د.حمود العودي يؤصّل 'النظام الاتحادي في اليمن'
يرى المفكر اليمني د.حمود العودي أن الفيدرالية اليوم ليست فقط مجرد مطلب سياسي حديث للعدالة والمواطنة المتساوية أو مجرد شعار وتجربة مستوردة من الشرق أو الغرب بالنسبة لليمن كما قد يطيب للبعض توصيفها جهلاً بحسن نية أو بدونها، بقدر ما هي تمثل العودة إلى الأصل الحضاري والتاريخ العميق للشراكة المتوازنة بين المركز والأطراف والذي اقتضته ظروف الزمان والمكان في كل مراحل الاستقرار والتوحد والازدهار في اليمن كما سبق وأن أوضحنا، بقدر ما هي كذلك عملية تمثل لكل متغيرات العصر ومقتضياته على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، فاللامركزية أو الفيدرالية ونظام الأقاليم بالنسبة لليمن هي أصل حضاري وهوية طبيعية واجتماعية للمكان والإنسان بقدر ما هي خيار الحداثة الأفضل في قرية عالم اليوم الكبيرة الصغيرة.
ويقول في كتابه "النظام الاتحادي في اليمن.. طريق بناء الدولة المدنية الحديثة" الصادر أخيرا عن مؤسسة أروقة أنه قد "ينظر إلى مفهوم الديمقراطية باعتباره مفهوما وخيارا سياسيا جديدا قادما من الخارج وتبنيه في الداخل اليمني باعتباره النموذج السياسي الأفضل لتحقيق مبدأ الشراكة المجتمعية الحقة في السلطة والثروة أكثر من غيره، غير أن هذا الفهم بالنسبة لليمن على الأقل يعد قاصرًا جدًّا ومنقطعًا عن السياق الاجتماعي والتاريخي العميق لهذا المجتمع الذي يتضمن في تكوينه الاجتماعي الحضاري والثقافي ما لا يعزز مثل هذا المفهوم فحسب، بل ويؤكده كأصل من أصول الوجود الاجتماعي للمجتمع اليمني وأحد مرتكزات هويته الحضارية والثقافية الضاربة في عمق الزمن والمستمدة من طبيعة العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان في هذه المساحة من الأرض التي عرفت باليمن وعرف اليمن بها.
ويشير إلى أنه بصرف النظر عن المصطلحات والمسميات اللفظية لعبارة "فيدرالية أو اتحادية" في الحاضر مقابل أقاليم أو مخاليف أو محافد في الماضي البعيد والقريب كان يقوم عليها نظام الدولة الوطنية الموحدة للأرض والإنسان والهوية والثقافة والحضارة على أساس معادلة الشراكة بين المركز والأطراف في السلطة والثروة والرأي والرأي الآخر في السياسة واتخاذ القرار، وبمصداقية وحجية قول الخالق عز وجل على لسان ملكة سبأ "قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون، قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِين، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُون".كما أن الإخلال بهذه المعادلة بطغيان المركز على الأطراف وإلغاء الشراكة أو طغيان الأطراف على المركز ومحاولة إلغاء مفهوم الدولة والوحدة الوطنية بحثًا عن مشاريع التمزيق الصغيرة للقبلية أو الطائفية والمناطقية والإقطاعية هو ما لا يقوى أي من الطرفين على الانتصار لصالحه فحسب بل ويفضي إلى دمار وخراب كليهما معًا، وبمصداقية وحجة قول الخالق عز وجل أيضًا "لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيل". بدءًا من جنة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وحتى جنة سبأ التي استحالت إلى خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
ويوضح العودي "هكذا نلاحظ بوضوح يقيني لا يقبل الشك بأن تاريخ اليمن السياسي والاجتماعي الذي يتكون من عمليات مد وجزر لحقب ومراحل من المد والجزر، حقب ومراحل من مد الأمن والاستقرار والتوافق والازدهار الحضاري لواحدة من أبهى حضارات التاريخ البشري بل ومصدره الأول، وحقب ومراحل أخرى من جزر الانهيار والتفكك والتخلف والخراب، وكيف أن كل حقب مراحل الاستقرار والتوحد والازدهار قد اقترنت دومًا بفهم واحترام معادلة الشراكة والتوازن بين المركز والأطراف كشرط موضوعي لا غنى عنه، وكيف أن كل حقب ومراحل الانهيار والتفكك والخراب قد اقترنت دومًا بالإخلال بهذه المعادلة بطغيان المراكز على الأطراف أو طغيان الأطراف على المركز".
