خلطة شريف عرفة الجديدة في 'الجريمة'

المخرج شريف عرفة اعتمد في فيلمه على فكرة الرواية الاسترجاعية وتقنية الراوي وتعدد الأزمان والكوميديا لتعزيز الإثارة، لكن من بين عيوب العمل التركيز الشديد على البطل والايقاع البطيء، وضعف بعض المبررات الدرامية.
شريف عرفة تألق في اختيار أماكن التصوير وخدع التزيين
شريف عرفة صنع في 'الجريمة' خلطة خاصة به

فيلم "الجريمة" الذي ألَّفه وأخرجه المخرج شريف عرفة حاول أن يقيم فيه بناء دراميا متماسكا، وأنْ يُقدِّم فيل ما أساسه الجريمة والإثارة، جوار ملامح من الكوميديا وجوانب من المعاني، جامعا هذه المكونات ليصنع فيلما تجاريا يحصد نجاحا جماهيريا، مع عدم إغفال تقديم فنّ بصريّ. فهل نجح المخرج المصريّ الشهير في تحقيق ما أراد؟
فيلم الجريمة يبدأ برجل عجوز "أحمد عز" يرتمي على سرير في مشفى، ويُعاني الكثير من الكوابيس والأوهام المزعجة التي تملأ حيِّز وعيه. تأتيه زيارة من ابنه الشاب "محمد الشرنوبي". يبدو من مظهر الابن أنَّه ناقم على أبيه، وتخبئ أجواء الحوار بينهما حقدًا مجهول السبب، يبدأ الابن في لوم الأب وسؤاله عن سرّ قتله لأمِّه "منة شلبي".
فيعود الأب بابنه وبنا إلى ذكريات بعيدة، كاشفًا لنا كيف كان ولدا صغيرا قُتلت أمه بسبب سلوكها المتهتِّك وخيانتها لأبيه، وكيف تربَّى في حضن جده "رياض الخولي" بعيدا عن القاهرة، في مدينة القُصير التي تطلُّ على البحر الأحمر.
 وكيف رباه جده على اكتساب القوة، والتيقن من أنها السبيل الوحيد للنجاة في هذه الحياة، ونرى معًا كيف تولَّى أعمال جده بعد موته، وسط منافسة من التجار الآخرين، ونرى تحذير جده له بعدم تكرار مأساة أبيه، والابتعاد عن أية امرأة سيئة السلوك.
لكن "عادل الناضوري" لم يسمع نصيحة جدّه ولم يتَّعظ من ماضي صراع أبيه وأمّه، بل صرح أن التحذير من الزواج بامرأة تشبه أمَّه دفعه دفعًا ليتزوَّج من امرأة تشبهها.
 وقد ذاق عادل مرارة التجربة نفسها التي ذاقها أبوه، حتى امتلأ من رعونات زوجته وقرَّر الانتقام منها، وإبعادها عن ابنه حتى لا يؤثِّر فيه سلوكها السيئ. يُطلعنا الفيلم من لقطاته الأُولى على عادل وهو يُلقي بزوجته من يخته في عرض البحر.
على إثر اختفاء الزوجة وبدء البحث عنها، يدخل في المشهد الضابط "ماجد الكدواني"، الذي قدِمَ لتوه إلى القصير.
 وتبدأ رحلة البحث عن الزوجة والتحقيق في قضية اختفائها مع شكوك تتضاخم حول قتلها من قِبل الزوج. وتكشف التحقيقات عن كثير من الخفايا، فهل قُتلت الزوجة؟ وما مصير أبطالنا جميعًا؟
ما سبق لا يُمثِّل إلا القليل النادر من الفيلم، بل لا يكشف عن بنيته. لكن كان واجبًا تصوُّر ما الذي نتناوله هنا. 
ودعونا نُقرِّر هنا أن فيلمَنا هذا الذي اشترك في كتابة السيناريو والحوار فيه أمين جمال ومحمد محرز مع المخرج فيلم حَكي، لا يتعمد إلا على مبدأ الرواية.
 وقد تمثَّلتْ مهمَّته في سؤال: كيف تحكي حكاية تدور حول جريمة، موضحا فيه خلفيات كثيرة للأحداث والشخصيات، محافظًا على إشعار المشاهد بالإثارة وجاذبًا انتباهه حتى النهاية؟ إجابة هذا السؤال ليست سهلةً أبدا، بل يدور حولها فنّ السينما في تصوُّره المبدئيّ.
