لن يحل التطبيع مشكلات سوريا
يواجه الحكم الجديد مشكلة اسمها الأقليات. هل كانت تلك المشكلة مسكوتا عنها في العهد السابق والآن افتضح أمرها؟ كان المجتمع السوري مدنيا دائما على الرغم من أن شروط المواطنة كانت ناقصة. ولأن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار ينتميان إلى أقلية حسب التوصيف الشائع فقد اعتبر الكثيرون نظامهما بمثابة ضمانة وجود مؤكدة للأقليات في حدود تلك المواطنة الناقصة.
ما جرى في سوريا من تغييرات سريعة قلب المعادلة وأشاع خوفا، له ما يبرره على مستوى الواقع المباشر، لا لأن الأكثرية قفزت إلى السلطة بشكل غير متوقع بل لأن المجتمع بات مهددا بفقدان طابعه المدني. لم يكن ماضي الجماعة التي صارت تحكم سوريا اليوم ليبشر بأيّ استنتاج آخر. كما أن ما شهدته مدن الساحل ذات الأغلبية العلوية وجرمانا في دمشق ذات الأغلبية الدرزية من أحداث عنف كانت الهوية الطائفية أساسها ليست من النوع الذي يدعو إلى الاطمئنان.
كان مستغربا أن يقوم الدروز السوريون بقيادة بعض زعاماتهم الدينية بزيارة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بالتزامن مع سقوط النظام الذي كان يحمي الأقليات. لا أعتقد أن النظام الجديد الذي سمح بقيام تلك الزيارات قد أزعجته فكرة ذلك التطبيع الشعبي في مرحلة كان فيها غير مستعد للعودة إلى قانون كان يعتبر مثل تلك الزيارات نوعا من الخيانة العظمى. لقد انتهت سوريا الأسد بفعل توافقات دولية ولكن ماذا عن القوانين التي ما زالت تعتبر إسرائيل عدوا؟ ذلك سؤال لم تعد الإجابة عليه تلزم أحدا. كان واضحا أن سوريا الجديدة يجب أن تتخطى ماضيها لكي تكون مقبولة على المستوى العالمي.
ليس خافيا على أحد أن التغيير الذي حدث في سوريا ما كان له أن يتم بتلك الطريقة المفاجئة والسريعة لولا التنسيق بين قوى دولية في مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا وقوى إقليمية في مقدمتها تركيا وإسرائيل. وهو ما يعني أن لإسرائيل مصلحة في ذلك التغيير. هل تنحصر تلك المصلحة في التطبيع؟ لا أعتقد أن إسرائيل مهتمة بالإسراع في التطبيع مع سوريا الجديدة فهو ما يمكن توقع حدوثه في أيّ لحظة. ما كان يهمها هو أن ينتهي النفوذ الإيراني في سوريا إلى الأبد. تلك مرحلة استثنائية في التاريخ المعاصر للمنطقة. وخسارة سوريا بعد لبنان بالنسبة إلى إيران تمثل ضربة قاتلة، لن يتمكن النظام الإيراني من تعويض خسائرها.
أما ما تبقى من مشكلات سوريا فلن يكون شأنا إسرائيليا. لسوريا الجديدة مشكلاتها السياسية والاقتصادية والجغرافية إضافة إلى المشكلات التي يمكن أن تنتج عن هلع طائفي لن يستطيع الحكام الجديد احتواء أسبابه ومظاهره وتداعياته. سوريا في حاجة إلى أن تستعيد خريطتها التي تمثل وحدتها السياسية التي هي أساس السيادة الوطنية. كما أنها دولة محطمة بسبب الحرب وبسبب الحصار الاقتصادي المفروض عليها أميركيا. غير ذلك فإن الجماعات الإسلامية المسلحة التي تضم بين عناصرها مقاتلين غير سوريين ستكون دائما مصدرا لتهديد السلم الأهلي. فأولئك الأجانب لا يعرفون شيئا عن دولة المواطنة كما أن ثقافتهم لا تؤهلهم لفهم التعددية الدينية والعرقية. ذلك لغم يجب تفكيكه. ليس من الصعب توقع أن النظام الجديد لا يملك أسبابا للتخلي عن العناصر الأجنبية التي عاشت في أحضان التمرد زمنا طويلا وقاتلت بضراوة لأسباب عقائدية.
قد يتمكن النظام السوري الجديد من ضبط العناصر الأجنبية المنضوية تحت سلطته، لكنه سيجد صعوبة في إعادة جدولة أعدائه العقائديين، والتي قد لا تشمل اليهود. علينا أن نحكم على أولئك الأجانب في إطار ثقافتهم الدينية وليس في إطار ثقافة الواقع السوري. تلك واحدة من أكثر المشكلات تعقيدا التي يواجهها حكام سوريا الجدد الذين أثبتوا حتى الآن أنهم يدركون أن أيّ قرار يتعلق بمستقبل سوريا يتخذونه قد يشكل قفزة إلى الفراغ. فهم حريصون على علاقتهم الدقيقة مع محيطهم العربي وبالأخص مع المملكة العربية السعودية وفي الوقت نفسه فإنهم ليسوا في حاجة إلى اختبار حساسية العلاقة مع إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة.
كان التغيير الذي شهدته سوريا جزءا من واقعية سياسية فرضتها سنوات من الفوضى، كان لإيران اليد العليا فيها. أما وقد انتهى دور إيران قوة مهيمنة بعدما تعرضت للقصف الإسرائيلي والضربات الأميركية فإن سوريا تحتاج إلى جدولة أولوياتها في معالجة مشكلاتها التي لن يكون التطبيع واحدة منها.