حكاية متمردة لهويات مقموعة في 'البكاء بين يدي عزرائيل'

الروائي الأردني حسام الرشيد في روايته الجديد يثبت انه كاتب متميز عن جدارة في رسم ما يشغل الشاب المثقف العربي من حيرة في عالم قاسي، ونكتشف ذلك من خلال سبر أغوار عوالم الذات والواقع الموضوعي، وقلق اليومي من جهة أخرى.

عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، صدرت رواية "لبكاء بين يدي عزرائيل" للروائي الأردني حسام الرشيد، وتقع الرواية في 188 صفحة من القطع المتوسط، البطل وهو السارد يحكي في روايته التي قسمها إلى ست محاولات، تلك السلسلة المتتالية من الفشل والخيبة..

أن رواية "البكاء بين يدي عزرائيل " للروائي حسام الرشيد هي من الروايات التي تنطوي على رؤية فنية وفكرية تنتمي إلى رواية السير الذاتية،  تتميز في كونها تمزج السيرة الذاتية بفن الرواية. وبذلك يمكن الاستنتاج أن رواية السيرة الذاتية تقدم تداخلا بنيويا محكم بإحكام تكون من معطيات التجربة الذاتية من أحداث مر به البطل وشخصيات مقهورة ساهمت في بناء الحكي وعلى وفق ما تنهض من استثمار الطاقة الخيالية في الامتداد إلى أحداث وشخصيات يبتكرها الكاتب لمنح الرواية سمة إبداعية تتجاوز سقف التجربة الذاتية.

فالرواية تتضمن عدة مستويات فنية وفكرية وتتميز بتعدد وثراء الشخصيات، تلك الشخصيات التي تمنح الرواية حيويتها بما تقدمه من حركة فاعلة تتبلور من خلال المواقف اليومية الدرامية التي تسهم فيها، وكذلك تتميز بالتقنية السردية المحكمة التي حافظت بدقة على أسلوب السرد الذاتي للبطل الراوي فقد أثارت الرواية حزمة من القضايا المهمة مثل قضية شاب من مدينة جرش الأثرية حاصل على بكالوريوس حقوق ويمثل نموذجا من مئات النماذج للشباب الذين يعانون من البطالة..

العنوان:

يشخص العنوان في العمل الأدبي بوصفه دالة مركزية تتفاعل عضوياً مع أحداث الرواية ومع ما يمكن أن توحي به من دلالات تسهم في تشكيل الرؤيا الكلية السائدة فيها.

إن العنوان - أول شيفرة رمزية يلتقي بها القارئ فهو أول ما يشد انتباهه و ما يجب التركيز عليه و فحصه وتحليله بوصفه نصا ً أوليا ً يشير أو يخبر أو يوحي بما سيأتي ..." ولكننا نرى أن العنوان يدخل مع متن النص في لعبة فنية أكبر هي تبادل التأثير والتأثر. فنجد أن هناك حمولات دلالية تنبثق من العنوان نفسه فتشع على متن الرواية برمته فتضيئه، ولكنها في الوقت نفسه تستضيء بهذا المتن في تفاعل عضوي خلاق تنهض عملية القراءة –هي استعارة عن ثنائية الموت/الحياة, وما بينهما وتداعيات ذلك نفسيا على تكوين الشخصيات المازومة ..

اما المتن اقول تم كتابة الاحداث كما عاشها الراوي البطل (بدون اسم)، وتفاعلها مع قضية "الكرامة المهدورة "وكأنه يتحدث مع قارئه و التي يمكن استقراؤها من سيرورة العمل الروائي برمته، التي نجد إشارات لها في فصول الرواية. وهذه القضية قد جعلت سمة الميتاسرد مهيمنة..

اقتباس:

(وأغدو تحت وطأة روتين يومي، بطعم السم يسري في شرايين حياتي، على مصاطب السواد أرى أحلامي في وديان سحيقة" ص24

يبدو أنّ رواية الاستغراق الذهني بدأتْ تتعامل مع الأحداث سرديا بشكل مغاير حيث مغادرة منطقة استرجاع الذكرى المباشرة إلى منطقة تصنيعها من جديد على وفق تحولات الرؤية المعرفيّة للنص المعاصر، وهنا اصبح السّردُ يتموضع في إعادة صوغ الواقع نظرا إلى متغيرات العصر بوعي مضاعف، محاولةً الخروج عن المألوف. ورد وتسجيل حيوات "الهامش"ومن خلال رصد ( المقموعين).

وهناك إشارات من الاسطورة يسقطها الكاتب على الواقع شخصية كلكامش مثلا :

اقتباس:

(كما انتهت رحلة جلجامش الملحمة بالفشل، بعد أن أكلت الأفعى عشبة الخلود، انتهت رحلة جلجامش السارد بالفشل بعد أن تم إنهاء خدماته في مكتب الصحيفة، لكن مأساة السارد كانت أكبر بكثير من مأساة جلجامش الملحمة..)