ومن الممكن أن يصوغ الصانع السينمائيّ إجابة هذا السؤال على عديد التصوُّرات. فكيف صاغ شريف عرفة إجابته، التي هي نفسها بنية فيلم الجريمة؟ اعتمد الصانع هنا فكرة الرواية الاسترجاعية "فلاش باك"، حيث بدأ الفيلم وانتهى مع تصوُّرات الرجل العجوز الذي تحتشد الأوهام الماضية في ذهنه لتُشكِّل حاضره وفضاءه جميعًا. كما اعتمد على تقنية الراوي -الذي كان البطل، لتعزيز بعض مكامن الإثارة، ولتحفيز توقُّع المشاهد.
ورغم اعتماده على هذه التقنية التي تنقُل لنا صوتًا واحدا يكشف لنا الأحداث ويكون عيننا ووعيَنا في المشاهدة، إلا أنه اعتمد تعدُّد جهات الرأي.
 حيث أرخى لثلاث وجهات من النظر عنان الحديث: وجهة نظر الزوج، والزوجة، والمحقِّق. كما اعتمد أيضًا على التواءتَيْنِ للحبكة الأُولى منهما هي مصير الزوجة، والثانية دور الابن في النهاية.
كما اعتمد أيضا على تعدد الأزمان في تقديم سرده: الأوَّل هو زمننا الحاضر -وهو زمن البدء، وكذلك زمن لحظات الكشف الدراميّ- وبطلنا قد صار عجوزًا لا يملك إلا الدفاع عن نفسه في القضية التي تسيطر على حياته، وتصنع وعيه ولا وعيه. 
والزمن الثاني -وهو الزمن الرئيس والأطول عرضًا على الشريط- في السبعينيات من القرن الماضي، ما بين 74 و77 فيما يبدو. والزمن الثالث -وهو زمن تأسيس خلفيات الأحداث والشخوص- وهو زمن الخمسينيات حينما كان عادل الناضوري يعيش مع جده ويتلقَّى تعاليمه. ورغم تعدُّد الزمن في السردية إلا أن الصانع استطاع أنْ يسيطر على السرد، فجاء مفهوما ومتسقا بعضه مع بعض.
ونلحظ كذلك في البناء الفيلميّ أن شريف عرفة أراد أنْ يرفد شريطه السينمائيّ الطويل نسبيا بملامح من الكوميديا، والتي صنعها من خلال شخصيتَيْنِ: الأولى هي شخصية الضابط "ماجد الكدواني" الذي حافظ شريف في تكوينه على ملازمته للكوميديا في جميع مشاهده -جميعها بمعنى جميعها إلا مشهدا أخيرًا-، وحافظ الممثل البارع في أدائه على الاحتفاظ بهذا الإمداد الكوميديّ للجو العامّ -حتى إنْ أثَّر على شكل وظيفة الضابط الاعتيادية-. 
والشخصية الأخرى هي شخصية مساعده "وليد أبو المعاطي" الذي أدَّى دور الشخصية المتطفِّلة الثرثارة بجودة وإتقان.
هذا البناء وتقنياته التي اعتمدها الصانع أعابها طول الشريط بعض الشيء، حيث ساعتان وربع الساعة من الحفاظ على الإثارة أمر مرهِق بالقطع. كما أعابها الأداء البطيء لإيقاع الفيلم، وضعف بعض المبرِّرات الدرامية. 
كما أعاب خطَّ السير الدراميّ التركيز الشديد على البطل وروايته، وتهميش دور الزوجة وتأخير روايتها إلى أكثر من ساعة فيلمية، كما جاءت مشاهدها مقتضبةً إلى حد بعيد، رغم مركزية دورها الذي يُمثِّل محرِّك الدراما وتحقيق الدافع الدراميّ للحكاية كلّها التي نراها أمامنا. حتى إذا جاءت روايتها قدمت في شكل اعتراف مسرحي، صاحبتها إضاءة مسرحية فعلًا من نقطة ضوء موجَّهة من مكان بعيد بحدِّة.
ومن الأشياء التي تعيب بناء الفيلم حفاظ شريف عرفة الدائم على صورة الضابط، والغريب أنْ يُحافظ على صورة الضابط الحاليّ في زمن مرَّ من قرابة خمسين عاما.
