حضور الوعي وغيابه في "شوارع الوجود"

رواية أحمد شمس ترصد التحولات الفكرية وتأثيرها على الحياة الاجتماعية والسياسية، عبر التحول الذي تعيشه الشخصية الرئيسة في الرواية.
الانفتاح ليس بالضرورة حضورا للوعي بقدر ما هو تغييب له أيضا
الإحساس بالمكان يرتبط بعنوان الرواية

كتابة الرواية ليست محاولة لحكي قصصي مجرد، فهي تتجاوز المحكي لتبرز أنماطا من الأفكار والتصورات المتعلقة بالوجود والحياة بمختلف أشكالها وتفرعاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية .. الخ.
ومن هذا الجانب فأن الروائي غالبا ما يضمن روايته رؤيته للحياة، فهي ليست مجرد حكاية تروى، ولكن نص سردي محمل بمضامين متعددة على القارئ أن يفككها حتى يصل إلى غايته من الفهم والتوضيح، وهذا يختلف من رواية إلى أخرى وفق الأسلوب الذي يكتب به الروائي والرؤية التي يحملها.
وفي رواية "شوارع الوجود" للروائي والشاعر أحمد شمس والصادرة عن المركز الثقافي للطباعة والنشر في دمشق عام 2017،  يمكنك أن ترصد التحولات الفكرية وتأثيرها على الحياة الاجتماعية والسياسية، عبر التحول الذي تعيشه الشخصية الرئيسة في الرواية سامي خلخال والتي تظهر انتقالات بالوعي من التزمت الديني إلى الانفتاح الفكري، وما يرافق ذلك من تغير في نمط الحياة ورؤيتها وتشكل العلاقات الإنسانية بالشكل الذي يجعلنا نشعر أن ما يرافق هذا الانفتاح ليس بالضرورة حضورا للوعي بقدر ما هو تغييبا له أيضا كما يغيبه التزمت الديني والانغلاق في الرؤية.
المسار السردي للرواية يأتي بثلاثة أقسام، الأول مقدمة للحكاية يقدمها السارد للأحداث، صديق خلخال الهارب إلى روما والذي يبين لنا من هو صديقه وكيف وصلت المذكرات إلى يديه، ويتقدم هذا القسم نصا مقتطعا من مقدمة سامي خلخال في أطروحته للدكتوراه. وتأتي أهمية هذا النص المكاني في كونه يتحدث عن شارع التربية وسط مدينة العمارة، الذي يرتبط بعملية تحول الرؤية لدى الشخصية الرئيسية، مع أول إحساس له بوجود المرأة والتي ترتبط بتغير الرؤية له من "الدهليز السري للشيطان" إلى "مكان تجتمع فيه كل تناقضات المدينة وتحولاتها الثقافية والاجتماعية". 

الكاتب اختتم روايته بملاحظة تفيد بأن "أحداث وشخوص الرواية من نسج الخيال وإن كان هناك ما يطابق الواقع منها فهو محض مصادفة غير مقصودة، صدقوني لطفاً!"

