خضير فليح الزيدي يكتب يوميات مستفزة جدا

المجموعة القصصية للروائي والقاص العارقي 'عزيزي المندس' حافلة بانفعالات متناقضة تضطلع بدور أساسي في بناء عوالم النصوص القصصية، وقد استطاع الكاتب أن يروض جموحها تعبيرا رائقا ولغة شعرية جميلة وبناء متماسكا.

قبل ان "يسالني ناشر كتبي عن دلالة الدخان في هذه القصص، وما جدوى الاشارة لها على الغلاف؟ فاجيبه بعد تردد تلميذ مجد ياعزيزي لولا هذا الدخان السام لم تولد قط هذه القصص، لاتوجد اصلا قيمة تذكر لها. ولادبها بصورة عامة. فبعد عودة المزاج الوطني وطغيانه في الشارع. كما هو خروجه الناصع من بطن التاريخ والمنفوخ زيفا.اندملت جروح القطيعة والإخفاق والـ'متصير جارة لنا'، موجات الدخان ياصديقي هي المنبه الوطني، ...الخ"

النصوص السردية هي أقدر الأجناس الأدبية على تصوير الذات والتعبير عن حالاتها، فضلًا عن مرونتها الفائقة التي تجعلها قادرة على استيعاب الأشكال والخطابات الأدبية كافة، فقد كانت ميدانًا فسيحًا لتطبيق نظريات سيمياء الأهواء. وهو ما نراه في هذه القصص -سلوكيات للذات الفاعلة من انسان/جمادات/مشاعر وعواطف -، هي مكونات الخطاب الاستهوائي تركيبا ودلالة؟

أقول ان مشاعر الأهواء والعواطف والتواصل لايمكن الفصل بينهما. وکلّ الأعمال التی تنجم عنها. ترتبط ارتباطاً وثیقاً بإدراك الشخصية وتلقّیها اجتماعيا وبعلاقة الذات والآخر معا. مجمل القصص -ینظّم الشباب تظاهرة، هي مخاض أفکارهم وعقائدهم وصورهم الذهنیة، هي رصد عن سوء الأحوال الاجتماعية لهم، يظهرها الكاتب على هيئة حوارات /افلام فيديوية /صور فوتوغرافية، ..الخ هي. رسائل حجاجية

تشكل الأهواء في الخطاب" لتركز على رصد الدينامية الأهوائية من خلال شبكة من المفاهيم (السياق- القصد- الغائية- الكفاءة) ثم تتوقف عند مستوى جدل الأنساق الثاوية خلف البنيات السطحية، قبل أن تقترح على السيميائيين أن يعيدوا النظر في تنظيم المسار الشعوري للتعبير لدى الشعوب في ظل متغيرات العصر، والذي يعتبر مسارًا توليديًا، يمثل حالة افتراضية، إذ أن المنطقة الأكثر فاعلية فيه هي الفضاء الوسطي بين البنيتين، ساخط وراض، غاضب وفرح، وغير ذلك. وما ينقسم منها من المقاصد السطحية والعميقة التي تتفاعل داخل سياق لغوي وغير لغوي، وهو الشرط الأساس لتطوير سيميائية العمل.

"عزيزي المندس" مجموعة قصصية للروائي والقاص خضير فليح الزيدي حافلة بالانفعالات المتناقضة (الغضب والحب والحزن والشفقة...)، وهي تضطلع بدور أساس في بناء عوالم النصوص القصصية، وقد استطاع الكاتب أن يروض جموحها تعبيرا رائقا ولغة شعرية جميلة وبناء متماسكا...

نصوص تتحدث عن ألم الوطن، وهذا ما تجلى في شجاعة الشباب بفئاتهم العمرية المختلفة، امام صور أسراب قوة الشغب المندحرين وهم يهيمون على وجوههم الى السواتر الكونكريتية.

اقتباس:

"اسجل تلك القصص في لحظة تأمل، اكذب عندما اقول لحظات خالية من الانفعال، والانفعال هو لحظة صدق خام وفطري ,هي قصص معتقة بالدخان السام، عما جرى ويجري يوميا، اسجلها هنا لتذكير اولاد الضحايا، عفوا اقصد اولاد المقتولين غدرا في الشوارع لأن جيفارا يبعث من جديد تحت نفق التحرير والساحات الاخرى وداعة الله"

كتبُ الزيدي قصصه بعدسةٍ كاميرا خاصَّةٍ ترصدُ تلك التفاصيل التي كثيراً ما يخفيه اعلام السلطة وماكنته الاعلامية الفضائية والايغال في التشكيك بقضيتهم، هي قضية وطنٍ مستلب وهناك شباب ينتفض لاسترداده. شعور ان الوطن يتسرب من بين ايديهم ولا يترك إلا الألم في ارواحهم.

