"حكايات للأميرة" تقطير السرد .. تأريخ انكسار الحلم    

أول ما يلفت النظر في مجموعة محمد بدر القصصية هو ارتباط قصص المجموعة في مشهدها الكلي بنسق متحد يشبه التتابع.
المشهد القصصي للمجموعة قائم على التبويب المستمر
القصص تستدعي بعضها بعضا لتشكل مشهدها الكلي

بقلم: خالد جودة أحمد

تأتي المجموعة القصصية "حكايات للأميرة" للقاص محمد بدر، لتعبر عن شحن  المساحة الورقية المحدودة بالتكثيف الدلالي، حيث السرد المقطر وجدية الإبداع في التشغيل على الكتاب الإبداعي، حيث هذا اللون من القصص الذي يحمل فضاء التأويل كما يقال "تمنع النص متعة القارئ"، من خلال تعبئة المفردات بدلالاتها الموحية، ويبدو تعبير "القراءة الإيجابية" مناسباً للتنقيب حول القصص، حيث تعنى تلك المقاربة باستدعاء جملة من النصوص السابقة المختزنة في الواقع والذاكرة، ليصبح "التناص" في القصص على مستوى يتصل بصلة العمل الأدبي بقارئه من خلال هذا التمثيل للهموم المشتركة، بحيث تظل دائما هذه النصوص الجيدة كنزاً مغلفاً لا يفض عن عطاءاته إلا من خلال تعدد تلك المقاربات والتي تنتقل من منطقة التلقي العابر والمسترخي والمنعم إلي منطقة القراءة الإيجابية والتي تتقاطع دائما مع استدعاء نصوص أخرى، أو بالأحرى هموما أخرى يتفاعل معها القارئ، وهذا ما نحاوله.  
أول ما يلفت النظر هو ارتباط قصص المجموعة في مشهدها الكلي بنسق متحد يشبه التتابع وكأن القصص تستدعي بعضها بعضا لتشكل مشهدها الكلي حسب نسقها القصصي من البداية حتى الختام، بحيث تخدم نسيج أفكاره فتكون متحدة موزعة حسب تنويعات ورؤى معينة، فالتجميع لمجموعة قصصية لا يصح أن يكون خبط عشواء مما سبق أن دونه القاص أو قام بنشره من قصص، إذ لا بد من مراعاة أن مجموعة القصص لها تأثير من حيث وضع القصص بجوار بعضها البعض، بحيث يتم تخليق قيمة إجمالية إضافية، فنجد المشهد القصصي للمجموعة قائم على  التبويب المستمر، والتصنيف كإطار خارجي وداخلي أيضًا في رحاب القصة الواحدة، حيث تم تصنيف قصص المجموعة في ثلاث مجموعات، وعنوان كل مجموعة ليس عنواناً مختاراً لقصة منها، لكنه العنوان الذي يضم أهم المفردات النفسية في القصص، وهي طريقة بها العبارة الشعرية المكثفة ليست منفصلة عن عالم القصص تحت عباءتها وإن كانت في حد ذاتها عبارة موحية (العبارة اللافتة)، وأسرد تلك العناوين (ولد أسمر يحمل حقيبة مدرسية .. مصلوباً في لوحة كبيرة .... يلفه الصمت)، (جنين ملفوفة بشريط أحمر .. تصلي وتحلم بأغنية سعيدة ...)، (كان المشهد هكذا .. أميرة وزهرة وبئر ..). 