 وإنِّي لأعجب كيف تسنى للأستاذ ان يُلقِّب الضابط بهذا اللقب الذي يُناديه به العامة والغوغاء الآن "باشا"؟! في زمن كان يسمى فيه بحضرة الضابط، بل غلبت عليه فيه صفته الأصيلة "موظَّف في الدولة". ولم يكُن هذا غريبًا على عرفة، فقد فعل هذا من قبل في فيلم "الممرّ".
وقد بثَّ بناء الفيلم في مشاهديه معاني قد ساعدتْ على تقوية البناء العامّ. دار غالبها على مبدأ القوة الذي لقَّنه الجد لحفيده البطل، والتعلم من المحنة وهي طريقة الجدّ في تعليم حفيده، ومن جانب الزوجة عرض لنا الفيلم مسألة أن بعض الناس مجبول على سوء الخُلُق، وطبيعة الشرّ في الجنس البشريّ -رغم الاختلاف مع هذه الفكرة، وفي جانب المحقِّق جاء الجانب المقابل لصراع البطلَيْن في تلقين أمّ الضابط له، وظهور مبدأ الخيرية فيه. ثمَّ انتهى الفيلم بقول: "الحقيقة ليست ما يراه الآخرون بعيونهم، بل ما نراها بقلوبنا".
ولا شكَّ شهد الفيلم جهدا واضحًا وبارزًا للممثل أحمد عز في إتقان دورَيْهِ: البطل في الشباب، وفي الشيخوخة. ولعلَّه أحد أفضل أداءاته على الإطلاق. 
كما برز وكان مؤثرا في أداء دور الجد المهيب الممثل البارع رياض الخولي، ولعلَّ الفيلم قد ظلم منة شلبي حيث لم يُعطها المساحة الكافية لأداء تمثيليّ، وماجد الكدواني هو الممثل شديد البراعة فيما يؤديه، شديد العمق في تفاصيله.
 كما قام الممثل نبيل عيسى بدور بارع، كذا محمد جمعة. الجانب التمثيليّ عمو ما لا غبار عليه في فيلمنا.
وقد سمح لنا الفيلم برؤية لقطات متَّزنة واضحة سليمة من أداء شريف عرفة المعروف، كما برز في اختيار أماكن التصوير المناسبة، ومن اختيارات خدع التزيين "المكياج" في تجاعيد الزمن على وجهَيْ أحمد عز وماجد الكدواني. 
وإنْ ظهرت بعضٌ من ملامح تأثير بطل العصابات الأميركية على رجل عربي مصري سلك نهج الجريمة في سبعينيات القرن الماضي في طريقة تصفيف الشَّعر للبطل، وهيئة تصوير خروجه من منزله.
وهناك جانب من بناء الفيلم، في الحقيقة ينتسب إلى الإخراج أشدّ من انتسابه للتأليف، وهو مشاهد الأوهام والضلالات الكثيرة التي شاعت في جسد الفيلم. 
ولعلها من أبرز ما قدَّم المخرج صبغته فيها، ليس في اختيار هيئات الوجوه وتغييرات خدع الزينة المضافة عليها، بل بطريقة أدائها بصريا، وتحريك الكاميرا فيها. وقد أضاف نحاجها للفيلم نكهة، وتنويعًا للمشاهد، حيث أضفتْ جوًّا من التشويق الذي يصل إلى درجات من الرعب الخفيف. وهو من ملامح الفيلم البنائية التي أخَّرتُها لدخولها تحت تأثير الإخراج بشدة.
وهنا لا بد من التنويه بأداء مدير التصوير "عبد السلام موسى" الذي كانت له اختيارات ضوئية مميزة، استطاع أن ينير مشاهده ببراعة، رغم أن الضوء لا يتبع واقعية المشاهد، بل هو تابع للموجة الجديدة في الإنارة التي تعتمد الإبهار الضوئيّ هدفًا، والإشباع الضوئي واللونيّ منهجًا.
 ونرى في الفيلم نماذج من إضاءات وألوان فيلم "جوكر" 2019 الأخير بصبغته اللونية المكونة من الأخضر والأصفر.ولم يقل عنه براعةً أمين بوحافة في صياغته لموسيقاه الفيلمية.
لقد استطاع شريف عرفة أنْ يصنع في فيلم "الجريمة" خلطةً خاصَّةً به، بعد تخلُّصه من دور المؤلف وتوحيد صناعته للفيلم. وقدَّم لنا فيلما جيدا يستحقُّ المشاهدة، ظهر أثر الاجتهاد فيه على كامل جانبه، رغم عيوب لا بُدَّ منها في أيّ عمل مهما بلغتْ براعتُه.