حول الفلسفة العملية
الاهتمام بالحقل الفلسفي لم يعدُ قيدَ الانشغالات الأكاديمية ولا يقتصرُ الغرض من هذا النشاط العقلي على إثارة السجالات بشأنِ الأحجية اللغوية والملابسات السُفسطائية.
وأصبحَ الإدراك بضرورة العودة إلى الجانب العملي في المجال الفلسفي واضحاً في مساعي عدد من المفكرين المعاصرين كما أنَّ رصد التقاطعات بين حياة الفلاسفة ومنجزهم المعرفي من مقومات الروايات المستمدة مادتها من سيرة الأعلام الفلسفية كما تجدُ ذلك في أعمال الكاتب الأميركي "إرفين د.يالوم".
إذ يتناول في ثلاثيته عن سبينوزا ونيتشه وشوبنهاور المبادئ الأساسية في مشاريع هؤلاء رابطاً ذلك بتحولات في مسيرتهم الحياتية.
وعلى ذات المنوال يستعيدُ المفكر الفرنسي فريدك لونوار تجربته الشخصية في الاكتشافات الفلسفية ورحلته مع سبينوزا.
كذلك الأمر بالنسبة للكاتبة البريطانية إديث هول التي تحددُ المحطات التي مرتْ بها قبل الوصول إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو وإدراك عالمه والبعد العملي في أفكاره.
إذن ذاب الجليدُ بين الفكر الفلسفي والحياة اليومية ولا يعني التفلسفُ الانكفاء على الفضاءات المحددة والتنسم خارج أوكسجين الشارع.
يعتقدُ الباحث المغربي سعيد ناشيد أنَّ معظم دارسي الفلسفة يعيشون وهمَ امتلاك المعرفة ويطلقُ عليهم ضحايا ثقافة النصوص، ما يعني عدم إدراكهم وظيفة الفلسفة على مستوى الحياة الواقعية.
ومن المعلوم أن التأملَ في الظواهر البشرية انطلاقاً من تجربة الذات نواةُ لتأسيس المنظومات الفلسفية. يرى مونتين أن في كل حياة بقطع النظر عن تواضعها توجدُ أفكار وبإمكان المرء أن يعصرَ أفكاراً عظيمة من تجربته الذاتية أكثر من تلك الأفكار الراقدة بين تضاعف الكتبعليه فإنَّ مراقبة الظواهر الخارجية دون الانقطاع عن الشعور الباطني أو تجاهل الأسئلة التي تجولُ في الذهن يكونُ عاملاً لتوليد الأفكار التي تزيدُ بصيرة بالهموم الوجودية والهواجس النفسية.
لذا فمن الطبيعي أن تحلَ الفسلفة مكان أريكة المُعالج النفسي، فإنَّ مايزيدُ من أهمية الطب النفسي برأي إرفين د.لوم هو تقاربه مع الفلسفة من حيث الآلية فإن الطبيب على غرار الفيلسوف يقومُ بإجراء دراسة معمقة ويشركُ المريضَ في البحث عن الأسباب من خلال صياغة الأسئلة.
ذاب الجليدُ بين الفكر الفلسفي والحياة اليومية ولا يعني التفلسفُ الانكفاء على الفضاءات المحددة والتنسم خارج أوكسجين الشارع.
والحال هذه يتعاظمُ دور الفلسفة العملية في العالم اليوم، فإنَّ الأزمات المتتالية أدت إلى تفاقم الشعور بالاختناق والملل، فبالتالي لم يعد الكلامُ عن أفول الفلسفة عملةً رائجة.
صحيح أن الطين مازاد إلا بِلةً جراء الانسياق وراء دعاة المشاريع الخلاصية والحل الأخير، وهم في الأغلب كانوا متمترسين خلف التيارات الفلسفية لكن ذلك لايعني الوصول إلى الطريق المسدود في التعاطي الفلسفي مع المعاضل الحياتية.
فما دونهُ الفيلسوف الروماني سينيكا في مؤلفه المنشور بعنوان "رسائل من المنفى" يقدمُ وصفة بشأنِ أسلوب معايشة المرء لواقع يعجُ بالاحتمالات المتعددة إذ يهدفُ من خلال فلسفته إلى تطويع النفس مع اللا اكتمالية المتلازمة مع الوجود.
هبة فلسفية
يناقشُ سينيكا في سياق مراسلته مع لوكيليوس جملةً من المواضيع المتشابكة مع واقع الحياة والصفات المتغلغلة في سرائر النفسية البشرية بدءاً من الخوف والأمل مروراً بالرغبة والتقدم في العمر وليس نهايةً بالحظ والقدر.