يتناول العودي في كتابه أبعاد ومفاهيم النظم الفيدرالية أو اللامركزية أو الاتحادية أو الإدارة الذاتية والكنفودرالية أو نظام الأقاليم، في تجارب العالم المعاصر من جهة وفي التاريخ السياسي والوطني والاجتماعي والحضاري لليمن كتأصيل لهوية حضارية توجبها ظروف الزمان والمكان وعلاقته بالإنسان وليس مجرد خيارات سياسية وأيديولوجية يمكن الأخذ بها أو تركها بقدر ما أنها قد كانت ولم تزل بالنسبة لليمن هي الخيارات الضرورية والموضوعية التي لا يمكن بدونها توفير إدارة أفضل لموارد أقل بجهد أكبر وتحقيق فائض اجتماعي واقتصادي يضمن استقرار وازدهار حضاري أكبر، كما يركز على تحليل المشهد الوطني اليمني الراهن بين توازن الاستقرار ومخاطر الاختلال والدمار من جهة ثالثة.
ويرى أنه في ضوء التسليم بيقين كل تلك الحقائق التاريخية والاجتماعية الماثلة في الماضي والحاضر والأكثر تجليًّا في المشهد الوطني والسياسي والاجتماعي الراهن فيما يتعلق بالجدل المجتمعي المحتدم بين طموح المشروع الوطني القومي التوحيدي المحقق للأمن والاستقرار والازدهار والمشروط بالتمسك بالثوابت الوطنية المكتسبة في الثورة والجمهورية والوحدة وتحقيق الشراكة السياسية والاجتماعية الحقة في السلطة والثروة من خلال بناء الدولة المدنية الإتحادية الحديثة المنشودة، وبين أصوات المشاريع الصغيرة للتفتيت والتمزيق المتعالية أكثر من أي وقت مضى للطائفية والمناطقية والسلالية والقبلية المتخلفة أو المرتهنة لأجندات سياسية خارجية معادية لوحدة وسيادة الوطن وأمنه واستقراره وطامعة في إذلاله وامتهان كرامته وسيادته الوطنية في الماضي والحاضر، وعبر أصحاب مثل هذه المشاريع الصغيرة وبوعي منهم أو بدونه وبحسن نية أو بغيرها، ناهيك عن الكثيرين من ضحايا الوعي المزيف وتعبئة ثقافة الكراهية والعنف والإرهاب والذين لا ناقة لهم فيه ولا جمل إلا باعتبارهم وقودًا للقلة المنتفعة بدمائهم والتي لا يعنيها شيء أكثر من المال الحرام المنهوب من الداخل أو القذر والملوث القادم من الخارج على حساب وحدة وكرامة واستقرار وأمن الوطن وسيادته.وانحيازًا لمشروع الوطن ودعوة صادقة للمخدوعين بأوهام المشاريع الصغيرة لمراجعة ما هم فيه وفي ضوء كل ما سبق من حقائق التاريخ والواقع نطرح مشروع أسس وحيثيات تخطيط وإدارة يمن المستقبل الاتحادي الفيدرالي الموحد والمزدهر وعلى مدى المائة سنة القادمة على الأقل، وبالاستناد إلى الإجماع الوطني التاريخي لمخرجات مؤتمر الحوار ومقرراته والمعززة بإجماع دولي وإقليمي غير مسبوق.
