خطة إسرائيلية جديدة للتعامل مع حماس

حماس في حاجة إلى سنوات طويلة كي تعود إلى ما كانت عليه من قوة عسكرية، وإسرائيل استفادت من تداعيات عملية طوفان الأقصى وتواصل خططها لإنهاك الحركة تدريجيا، إلى أن تميتها إكلينيكيا.

أصبح التوقيع على اتفاق تهدئة بين إسرائيل وحركة حماس في قطاع غزة أقرب من أيّ وقت مضى، وبات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على يقين أن ما لم يحققه على مدار 21 شهرا بالحرب يمكنه تحقيقه عبر وقف مؤقت لإطلاق النار.
بدأ التوجّه نحو هذا المسار بعد بروز انزعاج في الأوساط العسكرية بشأن قدرتها على فرض السيطرة الكاملة على غزة، واستعادة ما تبقى من الأسرى والمحتجزين أحياء، وتفكيك البنية العسكرية لحركة حماس. في الوقت ذاته، بدأت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تدرك أهمية تبنّي رؤية تستند إلى أدوات سياسية لتحقيق أهداف الحرب.
تبدو الأجواء مهيأة أكثر من ذي قبل للتوقيع على الصفقة. فخطاب نتنياهو أقل تشددا هذه المرة، وترامب مصمم على تصوير نفسه صانع سلام، وحماس تعتقد أنها قادرة على المراوغة والحفاظ على ما تبقى من دورها الأمني والسياسي في غزة.
وما يجعل التفاهم ممكنا أن كل طرف يجد في الوقف المؤقت لإطلاق النار مصلحة حيوية أمام جمهوره، إذ تمنحه هذه الطريقة مساحة جيدة للمناورة عند مناقشة التفاصيل المستفيضة فنيا، والتي تنطوي على معركة جانبية ممتدة بين إسرائيل وحماس.
قد تطول المناقشة إلى ما يتجاوز مدة الحرب التي يمكن أن تلملم أوراقها، فالمعركة تدور حول من يحقق أهدافه. نتنياهو الذي تفنن في إيجاد حجج للهروب من التوقيع على صفقة الفترة الماضية لن يعجز عن إرهاق حماس في سلسلة من المفاوضات غير المباشرة، بشأن تخطي عتبة الهدنة المؤقتة إلى الدائمة، والتي لا تريدها إسرائيل لمنع تكبيلها في الوصول إلى أهداف نوعية انتقائية في أيّ لحظة، وترى في نموذجي سوريا ولبنان فرصة يمكن تكرارها مع غزة.
تعتقد حماس أن استمرار المحادثات يمنحها أفقا لإعادة ترتيب أوراقها، وهي تعلم أن نتنياهو إذا منحها وقفا لإطلاق النار سيكون مشروطا بمحددات توفر له البيئة التي يعاود فيها القتال، لكن رهانها على البقاء في القطاع أكبر من رهانها على الرحيل منه، وطالما بقيت عجلة المفاوضات تمضي في طريقها فهي ضامنة لاستمرارها سياسيا، على الأقل، وهو ما يريده نتنياهو لتأجيل أيّ استحقاقات للمرحلة التالية لوقف الحرب، وهو اتفاق ضمني يجد فيه كل طرف مصلحة أو فسحة سياسية لتحقيق أغراضه.
يقبض نتنياهو على جملة من الأوراق التي تمكنه من الضغط على حماس وقت ما يشاء، إذا لم تستجب الحركة للتجاوب مع مطالبه بعد انتهاء قضية الأسرى، وأهمها: نزع سلاحها ومنع هيمنتها الإدارية على القطاع وخروج قادتها منه، وإذا خرج عن طوع نتنياهو ملف المساعدات الإنسانية وقدم تسهيلات لدخولها بسلاسة وبكميات كبيرة، فإنه يملك ملف العودة لتمركز قوات الاحتلال إذا قرر الانسحاب التام من القطاع.
ولعل تهيئة محاور عسكرية عديدة أقيمت في غزة كان الغرض الرئيسي منها توفير مرونة لعمليتي الدخول إليها والخروج منها، ناهيك عن ملفي الإدارة وإعادة الإعمار، وكلاهما يستغرق أشهرا وربما سنوات إلى حين تحصل حماس على نتيجة إيجابية فيهما.