لكن قبل معرفة مايقولهُ سينيكا حول هذه المعطيات الحياتية فمن الأجدر تحديد منزلة الفلسفة لدى الحكيم الروماني فهو يعترفُ بأنَّه يدينُ بحياته للفلسفة كما أن الحرية الحقيقية هي نابعة من التفلسف لافتاً إلى أن الحياة الجيدة هبة الفلسفة.
فبنظره أنَّ مهمة هذا النشاط لاتكمنُ إلا في تدريب العقول لذلك يرفضُ انتساب التقنيات المستخدمة في الحياة اليومية أو التطور العمراني إلى الفلاسفة كما يذهب إلى ذلك بوسيدونيوس، والأهم على هذا المستوى هو رأي سينيكا عن الفضيلة التي لاتعطيها الطبيعة للإنسان، بل التحول إلى كائن بشري متميز فن يتطلبُ الانهمام على النفس إذن يولدُ الإنسان من أجل الفضيلة، ولايكونُ مفطوراً عليها حسب تأملات سينيكا.
ومن الملاحظ أسبقية الفضيلة على جميع الاهتمامات الأخرى بالنسبة لسينيكا حيث يتساءلُ في الرسالة المعنونة بـ"الدراسات الحرة" عن فائدة المعارف الهندسية والأدبية واللسانية والموسيقية قياساً بمنفعة الفلسفة.
ربما قد لاتوافق على كل ماتضمه هذه الرسالة من إنكار أي دور للمجالات الفنية والأدبية المتنوعة في خدمة الجانب الروحي والذهني لكن مايفهمُ من كلام سينيكا أن الأولوية يجبُ أن تكون للنشاطات التي تفيدُ لتحسين نمط التفكير، وتنظيم حياة المرء والإرشاد إلى مايجب أن يفعله وما يصحُ تركه، وتحقيق الغايات الأربع "الحكمة والشجاعة والتحكم بالنفس والاعتدال".
ويرى سينيكا بأنَّ مانقوله يجبُ أن يكون مفيداً وليس ممتعاً فحسب إذ ينصحُ لوكيليوس بأن يصبح فيلسوفاً عملياً ولا يكتفي بإمتاع مستمعيه بكلمات ذكية بل من الأفضل بالنسبة له أن يتحصنَ روحه ويحضرها ضد أي شيء يهددها.
والناظرُ إلى محتوى رسائل سينيكا سيقعُ على الصور المُستمدة من تربة الحياة المعاشة، والتجربة الشخصية فهو كان يعاني من مرض الربو الذي يصفه الأطباءُ بـ"تمرين الموت" غير أنَّ سينيكا قد وجدَ الراحة في التأملات البهيجة خلال صراعه مع نوبات المرض، ولم يستسلمْ لموجات التوتر الناشبة من ضيق التنفس، وعندما ينتقلُ إلى الحديث عن التقدم في العمر يقارنُ نفسه بتهالك بيته الكائن على حافة مدينة روما.
مشيراً إلى أنَّ هذا البيت قد أظهر له تقدمه بالسن وهذا لايثير لديه الحزن والحنين بقدر ما يحدو به للتأمل في مصادر المتعة لهذه المرحلة مستدعياً صورة من الطبيعة فالفاكهة تكون ألذَّ عندما يتقرب الموسم من الانتهاء كما أن الكأس الأخيرة هي الأمتع عند الشريب المحنك، إذن كل متعة تحتفظُ بأعظم لذاتها لأواخراها.
ويدورُ جزءُ آخر من الرسائل حول المؤثرات الخارجية ومايجبُ تجنبه في حياتنا اليومية إذ يصفُ الانجراف مع الحشود بالمخاطرة لأنَّه يزلزل السلام الداخلي ويحركُ الأشياء التي قد تخلص منها.
طبعاً أن صدى هذه الفكرة موجود لدى باسكال الذي يعتقدُ بأنَّ السبب الوحيد لتعاسة الإنسان هو قلة معرفته كيف يجلسُ في غرفته هادئاً! كما أن المرء لايمكنُ أن ينجزَ شيئاً عظيما برأي هيغل إذا لم يكن مستقلاً عن الرأي العام.
يشار إلى أن صاحب "ظاهريات الروح" في طليعة من أعجبَوا بسينيكا ملمحاً إلى تأثيره الأعمق والأوسع على العقل المعاصر.
لاينصرفُ ذهن الفيلسوف عن مهمة الأمان الروحي ويلفتُ نظر صديقه لوكيليوس بأنَّه قد استأجر فوق حمام عمومي لاتنقطعُ عنه الجلبة والضوضاء غير أنَّ الانهماك على العالم الباطني أكسبه مناعةً، والطمأنينة الوحيدة برأي هذا الفيلسوف مصدرها في النمو الحر للعقل السليم.