ويتابع إنه بالنظر إلى كل ما قد عاناه الوطن من مساوئ المركزية وطغيانها على الأطراف من جهة ورفض هذه الأطراف لهذه المركزة بالطرق المباشرة وغير المباشرة بدءًا بالإهمال واللامبالاة وانتهاء بالفساد والتمرد وهدم كيان الدولة والمجتمع، فلا مركزية نجحت ولا مناطقية أفلحت بل الكل مهزوم ولا منتصر إلا الشر والخراب طبقًا لمعادلة التوازن والاختلال بين المركز والأطراف التي يحتكم إليها اليمن أرضًا وإنسانًا عبر التاريخ كمنطقة لا تنتج إلا فائض أقل بجهد أكبر وتقتضي بالضرورة وجود اجتماعي يقوم على مبدأ مساواة وشراكة أكثر واستبداد أقل بالضرورة بين المركز والأطراف، وأن الإخلال بهذه المعادلة من جانب المجتمع في اتجاه طغيان المركز على الأطراف أو العكس لن ينتهي إلا بخراب الاثنين معًا، كما سبق وأن حللنا تفصيلاً الأبعاد والوقائع التاريخية لهذه المعادلة.
ويؤكد إن مطلب النظام الاتحادي الماثل اليوم على كل المستويات السياسية والاجتماعية ما هو إلا عودة إلى الأصل للاحتكام لمعادلة التوازن والشراكة الحقيقة في السلطة والثروة كضامن تاريخي وحيد للأمن والاستقرار والوحدة والازدهار، بعد أن ألحقت بنا الاختلالات بل والانهيارات المتتالية بسبب طغيان المركز على الأطراف أو العكس ما لا يحد من الخراب والدمار والأذى والبلاء على مدى العقود الماضية شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا ووسطًا على السواء، وإذا كنا في غنى عن تكرار الحديث عما نحن فيه من مساوئ وكوارث الاختلال السابقة والماثلة حتى الآن، فإن التركيز على مزايا التوازن من خلال النظام الاتحادي المشار إليه سلفًا هو الأجدر بالاهتمام كهدف مستقبلي عاجل وملح طبقًا لمقررات ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
ويلفت إلى أن من بين مزايا الفيدرالية الاتحادية بالنسبة للسلطة المركزية.
أولا تفرغ الحكومة الاتحادية للقضايا الإستراتيجية: أول هذه المزايا أن الحكومة المركزية ستتفرغ بكامل طاقتها للقضايا الإستراتيجية والبعيدة المدى، بدءًا بحماية وتعزيز السيادة الوطنية والدفاع والأمن القومي والسياسة الخارجية، مرورًا بحماية واستثمار وتشغيل الموارد الاقتصادية السيادية وممارسة التشريع والتخطيط الاستراتيجي العام بعيد المدى، وانتهاء بتنسيق العلاقة والمصالح المشتركة بين الأقاليم، بدلا من ضياع الجهود والإمكانيات المحدودة في متاهات الشؤون اليومية للناس على امتداد الدولة والمجتمع من نقطة ارتكاز واحدة أو فردًا واحدًا في العاصمة، وفي سياق من الروتين والبيروقراطية والشخصنة المدمرة، والتي لا ينجم عنها إلا ضياع الحقوق والواجبات معًا ناهيك عن ترعرع الفساد والمفسدين في المركز والأطراف على السواء.
ثانيا إيجاد حكومة أكثر احترامًا أمام الشعب والعالم: إن الحكومة الفيدرالية المركزية في مثل هذه الحالة ستكون أكثر احتراما وتقديرا وديمقراطية أمام الشعب والعالم كله، باعتبارها تمثل دولة مدنية متطورة تؤمن وتطبق مبدأ العدالة الحقة في الشراكة الفعلية في السلطة والثروة، بل وأكثر قوة وثباتًا في انتمائها للوطن وانتماء الوطن لها وقدرة على حماية وحدته وسلامة أراضيه وسيادته الوطنية واستدامة أمنه واستقراره وازدهاره.
