أنساق الخطاب الصوفي

الدكتور سمير الخليل في كتابه 'الأنساق الثقافية في الخطاب الصوفي – كسر النمط الكتابي والعمى الثقافي' يذهب بنا إلى مساحة نقدية ثقافية غير نمطية.

في العمل النقدي يكون الاشتغال في غالب الحال على المادة الجمالية في النص المراد قراءته، وتفحصه ومن ثم تفكيكه، وهذا ما كان سائداً، قبل بزوغ نجم "النقد الثقافي" بأنساقه المتعددة التي صارت تهيمن اليوم على اشتغالات النقاد والباحثين.

في كتابه "الأنساق الثقافية في الخطاب الصوفي – كسر النمط الكتابي والعمى الثقافي" يذهب بنا الناقد الدكتور سمير الخليل إلى مساحة نقدية ثقافية غير نمطية، كونه يضعنا قبالة الخطاب (البلاغي – الإبلاغي) حيث البيان والمجاز والرمز والإشارة والعلامة الموجودة في النصوص الصوفية، عبر نقد ثقافي يوثق لكسر النمط الكتابي المرتبط بالعرفانيات، ومترافعاً عن النص العرفاني، نافياً عنه صفة الإلحاد أو التجاوز على المقدّس.

في مقدمة الكتاب يعرّف الناقد الخطاب الصوفي بالقول: الخطاب الصوفي هو أنموذج متفرد قد لا ينطوي تحت جنس أدبي محدد.

ثم يشرح: لا أقصد الشعر الصوفي حتماً، فهو في مجمله بفيض بالرمزية وشيء من الغرائبية والميتافيزيقية.

في المدخل المعنون "الخطاب الصوفي – تجليات المصطلح والدلالة" يدخلنا الخليل إلى غرفة التعريف بماهية الخطاب الصوفي وارتباطه بجميع الديانات التي أنشئت على هذا العالم، فهو يحيله إلى الموروث الإنساني في جميع الحضارات ويتركه يتماهى مع الدين أحياناً، ومما ورد في هذا المدخل "الخطاب يمثل ظاهرة من ظواهر الموروث الإنساني وفي كل الحضارات، ويرتبط بحياة الإنسان ومكابداته ويتواشج مع النزعة الروحية ويتماهى مع الدين ويتشاكل مع الغموض والباطنية والسرّانية والتوهج الذاتي".

وفي المدخل ذاته يشير لنا الخليل أن مصطلح الصوفية لم يكن محددا تأريخياً وليس هناك اتفاق بشأنه من حيث أصله وتاريخ ولادته، فهو يبقى متعاطياً مع جميع الآراء المتشابكة حيث يقول "هناك بطبيعة الأحوال الكثير من الآراء والتفسيرات التي تتحدث عن أصل المصطلح ودلالته ولم يستقر الباحثون والمستشرقون على أصل واحد متفق عليه، وهذا يعكس التشوش على مستوى الأصل والزمن الذي ظهر به المصطلح".

يرى مؤلف الكتاب أو صاحب البحث أن هناك تحولات كثيرة تحدث مع صاحب الخطاب الصوفي كون العقل الصوفي لا يؤمن بالكمال المطلق إلا في الذات الإلهية، وعليه لا يمكن أن لا تحدث التحولات لدى منتج الخطاب الصوفي.

على ذلك يقول المؤلف في مدخل آخر إلى الكتاب جاء بعنوان "الخطاب الصوفي وإشكالية الذات والمعنى" "سايكولوجية التصوّف تستند على نوع من القلق والتحوّل وأحياناً جمع التضاد والتناقض وصولاً إلى اتساق داخلي يسعى إليه أصحاب التساؤل الدائم والاستبصار غير المحدود".

'الأنساق الثقافية في الخطاب الصوفي – كسر النمط الكتابي والعمى الثقافي'

هل يؤمن الخطاب الصوفي بالأحداث "الميتافيزيقية" وتتشكل وفقها رؤى مختلفة؟ هذا ما يجيب عليه المؤلف في ذات الفصل أعلاه حيث يقول "قد يبلغ الانصهار في الفكر الذاتي والمغالاة في التصوّرات إلى الإيمان برؤى "ميتافيزيقية، وقد حدث مثل هذا بعض من آمنوا بالتصوّف ومن ذلك بعض أنصار الحلّاج برجوعه بعد صلبه".