الرّاوي-السارد/الكاتب- يحتل مركز العملية السّردية بوصفه ذاتا يتحقق تبئيرُ النّص من خلالها، ليغدو صوتا يسرد نصا متداخلا أكثر مما يسرد أحداثا متلازمة بحثا عن حبكة ما، وقد توضح ذلك من البناء الفني للرواية، فقد تخلتْ عن إطارها السّردي بشكل منفتح متعدد المراكز المعرفيّة، يسردها كاتبها بضمير المتكلم يصعب مفارقته عن ذات المؤلف؛(توقيع: أحداث هذه الرواية وشخوصها هي من مولدات الخيال الشاطح ,واي تشابه لها مع الواقع ,هو من قبيل الصدفة العمياء)..

اقتباس:

(قرائي الأعزاء...سأخبركم بما حدث معي ,لست أبغي من وراء ذلك جاها ولاسلطانا, ولكن هي محض ذكريات وحسب .لن تحتشد امام أبصاركم .ولن تتوهج القا .حين تفرغوا من قراءة هذه الرواية اجزم انكم ستضعونها جانبا، او ربما سترمونها في سلة المهملات وهذا شانكم وحدكم ولا رقيب ولا حسيب عليكم سوى ضمائركم، ولكني اتوسل اليكم ان تنظروا الي بعين العطف والرحمة ...الخ)

السرد هنا مقدم على هيأة "سرد نرجسي" يحاكي أسلوب النص الاسترجاعي "التاريخي" الشّارح ,حيث عمد الروائي في هذه الرّواية على إدراجه بصورة ومعنى مغايرين ومنفتحين على تداخلات نصيّة "سرد الاسترجاع"، بغية ان لا تتبرأ الرواية من الماضي كونها تعمد إلى إعادة صوغه وافتراضه من جديد، من منطلق أنَّ هذا النمطَ من السرد يبدي عناية فائقة ب "ارخنة السرد" لإنتاج نوع كتابي مفارق للواقع المباشر - عن حياة المقموعين بفعل الحروب والحاجة الاقتصادية، مما يجعلها نمطا معرفيا معاصرا اعتمده الكاتب لسرد حيوات اجتماعية متنوعة . نجد الواقع مشروطا بالزّيف والافتراء، فالرواية مهمتها ان تنتج عالما يصطنعَ الروائي ذاكرةً لحكايته؟

نادية، ورهف، وماجد، وتوفيق زهران، ومجاهد يوسف. وأسامة-وحمدة المتعلقة تعلقا شديدا بنشرات الأخبار منذ غادرت فلسطين عام 1948 والمحامي كميل، تلك الشّخصيات حالها في الرواية – تكون غير مؤهلين لتصميم ذواتهم أو تصنيعها في الزمان، كون التأريخ ليس له معنى في إنتاج مستقبل معروف لديهم. أي ثمة تشكيك واضح أزاء "كتابة التاريخ" ؛و بسبب الخرق الواعي للتأريخ الذي قصده النّص من خلال أمور عديدة أهمها، إنتاج سردية نرجسية تبيح لـ"أنا" المؤلف/ الاختباء خلف كواليس الذات السّاردة (الرّاوي) بأسلوب "شخصي"، والعمل على توليد تداخل مربك بين الواقعي والمتخيل عن طريق اصطناع بنية واقعية مختلقة سرديا.

الرواية "ذاكرة ذاتية" ذات طابع سايكولوجي, ثقافي، تعمل معا على تكوين كتابي مغاير للمألوف من يقينيات ومفاهيم ومعارف، يتمثل بنمط "ذاكرة مؤلفة" حيث الانتقال من ذكرى إلى أخرى عن طريق التداعي..

وهنا ايضا نجد ان حوادث تاريخية اراد الكاتب ان يجعلها خلفية للحكي , اقول تحتل الذّاكرةُ السياسية مركزا مهما في ميكانزمات الوعي السّردي للكاتب كونها المنجم الذي تُصنَع منه الحكايات الجديدة، بحثا عن عوالم تنمُّ عن خزين تاريخي هي استعادة الصلات بين ما كان وما يمكن أنْ يكون، حيث الرّاوي/ السّارد يتفانى إعادة صوغه ماضيا وحاضرا ومستقبلا؛ أي صوغ ذاكرة الكتابة جماليا تتجلى منها فرضيات الحكاية.

أن الكاتب يقدم رؤيا تأويلية كاشفة لعالم الرواية، وأن يحافظ على هويته فيبقى في دائرة نقد الأدب ولا ينسى وظيفته الأساسية فيتحول إلى بحث أو دراسة ثقافية أو فكرية تتعامل مع الرواية بعيداً عن وظيفتها الأدبية الجمالية وتحولها إلى محض نص لساني يحتوي على دليل أو أدلة لإثبات قضية ما ليست ذات علاقة بالأدب. ولهذه المسألة تجلياتها المتعددة التي يقع كثير منها خارج الرواية. وينبغي هنا أن نشير إلى أن التعامل مع الرواية بوصفها تعبيراً أدبياً عن تجربة كيانية لا يعني التركيز فقط على الخوض في القضايا النفسية والاجتماعية والفكرية السياسية، وإنما يعني أننا حين نتحدث عن هذه القضايا وسواها إنما نفعل ذلك دون إغفال حقيقة أننا إنما ننطلق من نص أدبي هو الرواية، وأن يجري النظر إلى وظيفة الرواية السيرية بوصفها جنساً أدبياً راسخاً يهدف إلى تقديم رؤيا تتسم بالحيوية والثراء الدلالي والتأمل الجمالي للتجربة الوجودية الإنسانية في أبعادها الذاتية والاجتماعية والتاريخية، وأن ينعكس ذلك في صلب مهمات عملية النقد الحجاجي .

