حمود العودي يتتبع 'التاريخ الاجتماعي للتغيير الثوري والتنمية المشوهة' في اليمن

أستاذ علم الاجتماع يتناول بتركيز وتفصيل كاف كلاًّ من الطبقات الطفيلية والأرستقراطيات الإقطاعية والقبلية القديمة من جهة والبرجوازيات الطفيلية والكمبرادورية الوسيطة من جهة أخرى في البلدان النامية، ويوضح مجمل المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حياة هذه الطبقات وما انتهت إليه في الوقت الحاضر من وضعية مرضية وشديد الانحراف عن مجريات التطور التاريخي السليم وقوانين الحياة الاقتصادية والاجتماعية الطبيعية.

وبعد ما يقرب من أربعين عامًا من تقديم أستاذ علم الاجتماع  اليمني د.حمود العودي  لدراسته  "التاريخ الاجتماعي للتغيير الثوري والتنمية المشوهة.. اليمن والبلدان النامية" إلى قسم الاجتماع بكلية الآداب جامعة القاهرة وحصوله بها على درجة الدكتوراه وبعد محاولات سنين طويلة لنشرها دون جدوى حتى في عام 2004م عام صنعاء عاصمة الثقافة العربية الذي استوعب الكثير من الغث قبل السمين وغير المفيد قبل المفيد إلا هذا الدراسة التي لم تجد لها مكانا حتى فيما لا فائدة منه في نظر القائمين على ثقافة ذلك العام، واليوم جاءت الفرصة الفعلية لنشرها حيث صدرت أخيرا بالتعاون بين مركز "دال للدراسات والاستشارات العلمية ومؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر.

بداية كشف العودي "هذه الدراسة هي تاريخ نعم، ولكن ليس تاريخ السلطان من الأحداث والوقائع المزيفة أو المنقطعة عن الحاضر والمستقبل بقدر ما هي تاريخ الإنسان الشعب، التاريخ الاجتماعي للمتغيرات السياسية والاجتماعية الثورية في مواجهة المتحجرات الرجعية والهيمنات الاستعمارية الإمبريالية في اليمن والوطن العربي والعالم الثالث والنامي وأبطاله على مدى القرن المنصرم وحتى الآن، بدءا من عبد القادر الجزائري وعمر المختار، مرورًا بمصر عبد الناصر وجزائر بن بلا وبو مدين وانتهاءً بيمن عبد الفتاح إسماعيل وجار الله عمر وحتى "مانديلا" إفريقيا و"جيفارا" العالم، فهذا هو تاريخنا السياسي والاجتماعي الإنساني الثوري المعاصر، والذي يمكن استرجاع ذاكرة ما قبله من بدر  رسول ورحمة البشرية إلى قادسية معد ابن يكرب وعمورية المعتصم وحتى حطين صلاح الدين ومرج دابق السلطان قطز في مقابل أرشيفهم اللاإنساني من صلب السيد المسيح وحرق المغول والتتار لبغداد ودمشق وبغداد المغول والتتار مرورًا نحاكم تفتيش القرون الوسطى والحروب الصليبية، وحتى وإبادة شعوب الهنود الحمر، وصولاً إلى شن الحروب الإقليمية والعالمية من أجل الهيمنة الاستعمارية والعنصرية، وصولاً إلى مذابح دير ياسين والبوسنا والهرسك وحتى صبرا وشاتيلا.