يسير نتنياهو على خطى من سبقوه في عملية المفاوضات مع الفلسطينيين، حيث راهن الجميع على عنصر الوقت واستنزافهم، وما لم تكن هناك قوة محلية وإقليمية ودولية ضاغطة أو توجد مصلحة إستراتيجية فائقة، لا تقدم إسرائيل تنازلا واحدا، وبعد أن فهم نتنياهو سيكولوجية حركة حماس لن يعدم هو أو من يأتي بعده على رأس الحكومة حجة في التسويف والحصول على مكاسب وتقليل الخسائر وحرمان حماس من أيّ نجاح، وتحقيق تقدم ملموس في الأجندة التي تحملها كخصم، بالحرب أو السلام.
تستند الخطة الجديدة للتعامل مع حماس على عنصرين مهمّين. الأول: نهم الحركة الفلسطينية للبقاء في غزة بأيّ وسيلة، مستفيدة من ضعف السلطة الفلسطينية، وعدم اليقين في قدرة رئيسها على القيام بدوره وفقا لرؤية ومصالح إسرائيل، وليس من مصلحة إسرائيل أن تنجح السلطة الوطنية في إعادة تصحيح مسارها ومكافحة الفساد داخل جدرانها، وتريدها هيكلا عظيما، بلا روح أو عزيمة، ما يتماشى مع رغبة حماس، التي تجد في الفراغ الفلسطيني فرصة لاستمرار تواجدها على الساحة، من خلال مشاعر دينية – عاطفية، أو قدرة على الصمود والتنظيم في حدهما الأدنى، بعد أن تعرضت الحركة لضربات قاصمة طوال الأشهر الماضية.
المحدد الثاني، وله علاقة بما يقدمه وجود حماس في غزة من براغماتية إسرائيلية، حيث تتحول الحركة إلى قميص عثمان الذي تتذرع به إسرائيل لتنصّلها من أيّ التزامات نهائية حول وقف إطلاق النار، أو وعود بتسهيل إجراءات إعادة الإعمار، وضمان مواصلة تفكك القوى الفلسطينية، ووجود جبهتين أو أكثر متصارعتين.
وهي آلية دفعت نتنياهو في وقت سابق لغض الطرف عن تضخم حماس، وزادت قوتها إلى أن تحولت إلى ند لحركة فتح، ثم تفوقت عليها خلال السنوات الماضية في غزة وزحفت على الضفة الغربية، وهو مبرر يردع نتنياهو أو غيره عن تقديم تنازلات.
إذا بقيت ورقة حماس معلّقة، لا هي في السلطة أو خارجها، تحقق لإسرائيل مزايا عدة، تمكّنها من ممارسة ضغوط قوية، وتحول دون التفكير في مستقبل حقيقي للقضية الفلسطينية، ويتسع هذا النطاق مع وجود صراعات ونزاعات وربما حروب أخرى في المنطقة، فملف إيران لم يغلق بعد، ولبنان يراوح مكانه، وسوريا تنتظرها أيام صعبة، ما يعني أن الالتفات لحسم قضايا جوهرية تتعلق بالفلسطينيين أمر مستحيل.
ودفع ذلك ترامب ونتنياهو للتفكير في القفز على غزة وتوابعها، والاستدارة نحو تطوير علاقات إسرائيل الإقليمية، ومحاولة تجاوز التعقيدات التي تحيط بالقضية الفلسطينية، بالتهدئة وما تفضي إليه من تفاصيل فنية، قد تكون مرضية لحماس.
ومع أن خطاب إسرائيل يرفض وجود حماس في غزة، غير أن مصالح تل أبيب تتطلب عدم التخلص من الحركة نهائيا في الوقت الراهن، وقد تصور حماس وأنصارها ذلك على أنه انتصار معنوي، تمكن المتاجرة به، لكن ما يحمله من عواقب سيكون مريرا، فحماس في حاجة إلى سنوات طويلة كي تعود إلى ما كانت عليه من قوة عسكرية، وإسرائيل استفادت من تداعيات عملية طوفان الأقصى وتواصل خططها لإنهاك الحركة تدريجيا، إلى أن تميتها إكلينيكيا عندما تصل تل أبيب إلى المستوى الذي يمكّنها من إعادة صياغة الحالة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية.
تحوي الخطة الإسرائيلية ديناميكيات مبتكرة وليس أهدافا جديدة، لأن الأخيرة لم تتغير كثيرا، وكل ما يصيبها تعديل في الوسائل التي تؤدي للوصول إليها، وتمخضت شهور الحرب الطويلة على غزة عن دروس، تسهّل مهمة إسرائيل في التعامل مع حماس، وتدفعها للحفاظ عليها كعقدة تمنع أيّ جهة تريد وضع حل مناسب للقضية الفلسطينية.