا تمثل فيه الكلمة لحما ودما، وتنبض بحرارة اللهفة، وتلفح أحيانا، على العكس من اللغة المعلّبة، نصف المجهزة التي يستعان بها على عجل. 
ويفضل القرش السرد الذي يحمل بصمات الأصابع، المغزول على مهل، عقدة عقدة وخيطا خيطا، وكلمة كلمة، فالكلمة كما يقول نيكوس كازانتزاكيس «لكي تلمسني، يجب أن تصبح لحما حارّا. وعندها فقط أفهم، عندها فقط أستطيع أن أشمّها وأراها وألمسها». (تقرير إلى جريكو).
في «أول النهار»، وفي الثلاثية عموما، تجنّب سعد القرش أي إشارة إلى التاريخ الرسمي، ولو موضوعية؛ فلا أكتب تاريخا، وما يشغلني ليس له مرجعية في التاريخ المدوّن، ومن يريد معرفة التاريخ فليقرأه في مصادره، وأولها تاريخ الجبرتي. ولم يكن الراوي في الثلاثية عليما بأي شيء خارج نطاق حركة شخصيات لا تتمتع بوعي عميق، ولم تنل حظا من تعليم أو أنصبة كبيرة من الثروة، ولا ترتبط بعلاقات مع السلطة وممثليها، وأمثال هؤلاء لا يعرفون بالطبع من يحكم البلاد، ولا يدركون طبيعة الصراع على السلطة في مصر المحروسة. ولم يحدد السرد في أي عصر يعيش هؤلاء، لولا إشارة وحيدة إلى وفاة محمد أبو الذهب في الشام، وندم الكاتب على ذلك بعد النشر، وإن كان له مسوّغ فني؛ فالاسم ذكر عرضا من دون تحديد الزمن (عام 1775)، على لسان أحد مملوكيْ شيخ في مدينة سمنود، قدما إلى "أوزير" لاستدعاء شاب إلى الشيخ، وأخبرا الشاب بأن في الطريق واليا جديدا، لا يعرفان من سيكون: «أي والٍ والسلام، لا يهم»، إذ مات أبو الذهب، «في بلاد الشام، بعد أن دخلها بالقوة، وقتل وأسر من أهلها ما لا يحصيه أحد، ولم يكلف نفسه أن يميز الخبيث من الطّيّب، وما فرق بين مسلم ويهودي ومسيحي، فاستجاب الله دعاء الشوام، وأهلكته الشّكية، ومرض ولم يهنأ ببسط سطوته، إلى بلاد مات فيها، وعاد منها إلى مصر المحروسة رمّة، تفوح رائحتها تحت شمس بؤونة». 

Cairo forum for creative fiction
علاج بالخيال

ويروي القرش أن اختيار عنوان "أول النهار" جاء بعد شهور من التردد، والانتقاء والمفاضلة بين بدائل أقربها "أوزير"، وهو اسم القرية التي تجري فيها الأحداث، وتستلهم حضورها الروحي من "أوزير" إله البعث في الأسطورة المصرية. قرية "أوزير" لا وجود لها إطلاقا، وأما القرى المجاورة لها (بنا أبوصير التي ولدتُ فيها، وأبوصير بنا، وسنباط)، والمدن القريبة منها (سمنود، والمحلة، وطنطا) فهي حقيقية وتحتفظ بأسمائها إلى اليوم. وكان وعي الراوي ينمو ليواكب وعيا نوعيا وخبرة تُكتسب بسبب السفر والاختلاط، أو تغييرا يطرأ على اسم مدينة تُشد الرحال إلى وليّها الصالح، السيد أحمد البدوي، وهي «طندتا»، التي صارت «طنطه»، وستكون «طنطا» في الجزء الثاني "ليل أوزير".
كان عنوان رواية "ليل أوزير" جاهزا ينتظر بدء الكتابة. وكان الكاتب قد أعدّ للرواية جيدا من قبل "أول النهار" التي كُتبت من غير قصد، واستهلكته تماما، وتأكد له بعدها أنه لن يستطيع كتابة عمل آخر؛ لأنه أخلص لقاعدة ذهبية توجب الوفاء لأمرين اثنين يجب فعلهما بأقصى طاقة ممكنة: الحب والكتابة، فلا طعم لنصف حب، ولا جدوى من نصف كتابة. والطاقة القصوى هي التي تتيقن بعدها أنها المرة الأخيرة، خاتمة تليق بالكمال، تُشبع وتغني عن الحاجة إلى ما يليها.