اقول منذ الدخول الأول إلى عوالم المجموعة القصصية، يكتشف القارئ حمولات فكرية وجمالية، واجتهاد مذهل لخلق آلية سردية بتقنيات و ثيمات تتميز بالابتكار، إضافة للحدث، .

الفكرة التي يريدها الكاتب أن يوصلها الينا من خلال الصدق الفني لمهارة الحكي المباشر، والحبكة القصصية من عناصر القصة التي تجلب الانتباه وترك النهايات مفتوحة لإثارة التساؤلات والإحتمالات في روح القارئ، فهذه العناصر هي التي تشكل مادة القصة.

وبغض النظر إن صنفت هذه النصوص قصصا أو مقاطع سردية، إلا أنها في غالبيتها احتوت على حكي من يوميات "تشرين".

حملت أفكاراً تثير السؤال، لكنها بالتأكيد ستختلف بالشكل والأسلوب، لكنها تبقى تمثل مراحل من أحداث عشناها بالفعل وأعادها لنا الكاتب فنيا، وفي نفس الوقت امتلك الجرأة بالحديث عن مسائل تعتبر من المسكوت عنه، فهل كان الكاتب يبحث عن امل في وسط الألم، أم وصل إلى قناعة انه أدرك "عبثية الخلاص".

اقتباس:

"يسألني الصحفي عينات عشوائية من البشر في ساحة التحرير ,عن هذا البلد المبكي ,كلما عزفت الكمنجة:

ماذا يمثل لك العراق؟لماذا كلكم تبكون في أثناء الإجابة عن هذا السؤال ؟هل يبكيكم السؤال ؟ام العراق ؟ام النشيد الوطني ؟.

القارئ هنا وهو في حضرة تلك القصص سيقف كثيراً عند هذا العنوان اولا الذي اُختير بعناية فائقة ليعكس جوهر ومضمون الخطاب العام للقصص والذي يوجهه الكاتب لعقل ومشاعر المتلقي، بدقة متناهية التاثير،

العنوان يعد هو الركيزة الأصيلة والأساسية التي تمثل النص المقابل للمتن، لذا فنحن أمام هذه النصوص التي يشير وبقوة مضمونها.. تبرز الحالة الإنسانية التي تؤدي بصاحبها إلى اتخاذ سلوكيات إرادية أو لا إرادية نحو ما من شأنه إبراز التفاعلية الأخرى في معادلة الوجود الإنساني، نصوص متقنة في السرد غاية في التنوع والثراء.

ولأن العنوان يعدُّ، تلقائيا،، سنجده يعتمد مفردة "عزيزي" الابوية خطابا إنساني جدا غاية في الحرص على ارواح هؤلاء الشباب وهم جاهزون وبلا عون الى الذهاب الى السماء ,عراة ,فقراء وبدون احلام تذكر.

أما الكلمة الاخرى من العنوان "المندس" هذه مفردات وضع لها في الهامش شرحا مفصلا هو الشخص الذي يواظب على التظاهر حين يندس فيهم ,ايضا وردت مفردات مثل العلاسه والصكاكة...الخ

ويعني كل هذا أن العنوان يتكون من كلمات محورية، وعليها مدار الدلالة والتوليد والتحول سطحا وعمقا. ويمكن القول العنوان هو ما يقدمه النص من معلومات يدركها السامع من مصدر ما في المحيط (أي المقام، أو النص الظل).

اقتباس:

"اما تذكرين التوابيت السود التي طارت من غير اجنحة؟ توابيت صفق لها أطفال المدارس المغلقة بامر الشعب، صفر لها فتيان الساحة بصفير متقطع كحمائم السطوح، طيب. هل تذكرين حادثة الفتيات اللاتي قطعن جدائلهن ووضعن على حافة التوابيت".

هكذا صاغ الكاتب الجزء الاخر "بعد ان" وهي عبارة عن وصايا حميدة وكانها مقاربة مع وصايا العشر المقدسة للكاثوليك "لاتسرق ولا تزني لاتكذب، ..الخ، أما الوصايا الحميدة:\

-احذر خلفك دراجة تدعى ذبابة، .احذر بجانبك" بيك آب"من دون ارقام.

-استدر الى الخلف روتينيا كل تسع خطوات عند الخروج رجاء، تلكم هي التسع المباركات.