ثالثا البعد عن مظاهر الصراع والاستئثار بالسلطة والثروة: إن حكومة فيدرالية ديمقراطية من هذا القبيل في يمن فيدرالي ديمقراطي موحد من شأنها أن تصبح في منأى تام وإلى أبعد حد ممكن عن مظاهر الصراع والظلم والاستغلال والفساد ونزوات الهيمنة المناطقية أو الطائفية أو القبلية أو العسكرية أو العائلية والشخصية المتخلفة، لأن كل الأسباب المولدة لمثل هذه المخلفات المتخلفة سوف لن يعود لها مكان ولا مبرر في مجتمع اللامركزية والشراكة الحقة في السلطة والثروة وسيادة القانون والمواطنة المتساوية والحقوق والحريات المكفولة بالتساوي لكل الناس بقوة الدستور والقانون والتوزيع العادل للسلطة والثروة، وتتحول فيها الوظيفة العامة من القمة إلى القاعدة من إدعاء الحق الإلهي غير المشروع أو اغتصابه بالقوة والوراثة ؛إلى واجب الوظيفة تحت الرقابة والمسائلة.
ويضيف العودي "يخطئ كثيرًا كل من يظن أو يتوهم بأن نظام الأقاليم الفيدرالية في إطار اتحادي ديمقراطي موحد هو تهديد للوحدة الوطنية والذهاب إلى التمفصل للقبلية والطائفية والمذهبية والمناطقية المتخلفة والمقيتة الواجب رفضها وتجاوزها في ظل النظام الفيدرالي والدولة الاتحادية المدنية المنشودة، لأن منطق وواقع ومكان وزمان الألفية الثالثة لا يوجب بالضرورة الحتمية ترابط وتكامل خمسة أو ستة أقاليم فيدرالية في بلد صغير نسبيا كاليمن بحكم المزايا الاقتصادية الرئيسية لكل إقليم ما بين زراعية وسياحية وتجارية وصناعية وتعدينية كما سبق وأن أوضحنا في فصل سابق من هذه الدراسات فحسب بل واستحالة قدرة أي إقليم على الاستغناء عن غيره من الأقاليم الأخرى في تقديم مزاياه لغيره والاستفادة من مزايا الغير، إلا من لا يزال يتوهم العودة إلى عزلة يمن "أحمد يا جناه" أو يستطيع عبثًا إغلاق شبكات حدود البر والبحر والفضاء، بل الأهم والأكبر من ذلك أن العالم الكبير قديمًا قد أصبح قرية صغيرة شديدة الترابط حديثًا، العالم القرية الذي تتراجع فيه اليوم هوية الدول الكبرى ناهيك عن الصغرى، والعاقل الذكي والناجح اليوم هو من يبحث عن دوره ومصلحته مع غيره وطنيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، أما من لا يقوى على فهم ذلك تحت أوهام المشاريع الصغيرة فما عليه إلا أن يقبل بما يفرضه عليه الآخرون أو يتعفن في مكانه، لأن مجموع المصالح الموضوعية والاقتصادية والثقافية المشتركة تتجاوز اليوم أوهام المصالح السياسية المنغلقة على كل المستويات، فما بالنا بخزعبلات وتفاهات القبلية والطائفية والمناطقية، بدءًا من المهدي المنتظر وغير المنتظر مرورًا بالبطنين والنهدين وحتى فك الارتباط!!
ويشدد على أن الفيدرالية اليوم ليست فقط مجرد مطلب سياسي حديث للعدالة والمواطنة المتساوية أو مجرد شعار وتجربة مستوردة من الشرق أو الغرب بالنسبة لنا في اليمن كما قد يطيب للبعض توصيفها جهلاً بحسن نية أو بدونها، بقدر ما هي تمثل العودة إلى الأصل الحضاري والتاريخ العميق للشراكة المتوازنة بين المركز والأطراف والذي اقتضته ظروف الزمان والمكان في كل مراحل الاستقرار والتوحد والازدهار في اليمن كما سبق وأن أوضحنا، بقدر ما هي كذلك عملية تمثل لكل متغيرات العصر ومقتضياته على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، فاللامركزية أو الفيدرالية ونظام الأقاليم بالنسبة لليمن هي أصل حضاري وهوية طبيعية واجتماعية للمكان والإنسان بقدر ما هي خيار الحداثة الأفضل في قرية عالم اليوم الكبيرة الصغيرة.