خطر العجز والتردد الدولي

حالة التشتت والعجز الواضحة في مواقف القوى الكبرى حيال انتهاكات إيران لالتزاماتها الواردة في الاتفاق النووي هي أبرز دليل على عجز الاتفاق ذاته.

ليس هناك وصف ينطبق على ردود أفعال القوى الغربية الكبرى حيال قرار نظام الملالي الإيراني زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم عن النسبة المحددة طبقاً للاتفاق النووي الموقع مع القوى الكبرى عام 2015، سوى العجز، حيث بدت ردود الأفعال جميعها، الأوروبية منها والأميركية، تدور في فلك التعبير عن القلق والتحذير من عواقب هذا الانتهاك الإيراني السافر للاتفاق!

الرئيس ترامب كان أكثر القادة تأدباً مع النظام الإيراني حيث دعاه إلى "توخي الحذر" مشيراً إلى أن إيران تفعل الكثير من الأمور السيئة، وأن تصرفاتها توحي بالسعي لامتك سلام نووي، ولكن "لن يسمح لها أبداً بامتلاكه"، اما وزير خارجيته مايك بومبيو فقد توعد الملالي بمزيد من العقوبات والعزلة الدولية، ودعت بريطانيا إلى إلغاء القرار الإيراني برفع نسبة التخصيب فوراً، ولكنها أعلنت "التزامها الكامل بالاتفاق" (!)، أما فرنسا فقد اتهمت إيران بخرق الاتفاق الموقع معها، فيما حض الاتحاد الأوروبي إيران على وقف أي أعمال تخالف الاتفاق النووي الموقع معها، وقال إنه على تواصل مع الأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق، وقد يؤسس لجنة مشتركة لبحث القضية، وقالت ألمانيا إنها "قلقة للغاية" وحثت إيران على عدم اتخاذ أي خطوات أخرى تعرض الاتفاق للخطر.

هناك نقطتان أساسيتان في ردود الأفعال الغربية أولها أن الجميع يبحث عما "يجب فعله"، وثانيهما أن هناك إصرار لافت على أن هذا الاتفاق لا يزال بخير وأن على نظام الملالي تفادي تعريضه للخطر!

اعتقد جازماً أن حالة التشتت والعجز الواضحة في مواقف القوى الكبرى حيال انتهاكات إيران لالتزاماتها الواردة في الاتفاق النووي هي أبرز دليل على عجز الاتفاق ذاته، وعدم شموله على تدابير فاعلة تضمن التزام جميع الأطراف الموقعة عليه ببنوده.

قد يقول قائل أن الإدارة الأميركية قد انسحبت من الاتفاق ولم تصدر بشأنها أي مواقف أو لم تتخذ ضدها أي تدابير من جانب بقية الأطراف الموقعة على الاتفاق، وهذا صحيح تماماً، ولكن البيت الأبيض انسحب كلياً من الاتفاق ولم ينتهك بنوده، وهذا قرار سيادي لأي دولة، أن تبقي على التزاماتها حيال اتفاق ما أو تنسحب منها كلياً، مع تحمل عواقب هذا الانسحاب وتبعاته الاستراتيجية، فالاتفاقات الدولية ليست قيود مطلقة على سيادة الدولة، بل توقع عليها بمحض إرادتها وطبقاً لمصالحها الاستراتيجية، وما ترتأيه من مواقف ووجهات نظر وترجوه من فوائد وعوائد استراتيجية، وفي المقابل فإن الانسحاب من هذه الاتفاقات هي أيضاً قرارات يتم اتخاذها وفق حسابات مصالح دقيقة، وقد فعلها الرئيس ترامب في اتفاقات دولية أخرى ولم تقتصر على الاتفاق النووي الموقع مع إيران.

الوضع بالنسبة لنظام الملالي يختلف جذرياً، فهذا النظام لم يذهب الانسحاب من الاتفاق او إعلان خروجه منه تماماً، بل يراهن على ابتزاز بقية الموقعين وينتهك اتفاق يفترض أنه وقعه مع مجموعة "5+1" ولا يعني انسحاب طرف منه (الولايات المتحدة) أن يتجاهل إرادة بقية القوى الدولية الموقعة ويستهين بها ويقدم على انتهاك الضوابط والمعايير والشروط الواردة في الاتفاق من جانب واحد بدعوى أن هذه الدول لم تقم بدورها في حماية النظام الإيراني من العقوبات الأميركية!

الاتفاقات الدولية يتم التعامل معها وفق قاعدة take it or leave it وليس بقبول بعض بنودها ورفض الآخر رغم أن التوقيع يعني القبول التام والانسحاب من الاتفاق في المقابل يعني الرفض التام او الجزئي، أما ما يفعله الملالي فهو سلوك انتهازي يبتز المجتمع الدولي، وينطلق من معطيات تقوم على صعوبة اتخاذ هذه الدول قرار شن حرب ضد إيران في التوقيت الراهن في ظل تعقد المعطيات الخاصة بقرار الحرب سواء بسبب حساسية موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، أو خشية القوى الكبرى من اندلاع صراع عسكري في منطقة الخليج العربي بما يعنيه ذلك من تأثيرات سلبية محتملة على أسواق الطاقة، والأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي.

مجمل هذه الحسابات الاستراتيجية المعقدة تبدو مفهومة للمتخصصين والخبراء، ولكن ما يستحق الانتباه إليه جدياً أن حالة التردد والعجز الدولي في مواجهة الابتزاز الإيراني ستسهم في تقويض الأمن والاستقرار وتشجع مارقين جدد على تحدي القانون والمبادئ والمواثيق الدولية، كما تشجع تنظيمات الإرهاب على نشر الفوضى وتوسيع دائرة الفتن والاضطرابات واستغلال حالة السيولة والتشوش التي تسيطر على العقل السياسي الجمعي الدولي، فالحزم والصرامة الدولية لا تعني الحرب بالضرورة، والإشكالية الحقيقية لا تكمن في قرار الحرب والسلام، ولكن في بناء توافق دولي جماعي يُشعر النظام الإيراني بوحدة المجتمع الدولي واصطفافه وراء الحفاظ على الأمن والاستقرار العالمي، فلا أحد يدعو للحرب، التي ندرك جميعاً أنها ستنتهي حتماً بالجلوس إلى مائدة تفاوض، وبالتالي فالأمر الأهم هو إظهار عزم المجتمع الدولي ووحدة الإرادة في مواجهة هذه الانتهاكات.

الكثيرون في العالم يراقبون حالة الملالي وتصرفاتهم، وعلينا أن نتوقع استنساخ تمرد نظام الملالي على القانون الدولي في مناطق أخرى ومن أنظمة تدرس وتترقب ما يحدث في منطقة الخليج العربي، ما يعني أن نظام الأمن الجماعي الدولي بأكمله بات على المحك، ومن المؤسف أن تكون إرادة المجتمع الدولي قد وصلت إلى هذه الحالة من العجز والتردد.