-لاتصعد التكسي الاصفر عند قدومك وحدك مطلقا حتى لو كان السائق هو الناطق الرسمي نفسه،

-الى كل متظاهر :ضع في جيب قميصك وصيتك الاخيرة، اعلم انك في جبهة حرب من طرف واحد، اما نورس جميل واخوته وقبل فوات الاوان ,فتلك لائحة التوصيات التي وعدتك بها :

ملحوظة :تحفظ أركان التوصيات انفة الذكر عن ظهر قلب ياعزيزي، توضع بخرقة وتشد على الزند كتميمة، تبعد اولاد شبه الحكومة عنهم "ابعد عن الشر وطق اصبعتين"

وهنا استفاد الكاتب من "النص الظل "ويعضد النص الأصلي بهذه الوصايا، .وتلك من التقنيات الجديدة في فن القصة القصيرة الحديثة توظيف الوثائق والوصايا والصور، ..الخ، واستطاع، بخيال خصب، ابتكار أفكار غير مسبوقة، أفكار شكَّلها في محاورة شيقة وبجمال وسلاسة وتدفق الأسلوب السلس، وروعة الحكي؛بالإضافة إلى توظيفه اللُغة المكثفة وتشابكها مع العامية التي أعطت للقصص، رحابة وجمالية ومضمون مؤثر.

لكني أغبط الكاتب على فيضه الفكري الجريء، وخزينته المعرفية الكبيرة، و نجاحه غير المسبوق في صياغة قصص إبداعية عن "يوميات تشرينية" أو بشكل أدق عن "شباب المستقبل" من دون أن يقع المتلقي في الملل والكدر، وهذه أمور تحسب له بشدة.

اقتباس:

يتبع لطف..

"استيقظ السيد الصكاك من قيلولته المعتادة في منتصف الساعة الخامسة عصرا ذلك اليوم ,الذي قرر فيه ان يمارس هوايته بالصك مدفوع الثمن، وقد وقع الاختبار على المتظاهر الوسيم، وفق جدول متفق عليه مع السيد الأكبر لسهولة الوصول لذلك الهدف وضعف ارتباط العشيرة"

اقتباس:

"مامعنى الحرة المقيدة...الحرة ياعزيزي هي مرحلة من مراحل العلس المجاني في وسائل الاتصال، يتكفل العلاس – وتلك مهمته- بايصال المعلومات بسلاسة الى الصكاك تطوعا وخدمة للمذهب مولاي".

هنا تظهر سلوكيات مغايرة مع مرور الوقت أصبحت تربة خصبة للعنف، وهذا يظهر بنسق مضمر في ثنايا الخطاب السردي.

اقتباس:

"عزيزي المندس"

عندما ذهبت الى مجلس العزاء على روحه، قررت تسليم هاتفه الى أبيه الذي تلثم بيشماغ الحزن التقليدي، في تلك اللحظة كان هاتف المندس يرن بقوة، نظر الاب نظرة حزن كونية، كانه اراد ان يقول لي، ان هاتفه لا يلزمه بعد الان، ..ص32

وفي قصص اخرى تظهر مشاعر الهوى والحب للحياة والمراة، ونؤكد الود الذي ترغب فيه الذات المستهوية في علاقتها بالموضوع القيمي، كنتيجة انفعالية تربط بين الذات والموضوع، وهي رغبة مبنية على الميل بالإيجاب الذي تعمره الغبطة والسرور، أي إشباع الانجذاب للاخر.

وهكذا يغدو الهوى "العاطفة" بحمولتها الإيحائية دلالة على قيمة الوجدان من سوء أوضاع الإنسان وهو يصارع اكراهات السلطة، إنه غضب ينقلب إلى إحساس عميق بالغربة، عزلة تنمو في النص لتعلن الغضب والرفض لكل ما الت إليه الأمور، إنها صرخة في وجه الظلم والظالم على مر التاريخ،  وهكذا يتحول الغضب من حالة نفسية اتجاه الواقع اليومي إلى سلوك وأفعال لتعضيد العزيمة والاندفاع،

اقتباس:

"كرير فلفولة"

حمله فريق مكافحة الدخانيات وهو يشير لهم نحو خيمة شذى الجمالي..دارت حوارات بينه وبينها، .خلي ايدك على راسي دكتورة بلا زحمة، .ليش ؟اصابتك في البطن كرير، .اذا وضعت ايدك على جبهتي مااموت دوم، ..تدرين دكتورة كنت اكتفي بالنظر لاصابع قدمك، ..الان اكلمك وجها لوجه....الخ س79

وكرير تصغيرا للاسم كرار وهذا متداول عند اهل العمارة لغاية التحبب وغشية الحسد ,اما فلفولة كونه ياكل وعلى ثلاث وجبات "لفة فلافل".

ظل الحلم بوطن حر يحرك لواعج النفوس ليتحول إلى رغبة في اقتحام عالم الاخر، إنها الرغبة في الحصول على الحرية كاملة غير منقوصة، هذه القيمة الإنسانية النبيلة التي يفتقدها المجتمع في غفلة من الزمن.