ويرتبط الإحساس بالمكان بعنوان الرواية حيث تشكل الشوارع الثيمة التي تتنقل به الأفكار من مكان إلى آخر حتى يجد خلخال نفسه في النهاية بعيدا عن الحضور المادي في المكان منفيا في شوارع باريس التي هي جزء من المسكوت عنه في الرواية التي على القارئ أن يتكهن به لأن الاحداث تنتهي بمجرد الإشارة اليه.
القسم الثاني من الرواية وهو الأكبر حجما والأكثر اتساعا من حيث سرد الأحداث والانتقال بالزمن يتضمن مذكرات سامي خلخال ابتداء من تعرفه على الفتاة الأولى (شيرين)، وبداية التحول بالأفكار، ورؤية الأشياء بمنظار مختلف عما كانت عليه قبل أن يكون هذا التعارف المبني على الصدفة عبر اتصال هاتفي عشوائي تتحرش فيه الفتاة بالشاب الذي لا تعرفه.  
هذا الانتقال الذي يدفع بسامي خلخال إلى الابتعاد عن انغلاقه الديني باتجاه الانفتاح على الآخرين والأفكار، لا أجد فيه وعياً وجوديا كما يرغب السارد ربما، رغم أنه ممكن أن يكون مفتاحا له، ذلك أن الوعي هنا مغيب هو الآخر حيث يكون ملتصقا بالمرأة، ليست المرأة الإنسان بل المرأة الجسد، وبذلك فأن الانتقال في السرد هنا يكون من وصف الشارع إلى وصف الجسد الأنثوي، بكل ما يحمل من إغراءات حيث يرسم الروائي صورة لفظية لكل ما يعنيه الجسد الأنثوي لشاب يشعر بالجوع الجنسي المكبوت نتيجة الانحشار بين حدي التقاليد والتعاليم الدينية والاجتماعية، لذلك فأن التحول هنا يتعلق بكسر التابوات التي فرضها سامي خلخال على نفسه نتيجة الأفكار التي يحملها، والتحول نحو اكتشاف الآخر الذي يجده في شارع جديد لدى انتقاله إلى العاصمة بغداد والمتمثل بشارع (الكرادة داخل) الذي يتشابه مع شارع التربية من حيث الشكل المجرد (شارع تجاري) ويختلف معه من حيث المضمون الاجتماعي والإنساني. 
وهذا ما يجعل النص السردي أكثر التصاقا بالعنوان، إذا ما أضفنا إليها شارعا ثالثا في مسار السرد هو شارع مولوي في السليمانية، حيث إن الشوارع تتخذ أهميتها لدى السارد من قدرتها على تمكينه من اكتشاف العلاقات الاجتماعية التي يرى أن هذه الشوارع هي من تعبر عنها خير تعبير عبر اكتشاف وجود المرأة فيها، والممارسة الاجتماعية التي تمارسها لدى وجودها في الشارع نفسه لذلك فأنه يرصد المتغير ليس عبر الأفكار وإنما عبر المرأة فهي "مركز الشبكة الاجتماعية وهي المرآة التي تنعكس عليها جميع الصور وتظهر فيها جميع المتغيرات في الحياة.." (ص162)، وهذا ما يرصده سامي خلخال لدى زيارته الأخيرة الى شارع التربية "حينما شاهدت النساء في ذلك الشارع قد تنازلن عن جزء من حشمتهن لصالح الموضا (هكذا) تأكدت بأن الرجل لو لم يتنازل عن جزء كبير من خطوطه الحمراء لما حصل هذا". 
رغم أني أجد أن هذه العبارة المفترض ورودها في أطروحة سامي خلخال تحمل لبسا دلاليا، فهل المقصود أن الموضة تتقاطع مع الحشمة، وأن الانفتاح على المرأة الذي مرّ به خلخال في دورته الحياتية لم يخرجه عن رؤية الجسد الأنثوي بعيدا عن الحشمة والخطوط الحمراء التي يفرضها الرجل؟ أم المقصود هو أن ما حدث ليس انتقالا في وعي المرأة بقدر ما هو بتحول في رؤية الرجل الذي تنازل عن بعض خطوطه الحمراء باتجاه تمكين المرأة من الموضة والملابس الحديثة بعيدا "الزي الإيراني" أو "زي لميس (بنطلون مع سترة مغلقة طويلة تصل إلى الركبة)" في إشارة ذكية إلى تأثيرات الثقافة الدينية الوافدة من إيران وتركيا.  

