حين تغيب العدالة لا يبقى للديمقراطية معنى: مقتل جورج فلويد

من دون عدالة قانونية ومحاسبة ومن دون عدالة اجتماعية، تكون الديمقراطية مجرد ممارسة مترفة.
وصول السود الى هرم القيادة السياسية لم يمنع الميز العنصري بحقهم
ضرورة تحقيق العدالة والمحاسبة مهما كان العرق والمنصب في المجتمع
الدفع نحو دعم حقوق الأقليات في اميركا مسؤولية البيض كما السود
تواصل الاحتجاجات في أميركا رفضا لمقتل فلويد مرتبط بالانتخابات المقبلة

شخص الزعيم الاسود مارتن لوثر كنغ امراض المجتمع الاميركي بأربعة: العنصرية، العسكرة، ثقافة الاستهلاك، والفقر. وقال ان عدم معالجة هذه الامراض ستؤدي الى فقدان اميركا عظمتها. وما شهدناه في الايام الاخيرة كان تحرك الشارع على عدم معالجة واحدة من اخطر الامراض الا وهي العنصرية كما يرى الكثيرون. ولكن برأيي أن الاهم هو غياب العدالة بغض النظر عن المجني عليه. والا كيف نصف تصرف الشرطي من اصول اسيوية الذي نظر الى عملية قتل جورج فلويد دون ان يحرك ساكنا؟ هل نصفه بالعنصرية؟ وكيف نصف تردد المدعي العام في المحاسبة في ولاية منيسوتا حيث وقعت الجريمة وهو اسود؟ ورئيس الولاية وهو من الحزب الديمقراطي الدي اوصل اسودا للحكم ولكنه لم يعالج العنصرية في ولايته؟ وسياسة اوباما الرئيس الاسود الاول لمدة ولايتين، ثمانية سنوات، دون ان يقدم شيئا يذكر للاقليات وبالذات للسود من ابناء جلدته؟ فقد شهدت فترة اوباما عدة حوادث قتل لسود على يد افراد شرطة من البيض لكنه لم يحرك ساكنا لاصلاح نظام الشرطة او لطرح موضوع العنصرية للنقاش الجاد.

للاسف يعملنا التاريخ كثيرا ان المقهور حين يصل الى القمة يكون اول من ينسى معاناة المقهورين. ان مثل جنوب افريقيا هو اهم مثال على ذلك. ماذا حقق النضال من اجل الغاء نظام الفصل العنصري الابرتهايد بعد خمسة وعشرين عاما؟ البيض ازدادوا غنى والسود لا زالوا يعيشون في بيوت الصفيح في فقر وتهميش والقلة منهم التي وصلت الحكم ومرابط الاقتصاد تنهب البلد ولا يعنيها من السود الا اصواتهم وقت الانتخابات.

لتحقيق العدالة شقان اساسيان. الأول تحقيق العدالة القانونية. فلا احد فوق القانون لذا يجب محاسبة الشرطي القاتل بتهمة القتل من الدرجة الاولى ومحاسبة الشرطيين الثلاثة الاخرين بتهمة القتل. ولعل الاهم من المحاسبة العينية هو اقامة هيئة مستقلة لمحاسبة افراد الشرطة والتحقيق في تجاوزاتهم ومحاسبتهم محاسبة متساوية امام القانون. فالشرطة التي تحقق مع نفسها لا يمكن توقع نزاهتها والدليل ان الشرطي القاتل لديه تاريخ حافل من التجاوزات لكنه لم يتعرض للمسائلة ولو كان قد حوسب في وقتها لما كنا وصلنا الى هذة اللحظة.

الديمقراطية ليست ايديولوجية بل نظام حكم يقوم على الانتخاب الحر للمواطنين لرؤسائهم بشكل دوري مفتوح لجميع المواطنين الذين هم فوق سن قانونية يحددها الدستور. وحين تكون الديمقراطية ليبرالية فأن المواطن يتمتع فيها بحريات واسعة لا تضمنها له ديمقراطيات غير ليبرالية. حريات كحرية التعبير عن الرأي والنقد والتظاهر واقامة احزاب معارضة والتجمع والتنقل والاهم هو ضمان حقوق الاقليات في بلد تحكمة الاغلبية. والنظام الاميركي هو نظام ديمقراطي ليبرالي ولكنه يعاني من امراض ومن تناقضات كبيرة. فمن ناحية هو بلد بني على المهاجرين من اوروبا اولا ومن كل بقاع العالم لاحقا، ومن بداياته قام على اساس منح حريات واسعة من ناحية ولكن بنفس الوقت امتهن العبودية بالاختطاف القسري للافارقة وجلبهم الى الولايات لاسباب اقتصادية وبني على ابادة اكبر عدد من السكان الاصليين. لقد نال السود في اميركا الكثير من الحقوق بالنضال والدم وكان للبيض دور عظيم في ذلك. فابراهام لنكولن محرر العبيد كان ابيضا والعديد من محاربي العبودية كانوا من القادة البيض. وفي الايام الاخيرة شهدت شوارع اميركا البيض والسود معا في النضال ضد العنصرية ولن ينجح اي نضال اصلا بدون هذا التضامن العام وبدون تضامن عناصر الشرطة من البيض بشكل خاص. ان لهذا التضامن اهمية معنوية قصوى لاقلية تشعر بالتهميش وبغياب العدالة.

ومن هنا تأتي اهمية احقاق الشق الثاني وهو العدالة الاجتماعية. ان سياقة سيارتك مرورا بالكثير من الاحياء التي يسكنها السود او القيام بزيارة الى مدارس معظم طلابها من السود يكشفان بسهولة مدى الاهمال والتخلف في البني التحتية لهم وفي اوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والصحية. ويجب عند النظر الى ردود فعل بعض من شارك في اعمال النهب والتخريب مؤخرأ على انها ردة فعل السود على واقعهم المأوزم منذ عقود. وازدادت هذه الاشكالية بظهور وباء كورونا واخفاقات ترامب المتتالية في معالجة الموضوع وارتفاع نسبة المصابين لدى السود لعدم توفر الفحوصات والعلاجات في مناطقهم. يعتقد البعض انة حين يخرب ويكسر فهو ينتقم لواقعه وان انتقامه صرخة. لكن العديد ايضا من المشاغبين هم عناصر اجرامية تستفيد من الفرصة للتخريب ولا علاقة لها بحادث مقتل فلويد ولا بالعنصرية.

وهنا يمكن ملاحظة أن البعض يقوم بالتخريب لدواعٍ سياسية. فالانتخابات الاميركية على الابواب، في 3 نوفمبر القادم، واغراق البلاد في الفوضى سيكون مؤشرا على اخفاق ترامب في حفظ الامن وبالتالي سيؤدي الى خسارته. لكن استمرار التخريب قد يؤدي برأيي الى رد فعل عكسي والى إعادة انتخاب لترامب حيث سيتحول ضحايا العنصرية، وخصوصا من السود، الى متهمين ذوي ثقافة عنف وتخريب تؤلب عليهم جهات كانت تتعاطف معهم في وقت ما.

وبغض النظر عما تحمله الانتخابات الاميركية هنالك اهمية انية بضرورة اخماد انتفاضة الشارع التي لن تتم الا بتحقيق العدالة فورا لأن كل تأجيل يحمل خرابا اكبر، بالذات في هذه الظروف الدقيقة ولأن تغيب العدالة لن يبقى للديمقراطية معنى.