اذن هذه القصص هي انفعالات نفسية تسائل الأهواء للذات في تشكيل عوالم هي حكايات من فلسفة يوميات تشرين، غير أنها ضاجة بالعواطف والمشاعر الوطنية التي تتشكل في لحمة واحدة، في الأحاسيس هو كيمياء الحقيقية.

ونجد أيضا من بين هذه الانفعالات التي تشكل فسيفساء النص الرغبة والعاطفة المتجذرة في فطرة الإنسان والحيوان معا.

اقتباس:

"الكلب الذي بكى"

ففي صباح كراج السنك الحزين.ذهب الكلب إلى فراش هشام وتشمم رائحة الدماء المتيبسة على مخدته.غادر الكلب موقع الجسر مخذولا وحزينا نحو أماكن اخرى من دروب بغداد القديمة مداريا خيبته وهو يعوي من شدة الفقدان، ...ص61

ان القوة الفاعلة في هذه المجموعة قائمة على الشخصيات والجمادات والمشاعر، ومن ثم فإن الحدث والمشاعر تابعة للشخصية وليس العكس، كما كان سائدا في السردية التقليدية. تبقى هذه القصص محل اهتمام القراء.. وهي علامة مهمة من علامات الجهد السردي لكشف الذات ومكوناتها، ولا سيما قدرة الكاتب على الإمساك بالترسيمات، وتطويع إمكاناتها، وكذلك ما أمده خياله رصد وتوثيق انتفاضة تشرين الشبابية، لصالح سرد جميل مستعملا بلاغته العالية وتجربته الغنية في قصص تنتمي الى السرد المعاصر.

اقتباس:

"انتظرني في ساحة الطيران"

في يوم ما مات البلبل الصائم قبل ان يصيب بفخذه.ثم بتر ساقه بعد ان تهتك لحم الساق، "عزيزي سعدون لاحاجة لي بالقمح المستورد.البلبل اعطاك عمره، تحياتي، تلك الرسالة التي ارسلتها الى سعدون، لم يجب عليها الى يومنا هذا، مع الاسف....ص 84

تتعدّد المشاهد والعناوين للقصص، فنجد أنفسنا أمام مشاهد مكثّفة متعددة متفرعة، تغري القارئ بالاستمرار بالقراءة حتى النهاية، ترافقها أحاسيس كثيرة متنوعة، وتصب الحالة الشعورية في هذا التنوع، من الوصف إلى التفصيل وفنية التصوير، وإلى المزج بين الماضي والحاضر، وعلى هذه الوتيرة وداخل فسيفساء مُدهشة، استحضر الكاتب أيّامًا مضت، انتشلها من ذاكرته بأحداثها ومواقفها ان كانت حدثت في "الحبوبي/ساحة التحرير"

وهنا أبحر الكاتب في رحلة ماتعة بين هذه الامكنة وقد سردها دون تَكلُف، جاء هذا عفويا في السياق مما أضفى حيوية واضحة بين ثنايا السطور.

يشعر القارئ أنه يقرأ في حالات موثقة وليست حكايات من الخيال عندما يطلع على يوميات الشباب " ابطال القصص"، خاصة ما يتعلق بحالة التشابك النفسي والفكري في تشكيل الصورة في أدق التفاصيل من خلال مايرشح عن يوميات هي من "المسكوت عنه" وهنا تمر كل الأحداث بذرواتها المختلفة,من خلال المحرك الرئيسي للأفعال.

اقتباس:

"الضحك مع القاتل"

اسمعني رجاء يااخي، كل القصة ومافيها احكيها لك من طق طق الى السلام عليكم، لكني ساحذف منها او ساغير بعض الاسماء للضرورة والمحافظة على حياة بعض شخوصها المحششين مع القاتل، وماعليك الا ان تدخن سيجارتك وتشرب الشاي بالهيل وعلى الفحم في ساحة التحرير الان...س89

الكاتب يلج خلجات النفس البشرية لشخصياته -أفئدتهم ودفقات مشاعرهم وتبرز نوازعهم عبر حبكة درامية سيكولوجية لا تخلو من جماليات فنية.

اذن هذه المجموعة القصصية المتميزة تجربة تحمل الكثير من الثراء، تنفذ اهوالها بعمق إلى ذواتنا، فبداخل كل منا يقبع ذلك الجزء من الرغبات أو الأحلام باستعادة الحرية للوطن، والتى تداعب أخيلتنا وتتقاسم معنا واقعا جميلا حرا، تلك صورة غير منقوصة رسمها الشباب الشهداء بدمائهم الطاهرة.