ولكل مجموعة منحى تيمي فني أو موضوعي قائمة على أساسه، سواء هموم العروبة والأوطان، أو الخاص الذي انتقل إلى العام، أو أساليب سرد القصة التراثية (ألف ليلة وليلة)، وكان الشغف بهندسة فنية وتصنيفات أخرى مثلاً تكرار حلقات القصة وكأنها مسلسلة (مشهد كلي متقاطع / مشهد كلي متقاطع "2")، (حكايات للأميرة / حكاية أخيرة)، حتى على مستوى المفردات نجد التنويع (مشهد / لوحة كبيرة لهذا العالم)، والتقسيم في قصة (أمطار لا تصنع الحب): (أولاً: بداية لابد منها / ثانياً: بقية الحكاية)، والتبويب بالحروف داخل بعض القصص وأخري بالأرقام ... وهكذا.
وإذا انتقلنا من الناحية التشكيلية التي لها محتوى يشير لعالم القصص المكثف، وشرحا لقضايا الوطن الثائرة، فالوطن هو تفاصيل وجه "مريم" الحبيبة والتي قام القاص بدوره الأدبي في التوضيح عنها حيث يكسو بها وجه الأرض والبحر والرمال والجبال. يقول في الحكاية الأخيرة: (بوجه مريم ... ستشرق علي الدنيا ... سيعكس النهر وجهها سيوزع وجهها النهر)، إن حضور الوطن طاغ بدواله المختلفة.  
وتحتل التنويعات وعلامات الترقيم أهمية خاصة لدى القاص، وجميعها ظلال من التكثيف الفني واستعمال الجمل السريعة جدا والمقتضبة والمكثفة، وعلامات الترقيم ثروة للقاص يجب الإنفاق منها بحكمة، كما تعلي قيمة "الإتقان" في مجموعة القصص. 
والتتابع والمقابلة والمفارقة تقنية قصصية فنجد الحلم تيمة بالقصص، حيث زرقة عين الحبيبة هي مدار حلمه، ولأنها وطنه فهي زرقة نهر النيل، فاللون الأزرق يعادل أشواق وأحلام البطل (الراوى)، وتلك المفارقة والتناقض بين الزرقة الحبيبة، والألم من أشجار صبار لها زهور زرقاء أيضا وأشواك كثيرة، وكأنها المقابلة بين المثال الذي يطمح إليه القاص والواقع المرير، بين الحب والشوق المصلوب في الأعين، بين الرغبة من التخلص من جفاء الحبيبة وذرات الجسد التي تذوب ذاتها عندما تسري رعشة الصوت، ونموذج آخر بحكايتة الأخيرة حيث المفارقة بين عالم المثال تجسده الخيول العربية ووجه مريم النقي، والبحث الدائب عنها بقلقه العاصف، فوجه مريم ينتظر أن يشرق على النهر ليشربه الناس، فهذا الأمل في المثال الكريم هو الحكاية الأخيرة حيث تنبت الأرض الشمس رغم انه لم ير أبدا هذا الوجه الجديد ليظل دائما ذاك التناقض وتلك المقابلة.  

