ثورة حتى... سويسرا

الحماسة للثورة ليست موجهة ضد الدولة اللبنانية، فالدولة القوية هي الغاية، والثورة السلمية هي الوسيلة.

في 12 أيار/مايو 2014 نشرت في "النهار" مقالا تحت عنوان: "أيها الشعب فجر غضبك". وفي "النهار" أيضا (21 أيلول 2015) مقالا آخر تحت عنوان "الثوار الحقيقيون والثورة المجازية". وفي كلا المقالين دعوت شباب لبنان إلى الثورة، مع أني كنت يومها وزيرا في حكومة الرئيس تمام سلام.

واليوم أغني الثورة منذ ولادتها في 17 تشرين الأول/اكتوبر 2019. أغني جيلها وهو متعدد الأعمار، وتنوعها وهو متعدد المطالب، وسلميتها وهي متعددة المستويات، وحضارتها وهي متعددة الثقافات. وبلغ تعاطفي مع هذه الظاهرة المجتمعية البهية - بمنأى عن السياسة - حتى "اتهمني" الوزير سليم جريصاتي بأنني "صرت منظر الثورة".

الحماسة للثورة ليست موجهة ضد الدولة، فالدولة القوية هي الغاية، والثورة السلمية هي الوسيلة. وأصلا إن تأييد الثورة نكاية بالحكم هو تحجيم لتاريخية الحدث. الثورة، بجماهيرها الجامعة، تسير في مدار مستقل عن اليوميات السياسية. لها كوكبها وللحكم كوكبه. لكن مقاربة السلطة للثورة، بما هي فرصة للتغيير من ضمن الدستور والشرعية والمؤسسات، كانت دون مستوى الحدث ودون مصلحة السلطة ذاتها بما هي حاضنة شعبها. الحكام الشيوعيون في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية تجاوبوا مع مطالب شعوبهم المنتفضة في التسعينات الماضية أسرع مما تجاوب مسؤولون لبنانيون مع الشعب اللبناني. أولئك استوعبوا معنى أن يسقط تمثال لينين في موسكو وجدار برلين في ألمانيا. أما هنا، فلا يزال البعض يعتبر أن ما يجري "مشوار على شط بحر الهوى".

هكذا اجتهد أهل الحكم في تحويل الثورة طرفا سياسيا جديدا يضاف إلى الأطراف المتفشية في جسد لبنان. "اقتسموا ثيابها وعلى لباسها اقترعوا". وسعوا إلى أن يجعلوها دويلة إضافية، الشارع قوتها كما السلاح والمذهبيات قوة الدويلات الأخرى. تقصد أهل السلطة تبديل جوهر الصراع: الشعب يطرح مصير لبنان وهم يطرحون مصير الطائف. الشعب يطالب بحقوقه وهم يطالبون بصلاحياتهم. الشعب يريد تأمين مستقبل أولاده وهم يريدون تأمين دور أحزابهم. الشعب ينادي بالتجديد وهم يعتقون "القديم على قدمه". لا يأبهون لانهيار البلد، لكنهم يستهولون خرق الطائف. علمتنا الثورة أن نحبها، فيما أجبرتنا السلطة على أن نعارضها.

الإشكالية التي يعانيها لبنان اليوم هي أن السلطة والثورة تظنان أن الوقت يلعب لصالح كل منهما، فيما هو ضدهما معا. وضع لبنان المتدهور - من قبل الثورة - لا يتحمل حكما يستنزف الناس ولا ثورة يستنزفها الوقت. إنه لأمر صادم ألا تتحمل الحالة الاقتصادية الثورة عندما صارت هذه ممكنة في لبنان. كأننا أمام خيار صعب: تأييد الثورة وتسريع الانهيار، أو دعوة الثورة إلى الانكفاء ووداع الإصلاح. لكن هناك خيارا آخر هو: معارضة السلطة وتسريع التغيير. اليوم، السلطة والثورة تلتقيان في مكان مشترك اسمه مصير لبنان، وتفترقان حول نوعية المصير. نحن في زمن الحصص الجغرافية لا في زمن الحصص السياسية. نحن في زمن الشعوب لا في زمن الأنظمة. نحن في زمن التحولات الكيانية لا في زمن التحولات النيابية والحكومية. من هنا أن الثورة مدعوة إلى الواقعية، والسلطة إلى احتضان مطالب الثورة جديا لا مناورة. نحن اللبنانيين نميز بين السلطة والثورة، لكن العالم لا يميز بينهما، فكلهم لبنان. الشرق الأوسط أمام مؤتمر فرساي (1919)، والعالم أمام مؤتمر فيينا (1850) من دون إعلان. هناك كانت مقصلة الجغرافيا، وكان الثواب والعقاب.

