جبار فرحان العكيلي يمطر أصدقاءه بوابل من ذكريات

'رسائل في زمن الكورونا' تزخر بكثير من الهذيان العذب لكن من دون فوضى أو إخلال بالموازين الثقافية، بل تقدم شعرا بحرفة ومزاج مختلف.

من عنوان مجموعته الشعرية "رسائل في زمن الكورونا" نعرف أن الشاعر جبار فرحان العكيلي، قد حجر نفسه شعرياً وجسدياً، بل ومنحنا فرصة إصطياد تأريخ القصائد، بسهولة ومن دون بحث مرهق كما يحدث معنا في تقصي تأريخ قصائد المجاميع الشعرية لكثير من الشعراء، وبالتالي سنكون أقرب الى إستساغة العنوان رغم مباشرته الصريحة.

يقول الشاعر في مقدمة المجموعة والتي كتبها بنفسه ما نصه "برزت فكرة كسر حاجز هذا الحصار الجامح، بكتابة رسائل نثرية مطرزة بثوب الشعر، الى مختلف أصدقائي وزملائي، كي نتغلب على هذا الجمود الإجباري".

وهنا يضع لنا تنويهاً بأن القصائد تركزت فيها النثرية، وصارت الشعرية هامشاً، بدلالة قوله "رسائل نثرية مطرزة بثوب الشعر" وأعتقد على ثوب الشعر تكون دلالتها أعمق وأصح، ولكن الثابت الذي أريد الإشتغال عليه هو ذهاب الشاعر لنثر القصيدة، لا شعرنتها، رغم وجود الشعر كمركز وهامش في آن واحد.

عنوان المجموعة واضح ودال على الشخصية الشعرية المختفية وراء هذا النبض المنثور بطريقة شعرية تحفّز الذائقة، وتنعش التلقي لدى الباحثين عن القصيدة الحديثة، فقد كان الشاعر ومن خلال مجموعة النصوص هذه والتي احتوت اغلب ثيمات الشعر الحديث المتعارف عليها مثل الحب/ المرأة/ الرجل/ الرجولة/ الأنوثة/ المصير/ الانتظار/ التحدي/ العطش لأشياء عدة/ الفرح/ الحزن/ الشجن/ الغربة/ وغيرها تنسج وعلى مهل عدة سحب علقت على سماء الشعر وتركتها تمطر علينا قصائد وانثيالات موجعة، لكن وجعها لذيذ.

يرى الناقد والأكاديمي هنري ميشونيك إن" الخطاب اذا كان هو ممارسة للذات داخل التاريخ فالقصيدة سوف تعتبر التسجيل الأقصى للذات ووضعها وتاريخها داخل اللغة"، وقد استفاد الشاعر جبار فرحان العكيلي، وربما من دون أن يدري من هذه المقولة فراح يسرد علينا شعرياً بعضاً من تأريخه عبر لغة فاحت منها لغة الإعترافات فصارت تتموسق هي ومفردات القصائد عازفة لنا كثير من المقطوعات الشعرية بعد ان جاء التاريخ مصاحباً لمفرداتها وها هو يقول في رسالته الى الشاعر والمناضل الكبير مظفر النواب :

"لولا صولجانك لـ "داحت"

يتاماك في أزفة البتاويين

وأهوار الفتية العشّاق

ياسيدي ..

لم يبق لنا من تشرينك

قطرة مطر

فكل التشارين لوحت لنا

بمجذاف إنكسارها".

هذا هو إعتراف الذات بالإنكسار، وهو إعتراف بإنكسار وجداني، وخيبة تتفحص نفسها، قبالة ما آل اليه الواقع العراقي - التشريني بعد إنطفاء جذوة الثورة الشبابية الكبيرة، نتيجة البطش الذي مورس ضدها.

التلقي غير المتسرّع لهذه المجموعة، قد يمنحكم صورة أولى عن التقنية الشعرية التي يمتلكها الشاعر، والذي أبدع فيها من خلال التعبير العاطفي – الوجداني، وقد صادفتها في أكثر من صورة شعرية وقد اعتلاها سيل من الوله والهيام والولع الصوفي ليس بحبيب ما في المعنى البسيط للحب، بل لأحبة يسكنون قلبه رتبهم وفق إندلاق الذات على طاولة الذاكرة الحقّة، لذلك لم يكن من الصعب على المتلقي لشعر جبار أن يعثر على ذاته وهواجسه اللا متخفية كما يفعل بعض الشعراء الذين يشفّرون حوارات العمق خشية ثورة وإنتقاد الآخر القلق، فيقول الشاعر في قصيدته أو رسالته الموجهة الى صديقه الشاعر الكبير بشير العبودي:

"دعنا نشتري بقايا ضمائر

الموبوئين بالصدق والعفة والجمال

علنا ..

