حكومات المنطقة كانت تتشكل في العراق

الإخطبوط الإيراني يلتف على كل مفاصل الدولة العراقية.

منذ السبعينات، وحتى الى نهاية الثمانيات، كانت أغلب حكومات المنطقة تتشكل في العراق، على عكس ما يجري اليوم من أن حكومات العراق تتشكل في إيران، وبتوافق مع دول المنطقة!

مفارقة،، قد تبدو غريبة للأجيال الحالية،، بالتأكيد، وقد لا يعرفها الكثيرون، الا أن الحقيقة الساطعة يوم كان للعراق دور محوري في قيادة المنطقة، أنه كان يسهم إيجابيا وعلى الدوام في تشكيل أغلب حكومات المنطقة، وبخاصة الدول العربية التي كانت تنظر الى العراق على أنه قبلتها، وهو يحظى بتقدير تلك الدول وشعوبها، وهو من تلجأ اليه دول المنطقة، لمساعدتها على ان يكون له دور إيجابي وليس سلبيا، في ان تجتمع أطراف كثيرة من وفود دول المنطقة في بغداد وبمباركة زعمائه، أو تطلب قدوم وفود منها الى عواصمها، ويجري تشكيل تلك الحكومات ويذهب مندوبوها وقواهم السياسية، وهم بمستويات رفيعة، وعلى وجوههم علامات الرضا والاطمئنان على صحة إختياراتهم، وقدرتهم على النجاح في مهامهم ضمن بلدانهم!

لم تكن حكومات العراق تتشكل خارجه منذ الأربعينات، الا في فترات ما بعد عام 2003 وحتى الان، يوم سلطت علينا الأقدار من ليس لديهم حرص على بلدهم ولا على سمعته، ولا يحترمون أقداره، ومن ارتضوا أن يكونوا عملاء للآخرين وعبيدا لهم، ينفذون أجندة خارجية واقليمية، لا تريد لبلدهم سوى أن يبقى على هذه الشاكلة من ضياع أقداره ومكانته، وهو الآن، مكبل الأيدي، ولا يمتلك أي قدر من الارادة ولو في أبسط أشكالها، وترتهن إرادته بإيران، وهي من تفرض عليه رؤساء حكوماته ورؤساء جمهوريته ورؤساء البرلمان، وحتى تشكيل الوزارات العراقية وكيف توزع حصصها. وربما يصل فرض الإرادات من تلك الجهات الى حد تعيين رئيس القسم في كثير من دوائر الدولة، هذا إن وجدت معالم لدولة وفقا لمقاييس الدول. أما الوزارات فتحولت الى مرتع لهذا الحزب الفلاني او ذاك، أو هذه الجهة السياسية أو تلك، وكأنها إقطاعية لها، ليس بمقدور الوزير ان يؤثر عليها، إن لم يكن ينفذ أوامرها عن طيب خاطر وبلا مناقشة، بل أنه حتى من يتم تنصيبه رئيسا للوزراء في الوزارات السابقة والحالية ومن يأتي لاحقا، ليس لديه أية مسؤوليات سوى المحافظة على مايؤتمر به من الخارج..وما يصدره من أومر وقرارات هي بوحي منها، وليس تقديرا منه او رغبة في إقامة كيان لدولة كما يتمناها العراقيون!

أجل، منذ الأربعينات،، كان قادة البلد هم من يشكلون حكومات بلدهم، وهي من تحدد مراكز القيادة والقرار، وتشرك كل أطياف شعبها في حكم بلادها، وليس لأي من دول المنطقة ولو برمشة عين، أن يكون لها أي نوع من التدخل في شؤونه الداخلية او تنصيب الزعامات والحكومات العراقية منذ العهد المالكي حتى عام 2003 يوم أفل نجم بغداد، وسلمت أقدارها للأغراب والطامعين بل والحاقدين على العراق وتاريخه ومن يضمرون له الشر والبغضاء.