يقول القرش: ثم ذهبت سكرة "أول النهار"، وجاءت فكرة "ليل أوزير". لم تكن الفكرة بعيدة، وإنما الهمّة والقدرة على امتلاك "الطاقة القصوى" التي فاجأتني، وهدرتْ من أعلى طبقة، من جواب الجواب لترتطم بالقرار، وتحفر مجرى يزداد عمقا واتساعا، وتزيح ركاما هو نسغ من غبار وفتات حجارة وطمي وجثث وأشجار تثمر أدوات للتعذيب، في ظل استبداد شاب سارع بجسارة، في نوبة شهامة، إلى إنقاذ سيد القرية. ثم أخذ القرية وسيدها وأهلها رهائن، ولم يكن من خلاص إلا بحريق يقضي على ذلك الجيل، من الظالمين والمظلومين لارتضائهم الظلم وتعايشهم معه. انفجرت مشاهد "ليل أوزير"، ولم يكن عليّ إلا أن ألاحق السيْل، وأتتبع مسار حُمم النيران. وظلت تلاحقني أينما أذهب، وسجلتُ في نهايتها أن بعضا من مشاهدها كتب في مدن: الإسكندرية وأسوان والعريش والإسماعيلية والجزائر ونيودلهي.
 في فندق «تاج محل» المقام وسط الحدائق بالعاصمة الهندية، أفزعني كابوس فجر السبت 21 يوليو 2007، ولم يكن بدّ من توثيق كلمات وجمل إشارية إلى مشهد الحريق الكبير. وكنت قد اعتدت طوال الوقت اصطحاب "ليل أوزير" التي جعلت كل الأوقات والأمكنة صالحة لاستقبال الشخصيات وتلقّي الكتابة، ولم تُشيّد الفنادق لمثل هذه المهام الشاقة، فلا تُزوّد الغرف بإضاءة كافية. وفي الضوء الواهن سطرتُ إشارات تدلّ على مشهد لا أعرف أين سيكون موضعه في الرواية. كتبت سطور مشهد الحريق في دقائق؛ لأتخلص من الكابوس فلازمني وأبعد عني النوم. ثم استأنفت الكتابة من حيث توقفت، ومشهد الحريق أمامي، حتى استقر ختاما للرواية. 
الآن، حين يتأمل سعد القرش الثلاثية يجد نفسه في مرحلة "ليل أوزير" الذي قد يطول، ويأمل ألا نتطّهر بالمشهد الأخير.
يقول: رواية "ليل أوزير" أفرغتْ رأسي تماما من أي أفكار، وكدت أطير من خفّة روحي الهائمة، في توقها إلى شيء من الراحة، مكافأة على فض اشتباك مع رواية أهدتني رواية سابقة عليها، ومنحتني أيضا جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي. وقد نالت "أول النهار" المركز الأول في دورتها الأولى عام 2011. ثم بدأ قلق جديد لم أستعد له، فبعد فترة من الطمأنينة والكسل اللذيذ انتبهت إلى أنني أهملت نطفة في رحم نجا من الحريق، وحجبه عني الغبار والدخان. هكذا اختتمت ثلاثية أوزير برواية "وشم وحيد"، قمة بناء ازدحمت قاعدته، "أول النهار"، بصنوف من البشر: مصريين ومغاربة وأرمن ومماليك وفرنسيين وإيطاليين. وكلما علا البناء ضاقت العبارة، فلم تتسع "وشم وحيد" إلا لشخصيتين: «وحيد» و«هند» التي جاءت صورة عصرية تتجاوز سذاجة «هند»، الأم في «أول النهار».
ويختم القرش شهادته الأدبية بقوله: تظل الأعمال العظيمة تستفزني للتحدي، وتبث في نفسي الحنين، فلا أتخيل الحياة بلا كتابة. أتقصى شرطيْ الشغف والمتعة؛ فلست كاتبا محترفا، وإنما أكتب فأرى، وأبلغ فضاء طليقا يهزم الزمن، وأتحايل على حياة واحدة لا تكفيني؛ فأصوغ حيوات، وأرتحل في التاريخ، التاريخ لا الماضي، أرتحل فيه لا إليه. وهبتني الكتابة عائلة إنسانية كبيرة، وأجتهد لتضمن لي بنين وحفدة.