علامات الترقيم ثروة للقاص يجب الإنفاق منها بحكمة، كما تعلي قيمة "الإتقان" في مجموعة القصص.

واعتمرت القصص بشروح قضايا الوطن الخانقة من خلال التضفير بين المعاناة الخاصة ومعاناة الوطن جميعه (الوصال بين الذاتية والموضوعية)، فقدم القاص في بانوراما مركزة أزمات الوطن العروبي الخانقة ليكون الملمح الأساسي في القصص، وكأن العلاقة وطيدة بين المعاناة الخاصة والهموم العامة، كأن الأولى الطريق للثانية أو العكس، أو هما معا نسيج واحد يشرح ويفسر حجم الألم ونسيج الموت الذي يلف الوطن والمواطن في آن واحد. 
ولو استخدمنا إحصائية لتلك المشكلات والأزمات لوجدناها "كثر"، في المقدمة منها قضية القضايا "فلسطين"، و"العراق"، وقصة (شريط أحمر صغير)، قصة مزجت الخاص (التصحر العاطفي في الأسرة وبواعثه ومظاهره)، بالهم العام (قضايا الوطن العروبي) ببراعة، مع إضفاء ملمح سخرية لا تغيب عن فطنة القارئ، تبدأ بالزوج الذي يشاهد مادة متلفزة لمغنية شابة ترتدي ملابس غير لائقة (مبدياً تأففه – بالطبع – من هذه الإباحية كلما مرت زوجته من أمامه)، وتصل السخرية مداها، عندما قطع نشوته بمشاهدة إعلان توقيت الصلاة والأذان وملحقاته من الحديث الشريف والدعاء، يقول: (أحس بثقل الوقت وأنه كان يكفي حديث شريف فقط وليس هناك حاجة للدعاء ... أيضاً كان لا بد من اختيار شيخ يؤذن بسرعة)، ثم جاءت الأخبار المهمة بهزائم منوعة في جميع المجالات، فضاق صدره ولحق بزوجته التي تغسل السجاجيد في الحمام حاملاً لها السجادة الأخيرة، وسر العنوان أن هناك لمحة فنتازية في سرد القصة عندما ضايقه شريط الأخبار الأحمر بما يحمله من أخبار تنغص عليه وعيه المنتشي المخدر، فأحضر شريطا لاصقا بحجم شريط الأخبار وقام بلصقه على الشاشة. 
وفي قصة "هدية العام الجديد" نجد الهزائم الخاصة بالسقوط في فلك المخدرات والتحلل الأخلاقي والرسوب العلمي، طريقاً إلي سقوط بغداد (9/4/2003)، وكأنها بصيرة الأديب وفكرة الأدب القائمة علي الانتخاب من الواقع والتشكيل الجمالي لاكتشاف علاقات جديدة مدهشة بين تفاصيل الواقع.
    وبرزت الناحية الفكرية بأساليب فنية فنجد "تسليع" الإنسانية، في إطار أزمة الهوية الحضارية والزحام، والبحث عن معجزة لانتشال الوطن الهاوي في مآسي مذهلة (اعدموا كل عيدان القطن في بلدي)، والإنشغال بالعولمة الجانحة والاستلاب الحضاري ومسخ هوية الوطن من خلال استخدام تلك المفردات (البتزا / المشروبات الغازية / ... إلى آخره)، وأجزم ان للقصص معجما قصصيا مثلما للشعر معجمه الشعري، حيث تقارب القصة القصيرة بنمطها هذا تخوم الشعر وتغترف من ينبوعه الشهي. 
وتتعدد الأزمات (أزمة الجدب العاطفي والحاجة إلى الحب / أزمة الاغتراب القاسي خلف النفط  /  الأزمات الاجتماعية  /  أزمة الواقع والمثال والحلم والموت / وقمة المأساة في "الأمل المصلوب") فقضايا الوطن بهذا تلون وتسكن تفاصيل القصص. 
كما يحمل المعجم القصصي مفردات لها دوالها الفنية (اللون الأزرق / الأزهار / الموت / المطر)، لذلك تحتمل أكثر من قراءة تأويلية، فالحبيبة (أجمل زهور الأرض)، ووجه مريم المعادل الموضوعي للوطن المعذب، والخيول غير العربية يماثل ذاك النهر العاقر والمتوازي مع اللون والمطر الأزرق، ونجد أيضا هذا الاستخدام الموازي للموت ليعبر عن الواقع المؤسف، فالجنود أو المساجين جثث ملقاة فقدت الحياة. 
كما نجد تضفير الحدث القصصي باستدعاء الرمز التراثي، وتوظيفه توظيفاً فنياً بحيث أصبح هنا الرمز من لوازم البناء الفني في القصص، وقد استعان القاص بعدد كبير من تلك الاستدلالات من الشخصيات التاريخية مع مقابلتها بعناصر في واقعنا المعاصر ليبرز قضية المثال والحلم في مقابلة الألم والهزيمة وأزمات الوطن المعذب: (شجرة الدر هل تشبه مريم (وجه الوطن)؟ / أقطاي / هارون الرشيد / "سراقة" والكرة السحرية في مقابلة الريموت كنترول وشاشة التلفاز / أبرهة وأفراد الحرس بنظاراتهم السوداء / الخليل بن أحمد والسلم الناقص درجة والذي ترقص عليه مونيكا / .... إلى آخره). 
بقي ان نذكر أنه رغم الجو القاتم والمأساوي السائد لشرح آلام أوطان العروبة يظل كما ألقي القاص الضوء في نافذة النص الهائلة والمضيئة (اجعل من قلبي ضمادة)، ويبدو أنه المخرج الوحيد.