وأود أن أسرد بعض الأمثلة الواقعية على حقيقة دور العراق الإيجابي في تشكيل حكومات المنطقة في سنوات السبعينات والثمانينات..فقد كانت بعض وفود دول الخليج تتقاطر على بغداد منذ عقود من الزمان، لكي تسهم معهم بغداد في إختيار من يرون أنه الأصلح لحكم بلادهم، وقد لا تتدخل بغداد الا من باب رعاية من يأتون اليها من أطراف سياسية، وبطلب من تلك الدول لكي تعينها بغداد في إختياراتها، وكانت قطر والامارات والبحرين وحتى الكويت، وكذلك اليمن والسودان وموريتانيا وجيبوتي وبعض دول المغرب العربي، وأحيانا يكون حتى للقاهرة وللاردن مشورة مع بغداد مع من تراهما مناسبا، لأن يكون طرفا في توسيع نطاق التعاون مع العراق، ولدى هذا البلد صلات وطيدة مع قيادات مصر ومع دول الخليج والسعودية وعمان واليمن والسودان وارتيريا وجيبوتي، ومع دول كثيرة ضمن المنطقة، وتكون بغداد لها إسهامة إيجابية، ليس بفرض الشخصيات التي يتم اختيارها، ولكنها كانت تسهم مع أشقائها ممن يطلبون معونتها في أن تضع أمامهم بعضا مما تراه يدخل في صناعة تلك الحكومات وتوزيعها وبخاصة للشخصيات القيادية من السلطات العليا، وتذهب تلك الوفود الرفيعة المستوى وهي مطمئنة من حسن اختياراتها، وتنظر الى بغداد وزعمائها بالعين الكبيرة والأخ الكبير الذي يرفد أشقائه، بمن يسهم في استقرارهم وأمنهم، ويهون عليهم عندما يواجهون الصعوبات، لأن بغداد ما بخلت يوما على عربي وعلى دول المنطقة، لمن يطلب نجدتها او يعزز من أواصر دول المنطقة وشعوبها ومكانتها بوجه التكتلات الأجنبية، الا وكانت بغداد حاضرة، ولها دالة على الكثيرين، وإسهامة تحظى بتقدير وإحترام دول المنطقة، لما تحظى به من مكانة وسمو رفعة.

كما أن علاقات العراق مع كثير من الدول الكبرى وبخاصة روسيا والصين وفرنسا ودول أوروبا الشرقية والغربية آنذاك كانت تربطه بها علاقات تعاون كبيرة وضخمة في كثير من أوجه ومجالات التعاون الاقتصادي والتجاري وحتى العسكري، لكن كارثة دخول العراق الى الكويت، غير المبررة، كانت أكثر المآسي والكوارث التي قصمت ظهر العراق، وأوصلته الى الحالة التي لايحسد عليها!!

هذا هو العراق بين زمنين.. بل بين قدرين. ونترك لمن يمتلك، ضميرا حيا، أن يقارن بين أقدار العراق، بين ما كان عليه، وما هو عليه الآن. إن ما ذكرناه هو مجرد شواهد رفعة وسمو ومكانة للعراق، كانت كثير من دول المنطقة تحسده على مكانته ودوره المحوري الفاعل والمؤثر، واذا بالأقدار تهوي به الى مالا يرتضيه لها شعب العراق ولا شعوب المنطقة، التي وجدت في إنحدار العراق أن ريحها قد ذهب جميعا، ولم يعد بمقدورهم هم أيضا أن يرفعوا رؤوسهم، بما يكفي لصنع مستقبل شعوبهم، ولو حافظ العراق على تلك المكانة ولم تشطح به الأقدار، بالطريقة التراجيدية التي تعرض لها هذا البلد العريق، لما كانت أوضاع العراق على تلك الشاكلة المهينة، وقد ضيع المكانة ليس على نفسه فقط، بل حتى على شعوب المنطقة وبخاصة العربية منها، التي أضاعت فرصا كثيرة في مواجهة الإخطبوط الإيراني وحتى الأميركي والإسرائيلي، لكي يتغلغل سرطانها في المنطقة، وأضاع عليها فرصة أن يكون لها دور ومكانة في مواجهة أولئك الأشرار، لكنها الأقدار تفعل ما تشاء!