وأكد "هذا إذن هو التاريخ الاجتماعي للتغيير الثوري في مواجهة التحجر والتخلف الرجعي والهيمنة الإمبريالية والتنمية المشوهة في الماضي من أجل صنع الحاضر والمستقبل الجديد، والذي يتوجب على جيل الربيع العربي فهمه والتسلح به كرؤية ضرورية إلى الخلف وما تحت القدم، من أجل اكتساب قوة الدفع الصائب إلى الأمام، وحتى لا يخطئ الهدف مرة أخرى. (ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وإشعال شمعة خير من لعن الظلام. إن هذا العمل العلمي لم يعد مجرد رؤية اجتماعية نقدية وتحليلة للواقع الاجتماعي والاقتصادي لمتغيرات الثلاث عقود الأخيرة من القرن الماضي ولامجرد تأريخ اجتماعي له بقدر ماقد صار بعد تصحيحة وتحديثة رؤية اجتماعية نقدية وتحليلية للماضي والحاضر واستشراف المستقبل بدءًا بالتاريخ  الاجتماعي للتغير الثوري والتنمية المشوهة في الماضي وحتى الحاضر المزري وصولًا إلى الأفادة من كل ذلك فنلتمس الطريق السوى نحو المستقبل ودونما إخلال بجوهر النص الأصلي للرسالة العلمية.

الدراسة التي يبلغ عدد صفحاتها 594 صفحة جاءت في أربعة أقسام تضمنت 11 فصلا، ناقشت أنماط وسياسات التحديث والتطور الاقتصادي وعلاقتها بالواقع الثقافي الاجتماعي، والتكوين الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع اليمني ومتغيراته المختلفة، وقدمت رؤية للنماذج التطبيقية لمتغيرات التحديث المعاصر في الواقع الاجتماعي الثقافي للمجتمع اليمني (الإدارة المحلية، العمل التعاوني، التعليم)، وكذلك الأبعاد العامة لعمليات التحديث والتنمية الجارية وعلاقتها بالبنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع اليمني.

تناول العودي بتركيز وتفصيل كاف كلاًّ من الطبقات الطفيلية والأرستقراطيات الإقطاعية والقبلية القديمة من جهة والبرجوازيات الطفيلية والكمبرادورية الوسيطة من جهة أخرى في البلدان النامية، وأوضح مجمل المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على حياة هذه الطبقات وما انتهت إليه في الوقت الحاضر من وضعية مرضية وشديد التشوه والانحراف عن مجريات التطور التاريخي السليم وقوانين الحياة الاقتصادية والاجتماعية الطبيعية وهي ما تزال رغم ذلك تفرض بوضعيتها هذه وجودها من خلال امتلاك السلطة في كثير من الأقطار كإطار سياسي لا غنى لها عنه وتقدم نفسها من خلال وقائع الحياة اليومية العامة ومتغيراتها الاقتصادية والاجتماعية المشوهة كنموذج أمثل ووحيد للتنمية والتغيير نحو الأفضل.

ورأى أن القاعدة العامة والأكثر شيوعًا التي ما تزال تحدد طبيعة العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلدان النامية هي علاقات المجتمع التقليدي الأكثر ميلاً إلى المحافظة بالمعنى السياسي على الأقل، وذلك في ضوء ما تعانيه علاقات وتطلعات المجتمع الجديد ذات الصبغة الوطنية والقومية أو البرجوازية الناشئة في أحسن الأحوال من مصاعب جمة وتعثرات وعوائق بسبب تخلف القاعدة المادية والاقتصادية لوسائل الإنتاج في هذه المجتمعات، حيث يمثل استمرار تخلف هذه القاعدة المادية لقوى وأدوات الإنتاج الشرط التاريخي والجدلي لاستمرار تخلف علاقات الإنتاج التي تعني في الأساس استمرار علاقات المجتمع القديم وتخلف وتعثر ازدهار علاقات المجتمع الجديد ذات الملامح التقدمية والعقلانية الديناميكية المتحركة ببعديها في النظام الرأسمالي أو الاشتراكي، في مقابل علاقات المجتمع التقليدي القديم ذات الملامح الإقطاعية اللاعقلانية والأكثر ميلاً إلى الثبات والمحافظة، باعتبار أن التخلف - كما يقول د.السيد الحسيني - هو نتيجة لسيادة نمط إنتاج متخلف ينتج عنه تكوين اجتماعي متخلف.غير أن الأمور لا تبدو بهذه الدرجة من المنطقية النظرية البحتة التي قد يفهم منها سيادة علاقات اجتماعية تقليدية صرفة في مقابل انعدام تام لأي مظهر أو بوادر لعلاقات اجتماعية جديدة في هذه المجتمعات فالعلاقات الجديدة بكل دلالاتها وأبعادها قد صارت بدورها وملامحها واضحة في حياة هذه المجتمعات بكل تأكيد إلى جانب العلاقات القديمة في أشكال متوازية أو متداخلة معها، والمسألة هنا هي مسألة نسبية لا أكثر، يحتل فيها النمط التقليدي المحافظ لنمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج الصفة الغالبة عمومًا والمسيطرة حتى الآن، وإن كان كلا الطرفين يعاني من حالة تشوه عميق.