في الفصل الأول من الكتاب والموسوم "الخطاب الصوفي والدلالة الثقافية" يجتهد المؤلف في إلباس الخطاب الصوفي رداء الدلالات الثقافية المتطوّرة ويقدمه على أنه الأنموذج المتقدم في تلك الدلالات، وهو اجتهاد قد يختلف معه كثير من النقاد الثقافيين والجماليين في آن واحد، وأقصد الذين يرون في ذلك الخطاب مرتهناً بالسلف الصوفي، ولا يؤمن بالحداثة، حيث يقول المؤلف "تمثل الخطابات الصوفية أنموذجاً متقدماً وثرياً في تعدّد أبعاد الدلالة الثقافية، ويتجلّى ذلك في ط\بيعة اللغة والصياغة التعبيرية واللجوء إلى معطيات كثيرة على مستوى المضامين والشكل الأدائي للخطاب".

اجتهاد المؤلف الذي تحدثنا عنه يخفت في الفصل ذاته عندما نجد المؤلف وقد عاد ليتفق مع من لا يرون في الخطاب الصوفي الحداثة والثراء اللغوي، حيث يورد المؤلف في ذات الفصل من الكتاب ما نصه "الخطابات الصوفية كثيرا ما تتشابه مع منطق الآيات القرآنية وتستعير ليس فقط المضامين بل تسعى إلى تضمين بعض الألفاظ والدلالات الدينية لإظهار التشارك والإيحاء بقدسية المضامين والرؤى التي يسعى لها العقل الصوفي".

الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان "الذات الصوفية والأنساق المضمرة" يؤكد فيه المؤلف على أن الخطاب الصوفي لا يمكن أن يحافظ على خطاب مباشر خال من التنافر المتبادل، بل يمكنه أن يقع ضمن جملة تناقضات وتقاطعات مع الآخر سواء كان سلطوياً أو من مدارس دينية أخرى وبالتالي يحتاج إلى انفصال "سايكولوجي" عن المجتمع، حيث يتأكد ذلك بقول المؤلف أن "الأنا الصوفية بعد الاكتمال العرفاني والطقوسي تصبح عرضة للإقصاء والقمع والتصفية الجسدية إلى جانب نشوء ظاهرة الاغتراب والانفصال "السايكولوجي" عن المجتمع أو (الذات الجمعية) ووفق هذا التوجه ينشأ التناقض والتنافر المتبادل بين الصوفي والآخر المتعدد في أكثر من مستوى ومجال، فالصوفي يعاني اغتراباً ذاتياً واجتماعياً ودينياً، واغتراباً سياسياً لعدم التناغم مع سلوك ومظاهر ومرامي السلطة بمختلف أشكالها".

في الفصل ذاته يذهب بنا المؤلف إلى إشكالية مهمة يقع فيها الخطاب الصوفي، وهي عدم توافقه مع اللغة السائدة وقطع العلاقة معها لإنتاج لغة أخرى تعبر عن ما يجترحه هذا الخطاب المختلف حيث يقول "تعاني الذات الملتبسة بالتوهج الصوفي في إشكالية العلاقة مع اللغة أيضاً، فهي تبحث عن لغة مختلفة تعبّر عن أفكار وتطلعات وانفعالات جديدة غير مأهولة أو متعارف عليها على مستوى الذات الجمعية، ولذا نجد أن هذه الإشكالية ومكابداتها أنتجت ما أن نسمّيه باللغة الصوفية".

يقدم لنا المؤلف في الفصل الثالث من الكتاب والذي جاء بعنوان "الأنساق الثقافية ونقد المنظومة الاجتماعية" صوراً عدة من النقد الاجتماعي الذي يتبناه الخطاب الصوفي، ويضع لذلك أنساقاً ثقافية متعددة، مستشهداً بعدة حوادث أبرزها ما حدث للحلّاج بعد تفننه في النقد الذي خلق له أعداء من العامة وأبناء السلطة حيث يقول "لعلّ التحريض بدأ ضد (الحلّاج) من خلال المجتمع ومطالبته بإقصاء صوته في تلك الحقبة التأريخية التي تمثل ذروة التناقض وجوانب الصراع في الدولة العباسية وبدأ سيل من التهم والتوصيفات من قبل المنظومة الاجتماعية ورفضها لهذا التوجه الذي يمس جوهر خطابها الذي استقرت عليه".

يرى المؤلف أن المنظومة الاجتماعية قد تتحالف مع المنظومة السياسية (السلطة) في حال ظهور خطاب مغاير لا يتفقون معه فتصير المطالبة بقمعه أمراً لا بد من حدوثه، وهذا الرأي سبق وأن اتفق معه كثيرون ممن بحثوا بتأريخ المنظومات المجتمعية، وهنا يقول المؤلف "التحريض الاجتماعي وأنساقه القائمة على النفور من كل تغيير، تجعله أحد عوامل اللجوء إلى القوة والاستعانة بالسلطة".