نبني كوخاً للشعراء

وأصحاب السرد الفقير".

كما إن هذه الشاعر يمتاز بكونه قادر على اخذ المتلقي الى أكثر من عالم من خلال تكوينه لـ انطولوجيا تترجم كل انفعالاته بدون أن تجد تكراراً أو تشابهاً في الصور الشعرية، فهو قادر على التلاعب بالمفردة وجعل منظومة البث عنده غير مستقرة على ثيمة أو لغة معينة، بل نقل الرائي الى أزمنة مختلفة عنه، ومحيطات لم يمر بها مركبه، كونها مجموعة تجارب رصّت نفسها دون أن تتقولب، ولعل قصيدته أورسالته الى الشاعر والمناضل الكبيرناظم السماوي والتي اخترت منها هذا المقطع ليدلنا على ثيمة مغايرة تماماً للسائد، تكفي لإثبات قدرته على التلاعب بالمفردة وتحقيق أكثر من إزاحة بضربة شعرية واحدة حيث يقول:

"تبهرني، بفيض ما تعلمته

على تخت مقاهي الكويت

فكان خرج رحلتك

نحو فيافي الإبداع

ممتلئا بصور الفقراء

وأشباح العشاق

يا حريمهلأشياء

لم تخط على أرصفة العاطلين".

في هذه المجموعة تجنب الشاعر الاستعارات والأنماط القديمة في النشيج الكتابي، بل خلق لنفسه مجازات أوسع، وتوغل بعيداً حيث روحه، لذلك مرر لنا وبكل سهولة عاطفة وإنفعال حقيقيين، في قصائد رسائل أخرى تحتويها مجموعة النصوص، فهناك أكثر من نص يشير الى تمكنه وقدرته على التصوير، كما في رسالته الى الشاعر المبدع فالح حسون الدراجي حيث يقول:

"حينما زرعت خطواتك

في بوابة طريبيل

ماتت آلاف القصائد

وانتحرت رغبة الفراشات بالطيران

لا تنس أن العراق

نصب خيمته بين عينيك

فلا تدع الريح تصهل

في غير مدينة الثورة".

أعتقد أن من سيطلع على المجموعة سيجد أن الشاعر أكثر من الإنثيال الذي يقدمه بصيغة شهادات يكرّم من خلالها بعض محبيه، حتى تكاد لا تجد نصاً من نصوصه خالياً من ثيمة المديح، فالمجموعة ورغم شجنيتها العالية، كانت تحمل في ثيمتها الأولى سياحة في تأريخ الأسماء التي يحتفي بها، فهو وبسجية أكثر من القصدية، وزع أوسمة فخره على أصدقائه، وذكرهم بالذي مضى من الزمن الجميل، كما في رسالته الى الشاعرة الجميلة فاطمة الليثي حيث يقول فيها:

"إحلمي ..

كأي فارسة تفرش جناحيها

بين ذرى المجد ..

وأوكار الخفافيش

كوني مغنية الحيّ

ونادبة لخسائر الفجر

الآتي من عمق التاريخ".

ومن مميزات النص الشعري الذي يكتبه العكيلي أيضا إن الصورة الشعرية تبقى ضمن محور الفعل الدرامي للقصيدة، وخصوصا في حال كان النص كتجنيس ينتمي لقصيدة النثر، كون هذا الجنس الشعري يسمح بانتقالات واسعة، قابلة لإحتواء الإنفعالات، وتوثيقها عبر المفردات التي رصّها الشاعر أثناء مراحل إنتاج النص، حيث تبقى الذات تخاطب نفسها وتحاول قدر الإمكان إثبات و جودها ككائن له مميزات خاصة منحها إياها الرب، وهذا الذي أقصده قد ورد في رسالته الى الشاعر العذب كاظم غيلان حيث قال:

"كنا نزرع في باب المعظم

أغاني الناس

وأوجاع الخطوات المسكونة ..

بالتمرد والهذيان

كل مرة ..

أراك فيها ..

أقطف زهرة من جيب قميصك

الفضي

ومن بستان محبتك

فسائل أخلاق وشجون".

في ختام هذه القراءة أود أن أذكر عبارة لـ شوبنهاور يقول فيها "الأسلوب هو تقاطيع الذهن وملامحه" وأنا أقول: اني ومن خلال نصوص هذه الشاعر وصلت الى أغلب ملامحه ووجدته يحتوي فعلاً إبداعياً كبيراً وحاسة جمالية، وحين توغلت به أكثر وجدت  كثيراً من الهذيان العذب، لكن من دون فوضى أو إخلال بالموازين الثقافية، بل وجدته يزاول الشعر بحرفة ومزاج مختلف.