وأكد العودي أن أي مجتمع لابد وأن يتضمن بجانب طبقاته الرئيسية نماذج لطبقات فرعية قديمة أو جديدة، كنموذج قديم لبقايا الإقطاع في مجتمع رأسمالي أو اشتراكي، أو نماذج جديدة لطبقات البرجوازية والعمال في مجتمع إقطاعي، كما يتضمن كذلك فئات طبقية هامشية للطبقات الرئيسية السائدة كالمثقفين والمحاميين والأطباء والمهندسين، وهو الأمر الذي قد يعترض عليه بعض الماركسيين المتزمتين ممن لا يعرفون سوى انقسام المجتمع إلى طبقتين متصارعتين، الأمر الذي لا يتفق حقيقة والفهم الماركسي العلمي الصحيح للطبقات والذي يؤكد وجود طبقات فرعية بجانب الطبقات الرئيسية في كل الأحوال، فغير صحيح - كما يقول د.محمد الجوهري - ما يذهب إليه بعض الماركسيين من أن الماركسية لا تعرف سوى تقسيم المجتمع إلى طبقتين متصارعتين، إذ نجد من أمثلة ذلك تلك الطبقات الفرعية من ملاك الأرض والفلاحين في ظل المجتمع الرأسمالي، ويضيف الجوهري قائلاً: إن تلك الطبقات الفرعية بصفة عامة تمثل إما رواسب طبقات رئيسية عفى عليها الزمن أو خمائر لطبقات رئيسية جديدة سوف تتضح ملامحها وشخصيتها في المستقبل.

وقال العودي "إذا صح التعبير "بأن فاقد الشيء لا يعطيه"، فإن المثقفين السياسيين اليمنيين في سنوات الثورة الأولى في الشمال والجنوب ورغم وجود أكثريتهم في السلطة في الشمال وامتلاكهم لها في الجنوب لم يكونوا مجرد أناس يفتقرون إلى الرؤية الحسنة والقدرة على العطاء الوطني والتقدمي الصحيح كطليعة ثورية لنضال طبقي عمالي وفلاحي وشعبي فحسب، بل لقد كان البعض بحكم طبيعة تكونيهم "الانتقائي" وروابطهم المصطنعة وثقافتهم وفكرهم القومي المشتت والغامض يقاومون بشراسة وبوعي منهم أو بدونه، إجراء التحولات الثورية الجذرية في المجتمع ونشر وتطبيق الأفكار العلمية الصحيحة في حل المسألة الاجتماعية اعتقادًا منهم بأن المسألة القومية التي حلت الصراع مع السلطة الإمامية في الشمال والاستعمارية في الجنوب هي الكفيلة وحدها بحل المسألة الاجتماعية المتعلقة بصراع المصالح الطبقية بالمشاعر والعواطف القومية مقابل البعض الآخر الذي نهب في الشطط والتطرف اليساري المتهور إلى حد القطيعة مع الواقع. ولأن ذلك هو ما كان يحدث بالفعل فإن الأحداث قد سارت في نفس هذا الاتجاه تمامًا، اتجاه استعادة الطبقة الإقطاعية لوحدتها ومصالحها السياسية والاقتصادية من جهة، وإفساح مكان مناسب للبرجوازية الكمبرادورية الجديدة التي فرضت نفسها كحقيقة اجتماعية واقتصادية من جهة ثانية، وبدعم ومساعدة كل القوى الإمبريالية والاحتكارات العالمية، والعمل على وضع حد شبه نهائي لتصرفات ومشاغبات هؤلاء المثقفين "الأشقياء" وحماقاتهم الطفولية.