صفوة الحكمة
يستمدُ سينيكا مصادر معرفته من نصوص أسلافه لاسيما من فلسفة أبيقور إضافة إلى ماتفيضُ به التجربة الذاتية، ويتصفُ أسلوبُه في تناول المواضيع المتنوعة بالحيوية وتضفي مقتبسات واردة في تلافيف نصوصه بعداً تواصليا إلى فلسفته موضحاً ما بدا معقداً بالنسبة للمُخاطَب.
يوافقُ سينيكا الكاتب الرواقي هيكانو على ترابط بين الأمل والخوف فبرأيه أن توقف عن الأمل يعني أن الخوف لايتسربُ إلى دواخل النفس، والقلق لايفسدُ صفاء التفكير ومايصعدُ من التوتر هو الصراع مع ماتستعيده الذاكرة من الماضي والخوف مما هو في طيات الغيب.
تتمثل الوظيفة الأساسية للفلسفة في تنظيف العلقليات الملوثة بالخوف من الموت، وتتقاطعُ رؤية سينيكا مع أفكار أبيقور حول الموت فحالة مابعد الكينونة لاتختلف عن العدم الذي سبق لحظة الولادة لدى الإثنين.
أكثر من ذلك فإنَّ سينيكا يفردُ مساحة للحديث عن أهمية الصداقة والرغبة الفطرية لإقامة علاقات الصداقة مع الآخرين غير أنَّ كل من تصحبهُ قد لايستحقُ أنْ تضعه في خانة الأصدقاء إذا لم تثقْ به كما تثق بنفسك.
ولاتكمنُ المتعة في الحفاظ على الصداقات القديمة فحسب بل من التواصل مع الأصدقاء الجدد،وذلك لايعني بأنَّ الرجل الحكيم ينفرُ من الوحدة ولايتحملها وفي الواقع هو لاينقصه شيء ولكن يحتاج إلى أشياء كثيرة.
وفي هذا المفصل تقع على عبارة مقتبسة من أبيقور الذي يعتقدُ بأنَّ أي رجل لايرى في مايملكه ماهو أكثر من كافٍ رجلُ غير سعيد حتى لو كان سيد العالم.
ومايقودُ الإنسان حسب فلسفة سينيكا إلى الطمأنينة هو التناغم مع الطبيعة مؤمناً بضرورة تأسيس الحياة وفقاً للطبيعة وليس على شاكلة ماهو سائد لدى الأغلبية.ضف إلى ما أسلف الإشارة إليه أنَّ هذا الفيلسوف يفضلُ أن يكون الإنسان جيداً على أن تتراكم لديه معلومات غزيرة وُيعرَفُ بسعة اطلاعه.
ويرى بأنَّ من الحكمة الاكتفاء بعدد من الكتب التي يمكنُ قراءتها بدلاً من امتلاك ما لايسعُ العمر لمتابعته.
لايفهم سينيكا الفلسفة بوصفها دعوة إلى التزهد بل هي خريطة طريق إلى حياة بسيطة. تنفتحُ رسائل سينيكا على تناول الظواهر الحياتية والسلوكية ولايثقلُ مضمون هذه المدونات بالنبرة الخطابية المعقدة وذلك مايضاعف من قيمتها العملية.
ونحنُ بصدد الحديث عن الفلسفة العملية فمن المناسب أن نشير إلى رأي الباحثة اللبنانية باسكال لحود التي تؤكدُ بأن الفلسفة يتجاذبها منذ العهد الإغريقي مفهومان: مفهوم "عالِم"، نخبوي معرفيًّا وفي بعض الأحيان اجتماعيّا، وآخر شعبي.
وبالطبع فإنَّ اتاحة الفلسفة في الفضاءات العامة والرغبة في امتداد أحزمة الأمان العقلي تتطلبُ الإشتغال على الجانب الشعبي في عملية التفلسف. ومن جانبها لم تتوانَ المفكرة التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني من الدعوة إلى إعادة الفلسفة إلى مكان مولدها..
لقد ظهرت الفلسفة في شوارع أثينا على لسان سقراط .مايجبُ قوله هنا أنَّ سينيكا قد تعرض للانتقادات لأنَّ نمط حياته الباذخة قد خالفت خطابه الفلسفي لكن تجربته في مواجهة الموت ومؤامرة الخصوم عليه تذكر بلحظة البطولة التي توجت مسيرة الفيلسوف اليوناني سقراط.