اقتباس:

(صحف قديمة من أيام هزيمة 1967، "...كانت المفاجأة أن الجريدة هي جريدة الأهرام الصادرة بتاريخ العاشر من حزيران من عام 1967 م، على الصفحة الأولى منها، كان خطاب تنحي الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة حزيران الموجعة، ...تناولت بقية الجرائد، كانت صادرة أيام النكسة بعد الهزيمة النكراء" ص 180)

ومن خلال فصول الرواية نجد ان هناك احالات سردية عن تاريخ أحداث العراق في تلك الفترة نجده قد خاض حروبا كثيرة أنهكت جيشه آخرها لغاية ذلك التاريخ حرب الخليج الثانية التي شنتها قوات الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة وبعض الدول العربية من وراء الكواليس ضد العراق لتحرير الكويت.

وهذا المثال ورد في شخصية (مناحي سروان وهو عراقي يعمل مشرفا في مركز تدريب الفنون القتالية للكاراتيه كان ضابطا في الجيش العراقي (الذي انفرط عقده كالمسبحة) وإذا نظرنا إلى التاريخ الذي بدأت به الرواية سنجده العام 1992.

ايضا هناك إشارات مضمرة واخرة صريحة في التدخل الاجنبي في بلداننا العربية وعلى سبيل المثال عملهم على الاثار والتنقيب عنها وغير مسموح بلداننا في التنقيب ..

التدخل السافر الخارجي لليهود حتى في آثار البلد (الاردن)، وهذا واضح.

( السائحون اليهود كعادتهم ادعوا أن هذا الاكتشاف الجديد ربما يبرهن على ان اليهود عاشوا هنا) ونفهم من خلال هذا الحديث بأنها ليست المرة الأولى التي يقدم اليهود على عملية الحفر داخل حرم المدينة الأثرية )

(كان لورنس العرب يجلس وحيدا ...يكتب أعمدة الحكمة السبعة...يقف أمام الخيمة ويرسم على الهواء برأس سبابته الحرب خديعة أيها الرفاق)

ذكر نكبة حزيران ,وأشار الى الضفة الغربية ,و قصة تهريب الأسلحة على ظهور الحمير إلى الثوار في فلسطين..

أقول إن هذه الرواية قد انطوت على كل ما يمكنها من إنجاز وظائفها الفنية والجمالية والفكرية كافة بفعالية ونجاح يضعانها في منزلة القراءة والدراسة لأهميتها الفكرية والفنية، هي قراءة عن محنة الذات في مرحلة تاريخية حافلة بالاضطراب والقلق واليأس.

اقتباس:

(في نهاية الشارع انعطفت غربا نحو الرصيف الآخر، وكنت ما أزال أضحك بلا توقف، لم أنتبه إلا وثمة مركبة مسرعة، كانت تتجه نحوي كقذيفة، في تلك اللحظة رأيت أمي وأخوي الصغيران، أبي، المنسي، الحاجة حمدة، رياضا وجميلا، مناحي سروان، نادية وأختها قتيبة، وهم يلحون لي مودعين، فلوحت لهم مودعا، والدمع يجري من عيني... الجرائد التي ما أزال أتأبطها، تغطي جثتي الغارقة بالدماء" ص181)..

الخاتمة:

يتبين لنا، مما سبق ذكره، أن الروائي، في روايته "البكاء بين يدي عزرائيل" كاتب متميز عن جدارة في رسم ما يشغل الشاب المثقف العربي من حيرة في عالم قاسي، ونكتشف ذلك من خلال سبر أغوار عوالم الذات والواقع الموضوعي، وقلق اليومي من جهة أخرى.

وقد تمرد الكاتب على واقعه المر، ورفض الصمت امام ما يجري, وقد بلغت جرأة الكاتب مبلغها حين سخرَ قلمه ليكون مبضعا في كشف قبيحات الواقع المر لقارئه بكل صدق وامانة ..

والروائي حسام الرشيد، له العديد من الإصدارات في حقول الرواية والقصة والشعر، وحازت أعماله على العديد من الدراسات النقدية.

وتشمل أعماله القصصية: "رأس كلب" و"وليمة الجاحظ" و"ذبابة على أنف هولاكو" و"جنازة المومياء". ورواياته: "الملائكة لا تمشي على الأرض" و"طريد الرحم" و"التميمة السوداء" وديوانه "القمر في الدورق" ومقالاته الساخرة، "الصعاليك الجدد"، تصدر للأديب حسام الرشيد رواية جديدة بعنوان طريف، ومثير للاشتباه، وهو "البكاء بين يدي عزرائيل".