أوضح أن انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م كان نقطة الارتكاز الحرجة التي لم تحسم الطبقات الإقطاعية القديمة والكمبرادورية الجديدة من خلالها الموقف لصالحها فحسب، بل وكشفت عن مدى الحجم الحقيقي المتواضع لقدرة الأفكار القومية بصفة عامة على حل المسألة الاجتماعية وحجم وفئة المثقفين المتحمسين لذلك بصفة خاصة، وعجز هذه الأفكار عن حل القضايا الاجتماعية ومسألة الصراع الطبقي داخل المجتمع الواحد، وكيف تحولت هالتها وجبروتها العظيم في أقل من عشر سنوات ما بين أوائل الخمسينات ومنتصف الستينات من هدير عال وأفعال تهد الجبال الراسية إلى مجرد شقاوة رعناء صار يسخر منها اليوم أكثر الناس تعصبًا لها بالأمس، ليس بالنسبة للمجتمع اليمني فحسب بل كذلك بالنسبة للمنطقة العربية بصفة عامة، لأن الكل كان قد فهم جيدًا عظمة وأهمية المسألة القومية ودورها في مواجهة العدوان والغزو الخارجي من جهة والطغيان والاستبداد الداخلي المطلق من جهة ثانية لكنهم قد جهلوا عدم صلاحية الفكر القومي في حل المسائل الاجتماعية في التغيير الوطني الديمقراطي وإدارة المصالح المتناقضة في المجتمع على أسس سليمة وديمقراطية متطورة.  وهنا بدأ المثقفون اليمنيون كغيرهم من مثقفي الوطن العربي والبلدان النامية يكتشفون قصة اغترابهم الحقيقة ويصدمون بهول الحقيقة الواقعية وتسحقهم مرارتها بعد أن بدأت تكشف في عقد السبعينات وأواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي عن القيمة الحقيقة لأفكارهم وتطلعاتهم القومية السابقة من جهة وطبيعة إمكانياتهم وحدود دورهم الاجتماعي والطبقي كشريحة معبرة عن مختلف المصالح المتناقضة لكل الطبقات الاجتماعية وخدمتها، وليس طبقة فوق كل الطبقات.

وأضاف العودي أن الأمر المنطقي الذي صار واقعًا اليوم هكذا بالفعل في المجتمع اليمني بالنسبة للمثقفين كمجرد أدوات لخدمة المصالح الطبقية المتناقضة في المجتمع والتعبير عنها، وليس كفئة أو طبقة مستقلة بذاتها فوق كل الطبقات، وصار الكثير منهم يختار موقفه من جديد على هذا الأساس ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، حيث صار البعض منهم يناضل اليوم بحق في صفوف الطبقات العمالية والفلاحية وبفكرها العلمي والتقدمي الصحيح، كما أصبح البعض الآخر يقف بنفس الحزم في صف الجانب المضاد دفاعًا عن مصالح الطبقة الإقطاعية القديمة أو الكمبرادورية الجديدة يديرونها بصدق وينظرون لها ويشاركون في الانتفاع بمزاياها دون أن يمنع ذلك من التنقل من هذا الموقف إلى ذاك والالتحاق بهذا الطرف أو ذاك من وقت وآخر أو عشية وضحاها، ولجوء البعض الآخر إلى حالة الصمت والذهول والتآزم النفسي والاجتماعي بعيدًا عن الأنظار.