novel
الانتماء الفكري المغلق 

القسم الثالث من الرواية يعود السرد فيها إلى صديق سامي خلخال المدعو (رسول سليم الخالص) وهو من بدأ القسم الأول من الرواية، ليعود ويختمها، وأجد هنا أن مضمون هذا القسم من الرواية هو الأهم لأنه يبين لنا المضمون الفكري، وخلاصة الوعي الذي اشتملت عليه رؤية سامي خلخال إلى المجتمع، والتحولات السياسية والفكرية التي جعلت خلخال يتحول إلى المطلوب الأول للأجهزة الأمنية كونه منتميا إلى شبكة إرهابية رغم أنه لا يعلم عنها شيئا إنما المصادفة وحدها من جعلته يقع في دائرة الاتهام بعدما جعله التسكع في شارع آخر من شوارع وجوده وهو شارع مولوي في السليمانية يتعرف على تاجر يستعين به لكتابة رسائله، لكن يتضح بالنهاية أنه ليس إلا عقلا مدبرا لجماعة إرهابية.
ولئن كان القسم الأول من هذه الرواية مدخلا إلى الأحداث وتعريفا بشخصيتها الرئيسة، فأن القسم الثاني يأتي سردا خطيا لحياة سامي خلخال وتحولاتها من "رجل متدين شديد المحافظة" إلى "أشهر الإرهابيين وأغربهم" عبر سرد مذكراته التي كتبها بخط يده ووصلت بطريقة غريبة إلى يد رسول سليم الخالص، الهارب من الموت وتهديدات الجماعات المسلحة إلى روما، بعدما تمت تصفية أغلب من يعرفهم، أو عاد المسار ببعضهم إلى الانتماء الفكري المغلق حفاظا على حياتهم وانجرافا مع السائد من الأفكار. 
ويبين لنا القسم الأخير طبيعة التحولات التي طرأت على أفكار خلخال ومجموعة أصدقائه، والتي بقدر ما كانت تعبر عن حضور الوعي، فأنها بالوقت نفسه تؤشر إلى غيابه في مواضع معينة، ولاسيما بما يتعلق بموضوع المرأة، وعلى سبيل المثال علاقة سامي خلخال بالفتاة التي تزوجها، وهرب منها، قبل أن نكتشف أنه عاد إليها لاحقا في المشهد الأخير من الرواية.
ونجد أنه كان بإمكان الكاتب أن يحمل مذكرات خلخال أكثر من هذا السرد، كوننا نطلع على سردية تمثل شخص يتعامل بالفكر، لذلك فأننا نتوقع أن نطلع على ما هو أكثر من السرد الحكائي للأحداث التي مرّ بها، بالشكل الذي يبين لنا نظرته هو لتلك الأحداث وتأثيرها على حياته والمجتمع. بدلا من أن نطلع عليها على لسانه الخالص نقلا عن مقتطفات من أطروحة سامي خلخال أو بعض أحاديثهم.
 ما يمكن أن يميز "شوارع الوجود" هو رصدها للتحولات التي شهدها المجتمع العراقي عبر سيرة الشاب الجنوبي العماري سامي خلخال موذح، الذي يعيش هذه التحولات ويتنقل بينها حتى يصبح ضحية للصراع الذي يعيشه المجتمع. هذا الرصد الذي يجيء عبر لغة جميلة جذابة، أجدها امتدادا لروح الشاعر التي لم يتخل الكاتب عنها، فالمعروف أنه شاعر أكثر مما هو روائيا، والجميل في اللغة التي كتب بها ذلك التوظيف للأمثال والعبارات الشعبية بلغة فصحى متجاوزا الإشكال الذي يجده الكاتب العربي في التفاوت بين اللغة المنطوقة الدارجة ولغة الكتابة الفصحى، بشكل محبب وجميل أعطى حيوية للغة النص على العكس من كتاب آخرين يلجؤون إلى كتابة الملفوظ الشعبي كما هو مما يشكل لبسا في التواصل مع القراء من مجتمعات أخرى. 
بقي أن نشير إلى أن الكاتب اختتم روايته بملاحظة تفيد بأن "أحداث وشخوص الرواية من نسج الخيال وإن كان هناك ما يطابق الواقع منها فهو محض مصادفة غير مقصودة، صدقوني لطفاً!".. وكأني أراه يريد إبعاد تهمة استلهام الواقع عن نفسه، لغاية يكتمها في سره..!!