منذ سنة 1989، تاريخ بدء سقوط الشيوعية، كل الثورات التي حصلت أدت، باستثناء الحالة الألمانية، إلى تفتيت الدول: سقط الاتحاد السوفياتي، نشأت دول جديدة، تحررت أوروبا الشرقية، تقسمت يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وسائر دول البلقان. انتشر الطراز الغربي في العالم الجديد وحلت العولمة. ليس لبنان بعيدا من هذه التحولات. فلو كان دستور 1943 صالحا لما وقعت حرب 1975، ولو كان دستور الطائف حلا لما وقعت جميع الأحداث وصولا إلى 17 تشرين الأول. النصوص ممتازة والتجارب سيئة.

العودة إلى ما قبل 1975، وحتى العودة إلى "طائف" 1989، وقد عدل مرارا بكواتم صوتية، مستحيلة لا من زاوية مسيحية أو مسلمة، بل من منطق التاريخ ومن مسار الأحداث. مياه البحر لا تعود إلى الأنهر، ولا مياه الأنهر إلى الينابيع. لم يحدث أن عادت الشعوب إلى أنظمة ماضية. قد تعود إلى قيم ماضية كحال روسيا ودول أوروبا الشرقية التي استعادت مسيحيتها بعد الفاصل الشيوعي، لكنها لم تعد إلى الملكية.

الأمم التي تعرضت في السنوات الثلاثين الماضية لثورات وحروب استقلت واستقرت ونهضت باقتصادها واستعادت بهاء تاريخها وعلاقاتها الدولية. أما نحن فلا نزال في ضفة الاضطراب نتيجة وجود مشروع حزب الله من جهة، وفشل الطبقة السياسية من جهة أخرى، فتحولت الأزمات مشاكل والمشاكل فتنا وتسربت إلينا صراعات المحيط.

لذلك، تعالوا نستفيد من ملامح الوحدة التي برزت في الثورة لا لنشكل حكومة فقط بل لنبني لبنان الاتحادي. هذا هو مستقبل المنطقة. لا التجاهل يفيد ولا المكابرة ولا المزايدة، ولا حتى الحنين. ملامح الوحدة في الثورة تجلت حول القضايا الاجتماعية والأخلاقية، لكن سرعان ما تبددت حين بدأ ثوار يطرحون القضايا السياسية والخيارات الوطنية. ملامح الوحدة بين الناس والمناطق كافية لنحيا معا ضمن خصوصياتنا الحضارية لا الطائفية، لكنها ناقصة لنتشبث بوحدة مركزية عطلت الدولة وشوهت الهوية وطعنت صيغة الشراكة. لو ان الشعب السويسري وظف إرادة الوحدة سنة 1848 في دولة مركزية لكان عاد إلى حروبه الأهلية، غير أنه اختار الوحدة الاتحادية وطوى صفحة الحروب الأهلية إلى غير رجعة، وصار مثال الشعب الموحد.

هل يستطيع اللبنانيون أن يغرفوا من رصيد تاريخهم ليستثمروه في نقص مستقبلهم؟ ومن فائض حروبهم ليسدوا فيه عجز سلامهم؟ ومن ذكريات تعايشهم ليرووا به شراكتهم الباقية؟ ليس لبنان في لحظة مغيب. اللبنانيون يغيبون عن شروق الشمس ويخبؤن عيونهم خلف جفونهم فيما هي تطل من خلف جبالنا. إن في تاريخ هذه الأمة من الطاقات ما يجعلها قادرة على تحقيق المجد النهائي، مجد واحد مشرق على مدى مساحة أمتنا اللبنانية المطلة على هذا الشرق الجريح.